الجذور المشتركة للغتين الهيروغليفية والعربية
بقلم: د‏.‏ طه عبد العليم
ينظر الي كل أجزاء العالم العربي خارج الجزيرة العربية باعتبارها غير عربية وإن تكن مستعربة‏,‏ وفقا لنظرية غربية تجد رواجا عربيا بين اليائسين من جدوي العمل العربي المشترك وغير العارفين بجذور التاريخ الحقيقي للعرب‏.‏
 
 

 

 وتستند هذه النظرية الذائعة الي فرضية أن سكان العالم العربي خارج شبه جزيرة العرب لم يكونوا عربا جنسيا وإن جري تعريبهم‏.‏ ويسلم جمال حمدان صاحب شخصية مصر والمنظر المصري للقومية العربية بأن العروبة مضمون ثقافي‏,‏ لا جنسي‏,‏ أولا‏,‏ ويعلن أن مقياس العروبة ليس جنسيا‏;‏ ولكنه كمية اللسان العربي التي أستعيرت‏!‏
والثابت المحقق الآن أن اللغة المصرية القديمة‏,‏ وهي حامية تصنيفا‏,‏ كانت تشمل نسبة مهمة من المؤثرات والكلمات السامية‏,‏ وأن البعض قد أثبت اشتراك أكثر من عشرة آلاف كلمة بين المصرية والعربية‏!‏ ومن هنا قرب اللغة العربية السامية من اللغة المصرية القديمة‏,‏ حتي اعتبرت الأخيرة في نظر البعض لغة حامية سامية في آن واحد‏!‏ وليس هذا غريبا لأنه من الثابت أن عرب الجزيرة لم يكفوا عن الخروج منها والتدفق علي مصر أو التسلل إليها طوال التاريخ المكتوب وقبله‏.‏ أضف الي هذا أن كل الغطاء البشري الذي يغطي ما يعتبر الآن العالم العربي هو أساسا فرشة واحدة‏,‏ من جذر واحد‏,‏ وإن تمايزت اللغات والألسن ما بين سام وحام مع عصر الجفاف‏,‏ حيث‏'‏ تقطع‏'‏ الغطاء القديم المتجانس جنسيا إلي رقع متباعدة جغرافيا‏,‏ وإن ظلت متجانسة جنسيا‏;‏ وهذا بالدقة مفتاح أنثروبولوجية عالمنا العربي‏,‏ كما يري جمال حمدان‏.‏
والواقع أن عرب الجزيرة من الساميين‏,‏ بل هم قلب السامية‏,‏ إن لم يكونوا أصلها‏,‏ كما يسجل جمال حمدان في مؤلفه شخصية مصر‏.‏ ورغم أن عالمنا الموسوعي العظيم قد وقع في شرك هذا المفهوم اللغوي‏,‏ فان موضوعيته تقوده للتسليم بحقيقة أنه ليس من شك أن الساميين والحاميين‏,‏ الذين ينتمي المصريون الي المجموعة الاخيرة منهما‏,‏ هما تعديلان من عرق جنسي مشترك‏,‏ أو فرعان من شجرة واحدة‏!‏ وأن التمايز بينهما قد تم في زمن ليس بالبعيد جدا‏,‏ بدليل أوجه التشابه العديدة بينهما لغويا وحضاريا‏,‏ فضلا عن الصفات الجسمية ذاتها‏,‏ التي تجعلهما معا أقارب للأوروبيين من جنس البحر المتوسط‏!‏
ويمضي الباحث الفرنسي بيير روسي الي أبعد من باحثنا العروبي‏,‏ إذ يتحدي في كتابه التاريخ الحقيقي للعرب‏,‏ مسلمة أن تعريف العرب عرقيا يقتصر علي بدو شبه الجزيرة العربية دون غيرهم‏.‏ ويبين روسي أن علماء الغرب الذين درسوا تاريخ الشرق الادني ويدرسون حاضر الشرق الاوسط‏,‏ هم الذين روجوا لهذا التعريف حتي يخدموا ـ ولايزالون ـ ساسة الغرب الساعين الي تفكيك المنطقة‏,‏ بل وتفكيك دولها‏.‏ ويبين روسي أن التقارب الثقافي التاريخي لشعوب الشرق يفسر حقيقتين‏:‏ الأولي‏,‏ أن اللغة العربية قد لقيت حظا لم تعرفه أية لغة أخري في انتشارها‏,‏ وثانيتهما‏,‏ أن دين ولغة الإسلام قد انتشرا بيسر دون جيوش جرارة وسيوف مسلطة مزعومة‏!‏ ويعلن روسي دهشته من ان العرب قد وافقوا علي تعريف أنفسهم من قبل أجانب بأنهم ساميون‏!‏ وهو اختراع متولد عن خيال اللغويين الالمان‏..‏ لا اثر له قبل القرن‏18.‏
ويقول الباحث الفرنسي‏:‏ إن الأمر سيكون بسيطا للغاية لو قلنا العرب‏,‏ بوجودهم الاجتماعي والثقافي واللغوي المستمر منذ آلاف السنوات‏!‏ رافضا ما وصفه زيفا وضلالا باسم السامية المزعومة لفصل العرب عن المجموع الثقافي المصري والكنعاني والبابلي‏!‏ ثم يبين أن اللغة العربية المعاصرة قد تطورت عن اللغة الآرامية‏,‏ التي تطورت بدورها عن اللغات المصرية والكنعانية والاناضولية والآشورية البابلية‏,‏ حيث توجد في أصولها جميعا العناصر الأساسية للغة العربية‏!‏ ويفسر تشويه الغرب لتاريخ وتعريف العرب برغبته في جعل العبرانيين الجدود الساميين لحضارة العرب ولتبرير عدوانه علي العرب الباديء منذ اضطهاده الكنائس الشرقية وشنه الحروب الصليبية‏!‏
وقد زعمت في مقال سابق عن التاريخ الحقيقي للعرب أن قصور معرفة التاريخ الحقيقي للعرب‏,‏ والتباس مفهوم العروبة وتعريف العرب‏,‏ هو ما يفسر الدور السلبي للكثيرين من قادة الرأي العام العربي في الترويج لعوامل فرقة العرب‏,‏ بدلا من دورهم في التنوير الإيجابي بواقع الوحدة رغم التنوع بين الشعوب العربية‏!‏ ولست قوميا عربيا‏!‏ بل أقول هذا من موقع الوطنية المصرية‏,‏ مدركا أن عهد مصر بالتعريب يقل عن ربع تاريخها المكتوب‏,‏ ومعتزا بالانتماء للحضارة المصرية القديمة‏!‏ التي يستنكر الجاهلون الفخر الواجب باسهامها الرائد في خلق الحضارة وصنع الضمير‏.‏ والحديث عن التاريخ الحقيقي للعرب تبرره حاله فقدان الاتجاه بين صفوف النخبة السياسية والثقافية المصرية ازاء مسالة دور مصر العربي‏!‏ اقصد توزعها بين‏:‏ موقف وطني انعزالي يعززه واقع تفكك العالم العربي‏!‏ وموقف ليبرالي مستغرب ينشد الالتحاق بالغرب‏!‏ وموقف اسلاموي سلفي يعلي فكرة إحياء دولة الخلافة علي حساب الولاء الوطني لمصر والرابطة العربية الوثيقة‏!‏ وموقف‏'‏ قومي عربي‏'‏ يغذيه حنين الي زمن صعود الدعوة الناصرية للقومية العربية بعد أن ولي وانقضي بما له وما عليه‏!‏
وعود علي بدء الي الجذور المشتركة للغتين الهيروغليفية والعربية‏,‏ نرصد ما سجله الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح في الجزء الأول من كتابه‏'‏ حضارة مصر القديمة وآثارها‏'‏ من أن الصبغة السامية قد ظلت أكثر وضوحا في المفردات المصرية القديمة خلال ثلاث مراحل أساسية طويلة‏.‏ المرحلة الأولي‏,‏ كانت عصور التكوين الثقافي التي سبقت العصور التاريخية واستمرت خلال الألف الرابع ق‏.‏م‏,‏ وكان جزء كبير من أهل مصر خلالها من نفس جنس أصحاب اللغة السامية الغربية‏,‏ وقد ظهرت ألفاظ هذه المرحلة في نصوص الدولة القديمة‏.‏ والمرحلة الثانية‏,‏ سبقت عصور الدولة الوسطي واستمرت خلالها‏,‏ واستقبلت مصر إبانها جماعات متفرقة من الرعاة والتجار والمهاجرين ومن عمال المناجم والأرقاء الأموريين‏(‏ الساميين‏),‏ واتسعت صلاتها ببلاد الشام حتي أصبحت لغتها مفهومة عند بعض أهل لبنان‏.‏ والمرحلة الثالثة سبقت بداية الدولة الحديثة واستمرت خلالها‏,‏ واندفعت إلي مصر في أوائلها جماعات سامية عدة تحت ضغط هجرات آرية شمالية‏,‏ ثم مدت مصر نفوذها السياسي والحضاري علي نواحي الشام وأطراف العراق‏.‏ كما شاعت في العبارات المصرية الدارجة مفردات سامية كثيرة يصعب تحديد أزمنتها‏,‏ وتجاهلتها المتون الأدبية الرسمية عصورا طويلة‏,‏ حتي سجلتها الكتابة القبطية منذ القرون الميلادية الأولي‏.‏
وقد ظلت صلات لغة المصريين بالمجموعتين اللغويتين السامية والحامية موضع بحوث علمية مسهبة منذ أوائل القرن الماضي حتي الآن‏.‏ وتكشف البحوث أن اللغة المصرية القديمة قد اشتركت مع أخواتها الساميات في خصائص عدة‏,‏ كان من أوضحها وجود العين والحاء والقاف في حروفها‏.‏ ولكن لم يؤد التقارب بين اللغة المصرية وبين جاراتها في الشرق والغرب والجنوب إلي ضياع شخصيتها اللفظية إطلاقا‏.‏ ولم تكن المفردات الساميات غير قلة قليلة من كثرة كثيرة من مفردات ابتدعها المصريون‏,‏ بوحي بيئتهم‏,‏ وبما يناسب مطالب حضارتهم‏,‏ وما يتفق مع أذواقهم وتخيلاتهم‏.‏
والواقع أن المصريين وإن شاركوا إخوانهم الساميين في التعبير عن العين بلفظ عين‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ إلا أنهم ابتدعوا للعين ستة أسماء أخري‏,‏ فضلا عن عدد من الصفات‏!‏ وعبروا عن السماء بنحو أربعين اسما وصفة‏!‏ وعبروا عن حركات المشي في الذهاب والإياب بنحو أربعين فعلا‏!‏ وظل ذلك شأنهم في التعبير عن كل ما أحاط بهم وعاشوا فيه ووصفوه‏.‏ كما احتفظ المصريون للغتهم بمبادئ نحو وصرف ميزت بينها وبين غيرها من لغات العالم القديم‏,‏ وظلت أكثر دلالة في تصوير شخصية مصر اللغوية المتميزة‏,‏ وإن ضمنوها قواعد ومفردات أخري تبين استمرار صلاتهم بجيرانهم الأقربين‏.‏
 [email protected]

 

المزيد من مقالات د‏.‏ طه عبد العليم
 

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 125 مشاهدة
نشرت فى 11 مايو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,733,659