بقلم: د. محمد السعيد إدريس
منذ أسابيع قليلة تعرضت عميدة الصحفيين الأمريكيين السيدة هيلين توماس لحملة دعائية هائلة عندما حسمت أمرها وتجرأت علي أن تنطق بما تراه صحيحا في لحظة صدق نادرة مع النفس وتعلن علي الملأ محصلة خبرتها الطويلة مع الصراع العربي الإسرائيلي.
وتقول ان الإسرائيليين محتلون وعليهم الخروج من فلسطين والعودة إلي أوطانهم. وعندما سئلت ما هي أوطانهم أجابت بولندا وألمانيا والولايات المتحدة, وكل مكان آخر, بعدها مباشرة تحولت من كانت تسمي بـ رمز افتخار الصحافة الأمريكية إلي شيطانة, وتعرضت لحملة عنيفة من القتل المعنوي شارك فيها, بكل أسف, المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت جيتس الذي وصف تصريحات السيدة توماس بأنها مسيئة وتستحق التوبيخ.
ما تعرضت له السيدة توماس تعرض له كل من تجرأ علي نقد إسرائيل والتعرض للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية التي توصف بأنها علاقات فريدة واستثنائية دون تمييز, حتي ولو كان المتحدث هو شخصا بحجم الرئيس الأمريكي, وحتي ولو كانت الأقوال لا تخرج عن كونها مجرد نصائح تخدم المصالح الإسرائيلية علي نحو ما تعرض له مؤخرا الرئيس الأمريكي باراك أوباما علي أيدي أمريكيين وإسرائيليين من سياسيين, إلي مفكرين إلي كتاب وصحفيين لا لشئ إلا لرفضه سياسة التوسع الاستيطاني الإسرائيلية ومطالبته بإقامة دولة فلسطينية ضمن خيار حل الدولتين من منظور المصالح الإسرائيلية نفسها ومن منظور الحرص علي هذه المصالح.
فالرئيس الأمريكي يواجه حملة انتقادات مكثفة لشخصه وسياساته من المنظمات المؤيدة لإسرائيل, وهي الحملة التي نجحت في الوصول بشعبية أوباما إلي أدني مستوياتها منذ تولي منصبه, إذ بلغت نسبة التأييد لأوباما45% وفقا لاستطلاع للرأي أجرته صحيفة وول ستريت جورنال وشبكة تليفزيون ان بي سي نيوز في الشهر الماضي واعتبروا أن ذلك يعبر عن تراجع ثقة الأمريكيين في قيادته.
أحد نماذج هذه الحملة ما كتبته كاثلين باركر في مقال نشرته في صحيفة واشنطن بوست الأمريكية وانتقدت فيه ما وصفته بـ السياسة الناعمة للرئيس الأمريكي باراك أوباما في محاولاته مواجهة الأزمات, وقالت إذا كان الرئيس الأسبق بيل كلينتون يوصف بأنه أول رئيس أسود لأنه كان يستخدم الكثير من المفردات والعبارات التي يستخدمها السود, وأن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون توصف بأنها تتصرف كالرجال في إدارتها للأزمات, وأنها تتصرف كأنها محام أو بشكل أوضح وكأنها رجل, فإن القبول والتسليم بهذه التوصيفات يسمح بالقول ان الرئيس أوباما يتصرف بنعومة أقرب إلي الأنوثة. وفي محاولة لتوضيح ما تريد أن تقوله كتبت أنها لا تقصد أن تنعت رئيس بلادها بكونه أقرب إلي النعومة الأنثوية في تصرفاته إزاء مواجهة الأزمات, ولكنه يبدو وكأنه يعاني نقصا في الهرمونات الذكورية عندما يتعلق الأمر بخطاباته بشكل عام.
هذا التجريح المتعمد لشخص الرئيس الأمريكي يأتي ضمن حملة النيل من قدرته علي إدارة البلاد والتشكيك في هذه القدرات, ومن ثم رفض اجتهاداته وسياساته. الهجوم علي الرئيس الأمريكي من جانب مسئولين إسرائيليين ومنظمات وهيئات موالية لإسرائيل في الولايات المتحدة يبدو أنه جاء هذه المرة في وقت غير مناسب أمريكيا وأدركه السفير الإسرائيلي في واشنطن مايكل مورين الذي التقي الأسبوع الماضي بمسئولين كبار في الخارجية الإسرائيلية ضمن إجراءات الإعداد لزيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نيتانياهو للولايات المتحدة ولقائه المنتظر اليوم الثلاثاء أو غدا, مع الرئيس الأمريكي.
فقد حذر السفير مورين من وجود تصدع غير مسبوق في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل, وأن هذه العلاقات مرت بشرخ حقيقي مثل الذي يحدث في قشرة الكرة الأرضية, وبمستوي تحرك قارات, ونوه إلي أن مهمة نيتانياهو في الولايات المتحدة هذه المرة شديدة الخطورة, ولأهمية الخطورة, من منظور إدراكه لوجود وعي استراتيجي أمريكي جديد أخذ في التصاعد يطالب بمراجعة أسس العلاقات التي تربط الولايات المتحدة وإسرائيل علي قاعدة المصالح الأمريكية وموقع إسرائيل من هذه المصالح, ومن هنا جاءت سرعة رد السفير مورين علي ما جاء علي لسان الجنرال مايكل بترايوس القائد الجديد للقوات الأمريكية في أفغانستان وقت أن كان قائدا للقوات المركزية الأمريكية.
ما جاء علي لسان بترايوس كان جرس إنذار بالخطر القادم في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية, حيث اعتبر أن إسرائيل باتت تشكل عبئا علي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط من منظور تقييمه للعقبات التي تثيرها إسرائيل وسياساتها للمصالح الأمريكية وللجنود الأمريكيين( العراق وأفغانستان نموذجا). وقتها جاء رد السفير الإسرائيلي سريعا ومدافعا عن الأدوار والخدمات التي تدافع بها إسرائيل عن المصالح الأمريكية وأنها زودت المخابرات والجيش الأمريكي بمعلومات استخباراتية وإرشادية تؤدي إلي حماية أرواح الجنود الأمريكيين في مختلف أنحاء العالم.
مشكلة إسرائيل في تآكل قيمتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة أن ذلك يحدث لأسباب وعوامل ليس لإسرائيل أو حتي للولايات المتحدة دخل فيها, فهي ترجع إلي تغير الأدوار الأمريكية وتراجع التفوق الأمريكي في توازن القوي العالمية, ومن ثم تدني قيمة الخدمات التي كانت تقوم بها إسرائيل للولايات المتحدة سابقا, ولعل هذا ما جعل افرايم هاليفي رئيس الموساد الأسبق يهتم بعناية بكتاب الصحفي الأمريكي الشهير فريد زكريا الذي تحدثنا عنه منذ أسبوعين ويحمل عنوان عالم ما بعد أمريكا حيث اعتبر هاليفي أن ما يتضمنه هذا الكتاب يقدم بشكل غير مباشر خريطة طريق لإسرائيل كي تعيد رسم سياساتها وتحالفاتها في العقود المقبلة, أي في حالة ما بعد أفول العصر الأمريكي. وهذا ما جعل الخبير الاستراتيجي الأمريكي الشهير انطوني كوردسمان يطالب بعودة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية إلي الواقعية.
الواقعية التي يعنيها كوردسمان تقوم علي مراجعة الاعتبارات الأخلاقية والمعنوية التي ظلت تربط الولايات المتحدة بإسرائيل وأن ترتكز العلاقات بينهما علي اعتبارات استراتيجية تفرض علي إسرائيل أن تعي أن سياساتها ومبادراتها سواء نحو الفلسطينيين أو إيران تؤثر مباشرة في المصالح الاستراتيجية الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي, وينبغي تعمد هذه المصالح علي نحو ما تتعهد الولايات المتحدة مصالح إسرائيل.
واقعية مهمة نأمل أن يعيها العرب جيدا وأن يديروا علاقاتهم هم أيضا مع الولايات المتحدة علي هذه القاعدة, قاعدة توازن المصالح وأن يجعلوا إسرائيل عبئا علي المصالح الأمريكية مستفيدين من التصدع الراهن في تلك العلاقات الفريدة والاستثنائية التي ظلت تربط أمريكا بإسرائيل.
المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش