إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم بقلم: د. زغلول النجار هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أول الربع الثاني من سورة' المائدة' وهي سورة مدنية,وآياتها مائة وعشرون(120) بعد البسملة, وهي من طوال سور القرآن الكريم, ومن أواخرها نزولا. وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي المائدة التي انزلها الله-تعالي- من السماء كرامة لعبده ونبيه المسيح عيسي بن مريم_ علي نبينا وعليه من الله السلام- ورضي الله عن أمه البتول. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة' المائدة' وما جاء فيها من التشريعات,وركائز العقيدة,والإشارات العلمية,ونستعرض هنا جانبا من جوانب الإعجاز التشريعي في' حد الحرابة' وهو حد من حدود الله الذي طبق في ظل الدولة الإسلامية. تعريف الحرابة تعرف' الحرابة' بأنها جريمة قطع الطريق علي سالكيه الآمنين بغرض إرهابهم وقهرهم, أو نهب أموالهم, مجاهدة علي سبيل المغالبة والقهر, أو بالتحايل والمكر وبالخداع والغدر, أو بغرض قتلهم دون نهب الأموال وهو ما يعرف باسم' قتل الغيلة' أو من أجل الاعتداء علي أعراضهم عنوة واغتصابا, ويطلق علي' الحرابة' اسم( السرقة الكبري). وكل من يقوم بأي من هذه الجرائم أو بها مجتمعة هو' محارب' لله ولرسوله ولجماعة المسلمين, سواء كان فردا أو جماعة,مسلحا أو غير مسلح, ما دام مكلفا ملزما, وثبتت عليه الجريمة ثبوتا لا يرقي إليه شك وكل من يعين هذا المحارب بأي شكل من الأشكال من مثل التحريض, أو الاتفاق, أو الرصد أو الإيواء أ غير ذلك من صور العون يعتبر عند كثير من الفقهاء شريكا له في الجريمة, ويحمل وزرها وإن رأي الإمام الشافعي ألا يعتبر محاربا إلا المباشر للحرابة بنفسه. حد الحرابة يقول ربنا-تبارك وتعالي- في محكم كتابه: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.( المائدة:33) وقد اختلف الفقهاء في تفسير دلالة الحرف( أو) الواردة في هذه الآية الكريمة, فمنهم من يري أنها جاءت للبيان والتفصيل, وبالتالي يرون أن العقوبات جاءت مترتبة علي قدر الجريمة هل هي مجرد إخافة السبيل دون أن يسلب مالا أو يقتل نفسا, أو هي سلب المال فقط, أو قتل النفس فقط, أو نهب المال وقتل النفس معا, وجعل لكل جريمة من هذه الجرائم عقوبة بعينها من هذه العقوبات الأربع التي فصلتها الآية الكريمة. ومن الفقهاء من رأي أن الحرف( أو) جاء للتخيير فترك لإمام المسلمين أن يوقع العقوبة بحسب ما يراه ملائما لتكييف الجريمة, وهذا الخيار مطلق عند بعض الفقهاء, ومقيد بقيود عند البعض الآخر في تفاصيل لا يتسع المقام لعرضها. وفصلها صاحب كتاب' التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي'( رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم). كذلك اختلفت التفاسير في فهم دلالة النص القائل:( أو ينفوا من الأرض) هل هو التغريب أي التشريد بالطرد من ديار الإسلام( بمعني إسقاط الجنسية في عصرنا الحاضر) أو هو السجن لمدة محددة أو مطلقة حتي يظهر توبته وينصلح حاله,أو هو القتل أو الصلب, والمعني الأول هو الراجح. فإذا أخذ المحارب المال لا غير كان جزاؤه أن تقطع يده اليمني ورجله اليسري عند أغلب الفقهاء, وإذا قتل المحارب ولم ينهب مالا فيري عدد من الفقهاء أن عقوبته هي القتل حدا دون صلب. وإذا قتل المحارب ونهب المال كان عقابه القتل والصلب معا, علي أن يصلب المحارب علي خشبة بقدر ما يشتهر أمره, ردعا له, وزجرا لغيره, ثم يقتل, لأن العقوبة لا تقع علي ميت, ومن قطع الطريق وأرهب الناس ولكنه لم يقتل أحدا, ولم ينهب مالا فعقابه النفي من الأرض التي أجرم فيها. ويري أغلب الفقهاء أن الإمام مخير في كل العقوبات المقررة في آية الحرابة بحسب حجم الجريمة وما تقتضيه المصلحة العامة. ولا يجوز رفع العقوبة سواء عفا الأولياء وأرباب الأموال أو لم يعفوا, وسواء أبرأوا من المحارب أو صالحوا عليه, وليس للإمام إذا ثبت الحد عنده أن يتركه أو يسقطه أو يعفو عنه لأن الحد واجب التطبيق لأنه من حقوق الله-تعالي- وفي ذلك يقول المصطفي-صلي الله عليه وسلم-' إقضوا الله فهو أحق بالوفاء,دين الله أحق أن يقضي' ويقول:' كتاب الله أحق وشرط الله أوثق'. وكلما أمكن للمجني عليه أن يستوفي حقه بعد استيفاء حق الله استوفاه, وكلما سقط كانت له الدية. وإذا تداخلت الأفعال من نوع واحد فيكتفي فيها بعقوبة واحدة, وإذا اختلفت كانت العقوبة الأشد هي الواجبة وفيها الكفاية. من الإعجاز التشريعي في حد الحرابة الإنسان في الإسلام مخلوق مكرم يصفه ربنا- تبارك وتعالي- بقوله العزيز:' ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا'( الإسراء:70) ومن حق هذا المخلوق المكرم أن يحيا وهو آمن علي نفسه وماله وعرضه وعقله ودينه, وهي الضرورات الخمس التي تعارفت عليها المجتمعات الإنسانية. ولكن الإنسان- ذلك المخلوق المكرم- هو أيضا مخلوق صاحب إرادة حرة, وهذه الإرادة الحرة قد تقوده إلي الارتقاء المتنامي نحو الالتزام بمكارم الأخلاق في مجاهدة مستمرة مع النفس نحو الفضيلة من أجل الوصول إليها, وقد تقوده إلي الانحراف عن الطريق السوي حتي ترميه في أوحال الرذيلة, وقد وصف لنا القرآن الكريم ذلك بقول ربنا- تبارك وتعالي- ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها, قد أفلح من زكاها.( الشمس:7-9) فالذي يجاهد نفسه من أجل تزكيتها يعرف طريق الفضيلة ويلزم نفسه به. داعيا إلي المثل العليا ودافعا عنها حتي ترسخ قواعدها في ذاته وفي المجتمع الذي يحيا فيه, فيحب الناس جميعا كحبه لذاته وأهله ووطنه, ويسعي جاهدا من أجل إسعاد غيره كما يسعي لإسعاد نفسه وأهله. والذي أتبع هوي نفسه فأخفي فضائلها, وطمس استعدادها للخير, وغير من الفطرة التي فطره الله- تعالي- عليها فملأها بحب الشر وكراهية الخير, وبالحقد علي الغير وبكراهية الناس عامة,وبحب إيذائهم والإضرار بهم, حتي يجعل من مناصبة مجتمعه العداء, ومن معارضة الخير العام له غرضا يسعي إليه متعمدا, ويجعل من وجوده عامل دمار وخراب وهدم لهذا المجتمع الذي يحيا فيه, والذي لا يري توافقا بين خيره وخير الجماعة البشرية التي يعيش بينها فيسعي جاهدا لتدميرها, ويعلن الحرب بلا هوادة عليها حتي ينتهي به الأمر إلي ممارسة الجرائم ضدها فلا يبقي أمام جماعته من حل, سوي نفيه من حظيرتها نفيا جزئيا أو كاملا بإنزال العقوبات به أو القضاء التام عليه قبل أن يقضي علي مجتمعه الذي يتحرك فيه علي غير هدي فيمتلئ بالرذائل وتفيض تصرفاته بالخطايا والجرائم, وإذا كانت حياة الأفراد من غير الأنبياء والمرسلين لا تخلو من الخطايا, فخطايا المرء هي ظل فضائله كما في بعض الأقوال ومردود كل من الرذيلة والخطيئة يعود علي الشخص نفسه, إلا أنه من الصعب الفصل بين حياة الفرد والحياة العامة للمجتمع الذي يحيا فيه, أما الجريمة فهي الجناية علي الآخرين, وإذا أخذت بعدا جماعيا كانت المحاربة للمجتمع كله( الحرابة),وجزاء كل خارج علي سلطان الحاكم المسلم المقيم لشريعة الله, وكل مروع للآمنين من عباد الله في دار الإسلام, وكل معتد علي أموالهم, أو دمائهم, أو أعراضهم أن يقتل, أو يصلب ثم يقتل, أو أن تقطع يده اليمني ورجله اليسري, أو ينفي من الأرض عقابا له علي جرائمه وردعا لأمثاله من بعده, وللفقهاء في ذلك تفصيل لا يتسع المجال لسرده, وإن كان الهدف من العقوبة هو التغليظ علي المفسدين في الأرض الذين يروعون الآمنين في المجتمع المسلم ويفزعونهم بغير حق, وذلك منعا لتكرار جرائمهم, وهذا العقاب الصارم الذي يلقونه في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة, ولا يطهرهم من فظاعة ما اقترفوه في الدنيا كما هو الحال في بعض الحدود الأخري. وهذا تغليظ للعقوبة, وتبشيع للجريمة حتي لا يقع فيها غيرهم. أما إذا استشعر كل خارج علي القانون, قاطع للطريق, ومفسد في الأرض حجم جريمته, فتاب إلي الله وأناب قبل أن تناله يد القانون والسلطان سقطت جرائمه وعقوبتها, وفوض أمره إلي الله الغفور الرحيم. وقد تجرأ كثير من غير المسلمين ومن بعض المتغربين من أبناء المسلمين علي حد الحرابة باعتباره حدا موسوما بالقسوة, فاستهجنوه وطالبوا بإلغائه حتي تم لهم ذلك في الغالبية العظمي من ديار المسلمين بدعوي التحضر ومسايرة العصر, وهي حجة مدحوضة, وإنكار لمعلوم من الدين بالضرورة, ومنكر ذلك يخرج نفسه من الملة, وعلي المترخصين في ذلك أن يعلموا ألا رخصة لهم فيه, وأن هذا الحد هو من حدود الله-تعالي ـ التي أنزلها لعباده, وهو أعلم بهم, وبما يصلحهم وهو ـ سبحانه وتعالي ـ أحكم الحاكمين. والحد من حدود الله ـ تعالي ـ هو عقاب علي جريمة, والجريمة لا توقف إلا بالعقاب الذي قد يكون للإصلاح, أو للعظة والعبرة, أو للردع والزجر, أو للانتقام تحقيقا للعدالة, وهي هنا لكل ذلك, ففيها إصلاح للمجتمع بتخليصه من عتاة المفسدين فيه, وفيها عظة وعبرة لأبناء المجتمع بأسره, وفيها الردع والزجر الكافيين لكل من تسول له نفسه الوقوع في هذا الخطأ, وفيها انتقام من المجرم الجاني الذي يجب أن يدرك أن الإيذاء الذي سببه لغيره من الأبرياء جلب له الوبال علي نفسه حتي يكون في ذلك تشنيع للجريمة التي ارتكبها وردع لغيره عن ارتكاب مثل ما ارتكب, لأن القصاص الرادع هو أفضل العقوبات, وأن استئصال النفوس الضالعة في الشر والجريمة الممتلئة برغبات الإفساد في الأرض هو خير وقاية للمجتمعات الإنسانية من الانهيار والفوضي, وهو صمام الأمان لسلامتها واستقرار أمورها لأن أمن الجماعة أهم من شهوات الفرد الجانحة ورغائبه المنحرفة التي لا سبيل إلي تقويمها أو إصلاحها, ولا علاج لها إلا الاستئصال والبتر من أجل تطهير المجتمع وسلامته وأمنه, فعلماء النفس يقسمون المجرمين إلي فئات أربع علي النحو التالي: (1) فئة لا شك في جنونها وهؤلاء لا بد من حجزهم وعزلهم عن المجتمع. (2) فئة تصاب بشيء من النوبات والاضطرابات العصبية, وهؤلاء يحتاجون إلي العلاج النفسي. (3) وفئة تتبع المبادئ الخاطئة مع الاعتقاد الجازم بأنها صواب وهؤلاء يكون علاجهم بالحبس والإصلاح لإقناعهم بفساد آرائهم عن طريق المحاجة المنطقية الهادئة. (4) فئة مستهترة ماجنة لا تكترث بالقيم الأخلاقية والسلوكية للإنسان ولا بحرمة الجماعة التي ينتسبون إليها, ويعيشون بين ظهرانيها, وهؤلاء يتفاوت عقابهم بتفاوت أحجام جرائمهم, فيبدأ بمحاولات الإصلاح مرورا بالتعزير, والسجن, والتجريم, والتغريم المالي, والقطع للأطراف إلي القطع من خلاف إلي الصلب والقتل أو التشريد والنفي, والحد الشرعي هو عقاب من الله ـ تعالي ـ للمجرم علي اقتراف جريمته وهو عقاب متكافئ مع حجم الجريمة, لأن الجريمة لا يوقفها إلا العقاب الرادع, والعقاب لا يكون رادعا إذا اتصف بالرخاوة والضعف. ولولا أن الله-تعالي- قد حد الحدود, وأنزل العقوبات الرادعة لفسدت الأرض, وعمتها الفوضي والخراب والدمار, وضاعت منها نعمة الأمن والأمان, ونهبت الحقوق والممتلكات, وانتهكت الحرمات, وتعطلت مصالح الناس بالكامل. وشريعة الله حاربت الجريمة والمجرمين, والإفساد في الأرض والمفسدين, وحرمت العدوان علي الآمنين, وأنزلت أشد العقوبات للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا, وينشرون الخوف والفزع بين الآمنين جزاء عادلا فاضحا لهم في الدنيا, وتهددهم في الآخرة بالعذاب العظيم. ولم يشرع ذلك ظلما للناس أو إذلالا لهم, وإنما شرع عقابا مكافئا للمعتدين, وردعا وزجرا وعظة وعبرة للمعتبرين حتي لا يقعوا فيما وقع فيه المعتدون من جرائم, ودعوة للمسلمين أجمعين بضرورة المحافظة علي أمن مجتمعاتهم من الضياع, والذي إذا فقدوه فقدوا كل شيء في حياتهم, وذلك لأن المعتدي إذا لم يجد من شرائع الله ما يمنعه من اعتدائه وعدوانه علي غيره فإنه يعيث في الأرض فسادا, ويزيد من طغيانه علي الآمنين من قومه وإفزاعه لهم مما يقضي علي استقرارهم, وسلامتهم, وينشر الخوف والفزع والاضطراب بينهم, وهي من الأمور المهلكة للمجتمعات الإنسانية, والمتسببة في انهيارها وخرابها بالكامل. من هنا تتضح ومضة الإعجاز التشريعي في حد الحرابة لأنه إذا اكتفي المشرع في عقاب المحارب بالسجن أو الغرامة المالية فقط فإنه سرعان ما يعاود الكرة إلي جريمته بمجرد خروجه من السجن أو حاجته إلي المال, بينما إذا التزم المشرع بحدود رب العالمين, وأقام شرعه وأنزل أوامره في عقاب المحاربين حقق للمجتمعات الإنسانية ما تصبو إليه من أمن وأمان, ومن صون لحقوق العباد, ومصالحهم من عبث العابثين, واستهتار المستهترين, وطمع الطامعين, وجشعهم من أصحاب النفوس المريضة, وإذا تم للمجتمع الإسلامي ذلك اختفت منهم طبقة المحاربين لله ورسوله في مختلف أرجاء الأرض, ولن تتوقف مسلسلات الخروج علي المجتمع إلا بالنزول عند أوامر رب العالمين, وتطبيق شرعه, والالتزام بحدوده في كل أمر من الأمور, والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل. المزيد من مقالات د. زغلول النجار
الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
4,824,417
ساحة النقاش