|
|
طنطاوى |
للوهلة الأولى، بدا كما لو أن العالم مصدوم من الجريمة الإسرائيلية الأخيرة، التى ارتكبتها بحق أسطول الحرية، ومبعث الصدمة هنا أن الغرب نفسه هو الذى ظل طوال ما يزيد على ٦٠ سنة يروج لديمقراطية الدولة اليهودية، ويدفع ثمن صورتها كدولة مظلومة مضطهدة من جانب جيرانها العرب.
تلك الصورة المغلوطة، فندها الدكتور سيد طنطاوى، شيخ الأزهر الإمام الأكبر الراحل، إذ خصص رسالته للدكتوراه، فى عام ١٩٦٩، لكشف ما يمكن تسميته جذور العنف فى التاريخ اليهودى، منذ دخولهم مصر، وخروجهم منها وتأسيس دولتهم، بعد أن أبادوا شعوباً بكاملها فى سبيل ذلك.
«المصرى اليوم» تواصل تقديم قراءة جديدة للدراسة.
يختتم الإمام الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوى الفصل الثامن والأخير من دراسته القيمة برصدٍ لأهم «ما حل بهم على أيدى بعض الدول الأوروبية، جزاء إجرامهم وإثارتهم للفتن» على حد قوله، ويقسم هذا جغرافيا، طبقاً لأماكن ما حل بهم، فيبدأ بإنجلترا والتى تقول الدراسة إن الملك الإنجليزى يوحنا أصدر أمراً بحبسهم فى جميع أنحاء مملكته، وإن الملك هنرى الثالث أمر بتعذيب اليهود وحبسهم، لأنه اكتشف أنهم ينزعون جزءا من ذهب النقود الرسمية وفضتها بعد أن يقبضوها ثم يدفعوها إلى التجار، وقد أدى عملهم هذا إلى النقص فى عملة البلاد الرسمية، ولم يكتف هذا الملك الإنجليزى بتعذيب اليهود وحبسهم، بل أصدر أمرا سنة ١٢٣٠م مؤداه أن على اليهود أن يدفعوا إلى الخزانة البريطانية ثلث أموالهم المنقولة.
وتكمل الدراسة: «عندما تولى إدوارد الأول عرش بريطانيا سنة ١٢٧٣م أصدر أمرا يحرم فيه على اليهود التعامل بالربا ورهن الأرض، بعد أن تبين له أن أموال الدولة توشك أن تذهب إلى جيوب اليهود وحدهم، ولكن اليهود لم يتقيدوا بهذا الأمر، بل سرقوا جزءا كبيرا من ذهب العملة البريطانية، وقد حكم على مائتى يهودى بالإعدام سنة ١٢٨١م بعد أن ثبتت عليهم هذه الجريمة، وفى سنة ١٢٩٨م جأر الشعب البريطانى بالشكوى من اليهود، فأصدر الملك إدوارد الأول أيضا أمرا بطرد اليهود من جميع البلاد البريطانية فى غضون ثلاثة أشهر، إلا أن الشعب البريطانى لم يصبر على اليهود حتى تنقضى تلك المدة، بل أخذ يقتل منهم العشرات والمئات، وفى قلعة بورك التى احتمى بها عدد كبير من اليهود، أحرق الإنجليز أكثر من خمسمائة يهودى، وقد اضطر الملك إلى ترحيلهم قبل انقضاء المدة، لئلا يفتك الشعب بهم جميعا فى كل مكان، وظلت بريطانيا خالية من اليهود طوال ثلاثة قرون تقريبا.
ولكن عادوا إليها سنة ١٦٥٦م فى عهد الطاغية كرومويل، الذى اغتصب الملك من شارل الأول بعد أن قدم له اليهود الأموال الطائلة فى سبيل بلوغ أغراضه.
وتنتقل الدراسة لرصد ما حل باليهود فى فرنسا، حيث تعرض اليهود فى أزمنة مختلفة لنقمة الشعب الفرنسى وغضبه، لأنهم دمروا اقتصاده الوطنى، وخنقوه بالربا الفاحش والمعاملات السيئة، ففى عهد لويس التاسع تدهورت الحالة الاقتصادية فى فرنسا، فأصدر أمرا بإلغاء ثلث ما لليهود على الفرنسيين من ديون، ثم أصدر أمراً آخر بإحراق جميع كتبهم المقدسة، خاصة التلمود.
«وقد قال أحد المؤرخين: إنهم أحرقوا فى باريس وحدها محمول أربع وعشرين مركبة من نسخ التلمود وغيرها»، وخلال تولى فيليت الجميل حكم فرنسا أنزل الفرنسيون باليهود صنوفا من القتل والنهب والتشريد، ثم طردوا من فرنسا نهائيا، ولكنهم عادوا إليها بعد أن دفعوا لفيليب ثلثى الديون، التى لهم فى فرنسا، وفى سنة ١٣٢١م هاجمهم الشعب الفرنسى وذبح عددا كبيرا منهم، ونكل بهم تنكيلا شديدا، ثم طردوا من فرنسا بعد أن نهبت أموالهم ولم يستطيعوا العودة إليها إلا فى أواسط القرن السادس عشر، وفى أوائل القرن التاسع عشر حاول نابليون أن يستغلهم لبلوغ مطامعه ولكنهم خانوه، فاحتقرهم، وبطش بعدد منهم، وقال عنهم إنهم حثالات البشر وجراثيمه. ولم ينج اليهود من بطش الشعب الفرنسى إلا فى القرنين التاسع عشر والعشرين.
وفى إيطاليا تقول الدراسة «حاربهم البابوات حربا شعواء وأطلقوا عليهم اسم (الشعب المكروه) وأغروا الشعب الإيطالى بهم فأعمل فيهم القتل والتشريد، وقد أصدر البابوات مراسيم عديدة لتكفير اليهود وتسفيه ديانتهم القائمة على التلمود، وفى سنة ١٢٤٢م أعلن البابا جريجورى التاسع اتهامات صريحة ضد التلمود، الذى يطعن فى المسيح والمسيحية، وأصدر أوامره بإحراقه فأحرقت جميع نسخة، وفى سنة ١٥٤٠م ثار الشعب الإيطالى على اليهود ثورة عارمة قتل فيها الآلاف منهم، وطرد من بقى حيا خارج إيطاليا.
وفى إسبانيا «ذاق اليهود من الشعب الإسبانى وملوكه صنوف الذل وألوان الهوان، ولم يظفروا بالراحة إلا فى أيام الحكم الإسلامى لإسبانيا ولنكتف بذكر عقوبة واحدة من العقوبات المتعددة، التى نزلت بهم فى تلك البلاد، وفى عهد الملك (فرديناند) وزوجته (إيزابيلا)، وصلت موجة السخط على اليهود أقصاها، لتغلغلهم فى الحياة الإسبانية، واستيلائهم على اقتصادها وإشعالهم نار الخلافات الدينية بين الطوائف.. فرأى الملك وزوجته أن خير وسيلة لوقاية البلاد من شرورهم هى طردهم من إسبانيا طردا نهائيا.
وفى ٣١ من مارس سنة ١٤٩٢ صدر المرسوم التالى عن الملك (فرديناند): «يعيش فى مملكتنا عدد غير قليل من اليهود، ولقد أنشأنا محاكم التفتيش منذ اثنتى عشرة سنة، وهى تعمل دائما على توقيع العقوبة على المدنيين، وبناء على التقارير التى رفعتها لنا محاكم التفتيش، ثبت بأن الصدام الذى يقع بين المسيحيين واليهود يؤدى إلى ضرر عظيم، ويؤدى بالتالى إلى القضاء على المذهب الكاثوليكى، ولذا قررنا نفى اليهود ذكورا وإناثا خارج حدود مملكتنا وإلى الأبد، وعلى اليهود جميعا الذين يعيشون فى بلادنا وممتلكاتنا ومن غير تمييز فى الجنس أو الأعمار أن يغادروا البلاد فى غضون فترة أقصاها نهاية يوليومن نفس العام، وعليهم ألا يحاولوا العودة تحت أى ظرف أو سبب».
وبمقتضى هذا القرار طرد اليهود شر طردة من إسبانيا بعد أن أرغموا على ترك ذهبهم ونقودهم، وبعد أن نفثوا سمومهم فى إسبانيا زهاء سبعة قرون، وكان عددهم عندما خرجوا منها مطرودين يبلغ نصف مليون نسمة، ويعتبر بعض اليهود هذا القرار وما تلاه عن طرد وتشريد أسوأ من خراب أورشليم.
أما فى روسيا التى عاش فيها نصف يهود العالم تقريبا خلال القرن التاسع عشر و«استعملوا طوال مدة إقامتهم فى روسيا كل وسائلهم الخبيثة للتدمير والتخريب، ففتحوا الحانات، وتاجروا فى الخمور، وأقرضوا بالربا الفاحش، واستولوا على الكثير من أموال الدولة بالطرق المحرمة، وقتلوا الكثير من أبناء الشعب الروسى، عندما مكنتهم الظروف من ذلك وكونوا الجمعيات السرية، التى عملت على هدم نظام الحكم القيصرى واستمرت فى نشاطهم حتى أزالته بواسطة الثورة الشيوعية فى سنة ١٩١٧م. هذه الثورة التى كان معظم قوادها من اليهود، ولم ينس الروس لليهود، ما قاموا به نحوهم من عدوان واستغلال، فانقضوا عليهم عدة مرات للتخلص منهم وأعملوا فيهم الذبح والقتل بلا رحمة، وكان من أبرز المذابح التى أوقعها الروس باليهود مذبحة سنة ١٨٨١م ومذبحة سنة ١٨٨٢م، فقد حاول الفلاحون الروس أن يدمروا اليهود تدميرا فى هاتين السنتين.
وفى ألمانيا «انتشر اليهود فى كثير من مدنها منذ القرن الثامن الميلادى، وسكنوا على ضفاف نهر الراين، واستغلوا الشعب الألمانى أسوأ استغلال، حتى كادوا يستولون على أمواله عن طريق الربا الفاحش واستخدام الوسائل المختلفة لجمع المال الحرام، ولقد هاج الشعب الألمانى ضدهم فى أوقات مختلفة، واستعمل معهم كل وسائل القتل والسلب والطرد.
ويقول صاحب كتاب (تاريخ الإسرائيليين): «وظل القتل والذبح منتشرا فى اليهود إلى أن صدرت الأوامر بطردهم من أنحاء ألمانيا فى أزمنة متتابعة، وذلك ما بين القرنين الثانى عشر والرابع عشر، حتى لم يكد يبقى منهم واحد فيها». وكان آخر ما لاقوه من عذاب وتقتيل وتشريد على يد (هتلر)، ابتداء من توليه حكم ألمانيا سنة ١٩٣٣ إلى أن سقط حكمه سنة ١٩٤٥م.
وتشرح الدراسة أسباب ما نزل على اليهود «من نقمة» طوال تاريخهم، فتستشهد بما كتبه كارل ماركس عن اليهود فى كتابه «المسألة اليهودية» والذى يقول فيه «المال هو إله إسرائيل المطاع، وأمامه لا ينبغى لأى إله أن يعيش، لأن المال يخفض جميع آلهة الشر ويحولها إلى سلعة، المال هو القيمة العامة والمكونة فى ذاتها لجميع الأشياء، لقد أصبح إله اليهود إلها دنيويا، هذا هو الإله الحقيقى لليهود»، ويكمل فى موقع آخر «ما هو الأساس الدنيوى لليهودية؟ المصلحة العملية والمنفعة الشخصية، إذن فالعهد الحاضر بتحرره من المتاجرة والمال بالتالى من اليهودية الواقعية والعملية، إنما يحرر نفسه أيضا».
وبنفس الطريقة يكمل «طنطاوى» استشهاده بعدد من كتابات السياسيين الأجانب فينقل من خطاب الرئيس الأمريكى السابق «بنيامين فرانكلين» عام ١٧٨٩ قوله: «هناك خطر عظيم يهدد الولايات المتحدة، وذلك الخطر هو اليهود، أيها السادة، حيثما استقر اليهود، نجدهم يوهنون من عزيمة الشعب، ويزعزعون الخلق التجارى الشريف، إنهم لا يندمجون بالشعب، لقد كونوا حكومة داخل الحكومة، وحينما يجدون معارضة من أحد فإنهم يعملون على خنق الأمة مالياً، كما حدث للبرتغال وإسبانيا..
إذا لم يمنع اليهود من الهجرة بموجب الدستور، ففى أقل من مائة سنة سوف يتدفقون على هذه البلاد، بأعداد ضخمة تجعلهم يحكموننا ويدمروننا ويغيرون شكل الحكومة التى ضحينا وبذلنا لإقامتها دماءنا وحياتنا وأموالنا وحريتنا.
إذا لم يستثن اليهود من الهجرة فإنه لن يمضى أكثر من مائتى سنة ليصبح أبناؤنا عمالاً فى الحقول لتأمين الغذاء لليهود.. إنى أحذركم أيها السادة إذا لم تستثنوا اليهود من الهجرة إلى الأبد فسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم فى قبوركم. إن عقليتهم تختلف عنا حتى لو عاشوا بيننا عشرة أجيال، والنمر لا يستطيع تغيير لونه.. اليهود خطر على هذه البلاد، وإذا دخلوها فسوف يخربونها ويفسدونها».
ويرى «طنطاوى» أن أهم أسباب ما «حل باليهود من نقمة» هو غرورهم ويشرح: يعتبر اليهود أنفسهم أبناء الله وأحباءه، وشعبه المختار، ومن قديم الزمن وهم يقسمون العالم إلى قسمين متقابلين: قسم إسرائيل وهم: صفوة الخلق، وأصحاب الحظوة عند الله، وقسم آخر يسمونه: الأمم أو«الجوييم» أى: غير اليهود، ومعنى «جوييم» عندهم: وثنيون وكفرة وبهائم وأنجاس.
وقد أدى هذا الغرور والتعالى باليهود إلى إهدار كل حق لغيرهم عليهم، وأن من حق اليهود أن يسرقوا من ليس يهوديا وأن يغشوه ويكذبوا عليه، ويقتلوه إذا أمنوا اكتشاف جرائمهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الرذيلة، التى تمكنت من اليهود بقوله «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون».
ويستشهد «طنطاوى» بتحليل الدكتور (وايزمان) أول رئيس لإسرائيل لطابع العزلة فى اليهود بقوله: «وكان اليهود فى موتول (مسقط رأسه) بروسيا، يعيشون كما يعيش اليهود فى مئات المدن الصغيرة والكبيرة، منعزلين منكمشين، وفى عالم غير عالم الناس الذين يعيشون معهم»، ولعل أدق صورة للتحريض على العزلة والتمسك بها، ما ذكره (سلامون شختر) فى خطابه بمدرسة اللاهوت اليهودية العليا، حيث قال: «إن معنى الاندماج فى الأمم هو فقدان الذاتية، وهذا النوع من الاندماج مع ما يترتب عليه من النتائج، هو ما أخشاه أكثر مما أخشى المذابح والاضطهادات».
أو ما تقوله جولدا مائير، وزيرة خارجية إسرائيل سابقاً: إن اليهود المقيمين خارج إسرائيل طوائف مشتتة، تعيش فى المنفى، وإنهم مواطنون إسرائيليون قبل كل شىء، ويتحتم عليهم الولاء المطلق لهذه الدولة الجديدة، مهما تكن جنسيتهم الرسمية التى يسبغونها على أنفسهم، وإن اليهودى الإنجليزى الذى ينشد بحكم إنجليزيته نشيد (حفظ الله الملكة) لا يمكن أن يكون فى نفس الوقت صهيونياً».
ويختم «طنطاوى» الفصل الأخير من الدراسة بما كتبه المؤرخ البريطانى «أرنولد توينبى» فى كتابه دراسة التاريخ: «لو أن بشاعة الخطيئة قيست بدرجة الجرم، الذى يقترفه المذنب فى حق ما منحه الله من قدرة على التمييز، لكان اليهود أقل عذراً فيما اقترفوه عام ١٩٤٨، ولكن اليهود يعلمون بما اقترفوه، وهكذا تتلخص مأساتهم الضخمة فى أن الدرس الذى تعلموه بمصادماتهم مع الألمان النازيين لم يجعلهم يحيدون عن أعمال النازى الشريرة ضد اليهود، بل دفعهم إلى مواصلة تلك الأعمال، وأن هذه الأعمال الشريرة التى ارتكبها اليهود ضد الفلسطينيين العرب اشتملت على تقتيل النساء والأطفال والرجال، وأدت إلى هروبهم من بلادهم.
|
ساحة النقاش