بقلم: د. سليمان عبد المنعم
لنوضح ابتداء أن مفهوم استقلال الجامعة لا ينبغي فهمه علي أنه خروج عن إطار التنظيم الحكومي المؤسسي للتعليم الجامعي,
وهو لا يعني من باب أولي أي نوع من أنواع الخصخصة, أو الالتفاف علي مبدأ مجانية التعليم.. استقلال الجامعة ليس هو الفوضي, بل لعله يعني في تطبيقه الأمثل المزيد من المساءلة لأن هذا الاستقلال فيما يمنحه من سلطات أو صلاحيات يوجب المساءلة عن ممارستها, وهذا بخلاف الوضع القائم الذي تختفي فيه المساءلة الحقيقية لأنه لا يوجد استقلال حقيقي.
من هنا يبدو استقلال الجامعة شرطا لتطوير التعليم الجامعي في بعديه المؤسسي والفني, وهو تطوير لم تستطع أن توفي به الكثير من المبادرات( التصريحات) التي تهب موسميا مع قدوم كل وزير. ربما يكون لدينا' محاولات' لتطوير التعليم الجامعي لكنها غامضة ومرتبكة ينقصها الشمول ووضوح الرؤية, ثم إنها تدور حول حول المشكلات دون أن تحاول النفاذ إليها. وأنا هنا أتحدث عن ما هو مطبق بالفعل وليس عن السياسات والدراسات التي أعدت لتطوير التعليم. وعلي أية حال فلنحتكم إلي مقارنة بسيطة بين الدور التنويري الذي كانت تضطلع به الجامعة المصرية ونوعية التعليم الذي كانت تقدمه في المجتمع بما عليه الحال الآن. سنكتشف أن الجامعة كانت تتمتع في السنوات الأخيرة السابقة علي ثورة1952 بقدر من الاستقلال والحيوية والدور بأكثر مما تحظي الآن.
وهناك تفصيلات كثيرة وتطبيقات شتي لمفهوم استقلال الجامعة. لكن ربما أمكننا إيجاز المظاهر الأساسية لهذا الاستقلال فيما يلي:
1-إتباع منهج اللامركزية الأكاديمية.2- ربط كل جامعة بمجتمعها المحلي.3- اختيار الادارة الجامعية بطريق الانتخاب أو بأسلوب يجمع بين الانتخـاب واســـتيفاء شـــروط جدارة معينة.4- استقلالية التمويل.5- تعزيز الحريات الأكاديمية.6- إرساء مبدأ المساءلة.
لكن الأخذ بهذه العناصر الستة لاستقلال الجامعة يجب أن يكون في إطار في رؤية وطنية واحدة ومتناغمة, وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا في وجود مجلس وطني للتعليم يضع رؤية متكاملة ومتسقة تضم التعليم الجامعي والتعليم ما قبل الجامعي, بالإضافة إلي الوزارات والجهات الأخري المعنية حاليا بقضية التعليم وتقاطعها مع قضايا مجتمعية أخري مثل البطالة ومتطلبات سوق العمل. ولو أننا توقفنا عند كل عنصر من هذه العناصر الستة السابقة لاكتشفنا أن غياب هذا العنصر أو ذاك هو اليوم وبدون مبالغة احد أسباب تراجع منظومة التعليم العالي عن أداء مثلث الرسالة والدور والوظيفة.
فالعنصر الأول الخاص باتباع اللامركزية الأكاديمية يضمن أن يكون لكل كلية أن تواكب عاما بعام حركة التطور العلمي والتغيرات المجتمعية باستحداث مقررات ومناهج تعليمية جديدة أو تعديل منظومة المقررات القائمة من دون حاجة إلي دورات عرض واستعراض بيروقراطية وضرورة استصدار موافقات مركزية قد تطول حلقاتها وإجراءاتها لوقت طويل. لقد تطلب الأمر مثلا الانتظار خمسة وعشرين عاما لكي تتمكن إحدي كليات الحقوق من تحديث مقرراتها واستحداث مقرر جديد يواكب حركة التطور القانوني في أحد المجالات. وكان يمكن في ظل استقلالية جامعية أن يتاح لكل كلية سرعة أكبر في تحديث مقرراتها ومناهجها بعيدا عن بطء ومركزية عمل ما يعرف بلجان القطاعات التي لا بد من الحصول علي موافقتها أولا.
أما العنصر الثاني الخاص بربط الجامعة بمجتمعها المحلي فهو ضرورة أخري لاستقلال الجامعة. ولهذا العنصر مظاهر وتطبيقات شتي من بينها إتاحة التواصل بين الجامعة والمجتمع المحلي وخلق أطر وآليات هذا التواصل, وهو ما يبدو مفتقدا إلي حد بعيد في الجامعة اليوم. فالفعاليات الاقتصادية والاجتماعية غائبة أو ضعيفة التمثيل في مجالس التعليم العالي ومجالس الجامعات. ومن الممكن توظيف دور هذه الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية لخدمة أهداف تعليمية ومشروعات جامعية, وهو أمر مأخوذ به في معظم جامعات العالم ومجالسها التعليمية. بل إن دولا عربية مثل الأردن والمغرب تعرف مثل هذا النوع من تمثيل الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية في المجالس الجامعية. فمجلس التعليم العالي في الأردن يضم أربعة ممثلين للقطاع الخاص في مجالاته الإنتاجية والخدمية الرئيسة. وفي المغرب يوجد تمثيل للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية في اللجنة الوطنية للتنسيق العالمي. بل إن مجلس الجامعات الحكومية في المغرب يضم سبعة ممثلين عن القطاعات الاقتصادية والاجتماعية من بينهم رؤساء الغرف المهنية. أما في مصر فالمجلس الأعلي للجامعات يشكل من رؤساء الجامعات وخمسة أعضاء من ذوي الخبرة في شؤون التعليم الجامعي. وهكذا يمضي الحال أيضا في مجالس الجامعات الحكومية.
وبصرف النظر عن الاختلاف حول الأشكال والآليات الأكثر ملاءمة لتحقيق التواصل بين الجامعة ومجتمعها المحلي فإن المؤكد أن مبدأ التواصل ذاته أيا كان شكله أو آليته لا يمكن تحقيقه من دون إرساء مفهوم استقلال الجامعة. أما الوجه الآخر لتحقيق هذا الاستقلال الذي يدعم في الوقت نفسه دور الجامعة في مجتمعها المحلي فهو التواصل مع سوق العمل. والمقصود هو إيضاح أن مفهوم استقلال الجامعة يمكن أن يحقق تواصلا إيجابيا ومطلوبا مع سوق العمل. فهذا الاستقلال الذي تتمتع به كلية جامعية ما هو ما يتيح لها مثلا أن تبرم عقودا واتفاقيات مع مؤسسات وشركات لكي يتابع العاملون فيها دروسا إضافية في الجامعة أو لتدريب الطلاب الجامعيين أنفسهم في هذه المؤسسات والشركات أو لقيام أساتذة هذه الكلية بأعمال استشارية أو بحوث تطبيقية. وهذه كلها اليوم أدوار غائبة أو ضعيفة. إن استقلال الجامعة في تواصلها مع مجتمعها المحلي المحيط بها لن يخلو من نتائج إيجابية أخري تتيح للجامعة أن تتجاوز أسوارها وتخرج من أبراجها العاجية لتتعرف علي الواقع وربما تستفيد من نظم ومعايير مهنية ناجحة في مثل هذه المؤسسات والشركات. ولعل مثل هذه الاستقلالية هي التي مكنت الكثير من الجامعات الناجحة في العالم من أن تحتضن مراكز أبحاث لشركة نوكيا العالمية للهواتف المحمولة ولغيرها من الشركات العالمية الكبري. قد تبدو المقارنة بيننا وبين الآخرين صعبة.. لكن ليس أقل من محاولة محاكاة التجارب الناجحة في العالم.. مجرد المحاولة!!
solimanabdulmonaim@hotmail
المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش