المثقف والدولة
بقلم: جابر عصفور
لا تزال العلاقة بين المثقف والدولة مرتبكة في بعض الأذهان, ويصل هذا الارتباك إلي ذري تطرفه في عقل بعض الأصوليين الماركسيين والإسلاميين وغيرهم الذين يشبهونهم في المنحي الفكري
خصوصا في تطرف عدائهم للدولة ورفض العمل فيها والتعاون معها ما ظلت مناقضة لتصوراتهم التخييلية غالبا, واعتقادي الذي لا أزال عليه أن الدولة هي جماع من المؤسسات التي تدير مصالح الشعب, ويحكم الدستور والقانون العلاقة المتبادلة بينهما, وذلك بما يحقق المصلحة العامة للأمة, ويعمل علي تطورها وتقدمها بما يحقق الحرية والعدل الاجتماعي لأبنائها, وأتصور أن هناك فارقا بين الدولة والنظام السياسي الذي يدير أجهزتها التنفيذية وأدواتها القمعية والأيديولوجية, فيوجه مسارها سلبا أو إيجابا, وذلك بما يلقي بظلاله علي مؤسسات الدولة واتجاه مسارها, فإذا غلب السلب وتعارضت مصالح النظام السياسي بوصفه ممثلا لطبقة أو نخبة أو تحالف مجموعات حاكمة مع مطالب الشعب العادلة, اتخذت الدولة سمة الدولة التسلطية, وتحول النظام السياسي إلي سلطة قمعية, أما إذا غلب الإيجاب علي مسار النظام السياسي, وانعكس علي أجهزة الدولة ومؤسساتها, اكتسبت الدولة الملامح المحققة لمصالح الطبقة الحاكمة, سواء في نخبها أو تحالفاتها ولكن بما يجاوزها إلي الصالح العام الذي يعود بالفائدة علي الجميع, وذلك في اتجاه التقدم الذي لا نهاية له, والذي يمكن أن تتنوع أساليبه وطرائق التنمية البشرية المصاحبة له, وقد علمتنا بعض التجارب الآسيوية الناجحة مثلا, خصوصا في الصين, عدم التطابق بالضرورة بين مبادئ النظام السياسي الحاكم وأساليب التنمية, عملا بالمبدأ الذي يقول ليس المهم هو لون القط, فالأهم هو قدرته علي صيد الفئران.
أما المثقف الفاعل, في تقديري, فهو بمثابة الوعي النقدي للمجتمع, والتجسيد الخلاق لضمير الأمة ولذلك فهو يقع, دائما, علي يسار النظام السياسي وما يلازمه من أشكال الوعي الاجتماعي أو الفكري أو الديني, ومهمته الأولي هي وضع هذا النظام ولوازمه, وحتي معارضيه, موضع المساءلة الجذرية, وذلك بما يجعله متطلعا إلي المستقبل الواعد, دائما, لا متسمرا إلي الماضي الذي يمكن أن يتحول إلي سلاسل تعرقل حركة الأمة إلي الأمام, ولا إلي الحاضر المتخلف الذي يمضي إلي الهاوية, فهو بشير التقدم كما وصف نعمان عاشور رفاعة الطهطاوي في المسرحية التي كتبها عنه, فالمثقف هو العقل اليقظ الذي لا يكف عن وضع الدولة والنظام السياسي الذي ينعكس علي مرآة حضورها موضع المساءلة الدائم, بل لا يكف عن وضع نفسه الموضع نفسه, سواء في علاقته بالدولة أو النظام السياسي الذي يديرها سلبا أو إيجابا.
والعلاقة بين المثقف الفاعل والدولة هي علاقة مواطنة ابتداء, فهو بعض الشعب الذي هو المالك الفعلي لدولاب الدولة, ومن حقه أن يعمل في أي مكان فيها, فهي دولته كما هي دولة كل مواطن, سواء وافق علي نظامها السياسي أو عارض توجهاته, كما أن النظام السياسي في الدولة المدنية القائمة علي المساواة في حقوق المواطنة ليس من حقه التمييز بين من يؤيده أو من يعارضه, ما ظل الأصل في التأييد أو المعارضة هو صالح الدولة المدنية القائمة علي الفصل بين السلطات حقا, والمستندة إلي دستور رشيد وقوانين عادلة وديموقراطية صدقا.
ولذلك كنت أعجب لعقول المتطرفين الإسلاميين الذين كانوا يرفضون العمل في الدولة لأنها دولة كافرة تعيش زمن الجاهلية المعاصرة التي لا تقبل مبدأ الحاكمية لله الذي سيظل أعدي أعداء الدولة المدنية وقد قبلت العمل في المجلس الأعلي للثقافة, أمينا عاما, رغم أن بعض الأصوليين الماركسيين والإسلاميين والمتطهرين نصحوني برفض المنصب لأني سأتخلي عن مبادئي التي لا أزال أدعو إليها, وقالوا لي ماذا تفعل في نظام سياسي كل ما فيه فاسد, ولكني رفضت هذه الاعتراضات, وأصبحت أمينا عاما للمجلس الأعلي, أولا لأن قبولي العمل فيه لا يختلف عن وضعي الذي لا أزال عليه, وهو كوني أستاذا في جامعة القاهرة, وفخري بهذا الوضع وإيماني بأن منصب الأستاذ الجامعي أعلي من كل منصب مهما كان, وثانيا لأني لا أومن بالتعميم, وأرفض الأحكام المطلقة علي الظواهر والأوضاع, وأراها نوعا من الأصولية الجامدة, ولا يزال رأيي أن ثمة نورا دائما مهما تكاثف الظلام, وأن الأشراف موجودون حتي في داخل النظام الموصوم بالفساد, وهؤلاء أمل مصر الحزينة في دولة مدنية أكثر تقدما, ونظام سياسي أكثر عدلا وديمقراطية.
هكذا أصبحت أمينا عاما للمجلس الأعلي للثقافة قبل أن أكمل الخمسين من عمري, ونجحت في إقامة علاقة متكافئة مع وزير الثقافة, فتحولت علاقتي به من علاقة مرءوس برئيس إلي صديق بصديق ومنحني الرجل كل الإمكانات لأحيل رؤيتي للمستقبل الثقافي إلي واقع عملي, برغم عرقلة البيروقراطيين في الوزارة, فقد تشابهت رؤيتي مع رؤيته ولا يزال كلانا حالما بمستقبل أفضل لهذا الوطن وأهم ما نجحت فيه هو تحويل المجلس الأعلي إلي ساحة ثقافية مفتوحة لكل التيارات الفكرية دون تمييز, وذلك بهدف إقامة حوار ديموقراطي خلاق واتفقت مع فاروق حسني الصديق قبل الوزير علي أن يستقل العمل الثقافي عن العمل السياسي ولا أزال متفقا معه في مجمل سياسته التي أدت إلي إنجازات باهرة تشهد بدوره الخلاق في مجاله, وقدرته علي احترام الرأي المخالف, ابتداء مني ولا أدل علي ذلك أن صنع الله إبراهيم عندما ألقي بيانه الصاخب في إدانة النظام السياسي, ورفض استلام جائزة ملتقي الرواية, خرج عائدا إلي بيته في سلام, ولم أتوقف لا أنا ولا فاروق حسني عن تقديره بوصفه أديبا كبيرا وقيمة نفخر بها جميعا, ونضعها في قمة الإبداع الروائي التي لا يمكن أن يقترب منها, في الضمير النقدي السليم والأمين, نجوم عالمية الاستشراق الجديد.
أما عن النظام السياسي, فما أكثر ما لا أرضي عنه فيه ولم تمنعني صلتي بفاروق حسني أو غيره من انتقاد ما أراه معوجا في هذا النظام, ولكني لا أدعي شجاعة مجانية, ولا أدل علي ذلك مما أكتبه في هذه الصحيفة, ويلقي الاحترام لصدقه وإخلاصي فيما أقول, وحرصي علي أن تكون الدولة التي أنتسب إليها هي الدولة التي أحلم بها, ولا أدعي بطولة زائفة كما يدعيها بعض الذين سمح لهم الهامش الديمقراطي الذي نعيشه, ونرجو أن يتسع, بأن يقولوا كل ما يريدون, مدركين أنهم آمنون, علي النقيض من المعارضة الحقيقية التي دفع ثمنها أدباء كبار حقا في الزمن الناصري والساداتي, فقد سجن صنع الله إبراهيم لسنوات عدة مع عبد الحكيم قاسم ومحمود أمين العالم وفؤاد مرسي واسماعيل صبري عبد الله وغيرهم كثر, كما سجن عبد الرحمن الأبنودي وجمال الغيطاني وصبري حافظ في الزمن الناصري, وطرد بهاء طاهر من عمله في زمن السادات, وطردت مثله من الجامعة, ورحل كلانا إلي المنافي الاختيارية قهرا, فلم تتغير المواقف, ولا الإيمان بالعدل الاجتماعي والحرية التي يدفع الكثيرون ثمنها في كل زمان, وظلوا منطوين علي جمر الصدق الذي أنتج إبداعات خلاقة, هي فخر مصر الحقيقي الذي سيبقي لها ذخرا إبداعيا, عندما يذهب الزبد جفاء, ويخفت ضجيج ظاهرة الرواية الرائجة محدودة القيمة الأدبية, مع الضجيج الكاذب لمن كتبوها ليرضوا شرائح بعينها من قراء الغرب, صانعين ظاهرة أشبه بما أطلق عليه واحد من أعمق نقاد العولمة الفجر الكاذب.
ساحة النقاش