دور الأسرة في نشأة الأخلاق عند قدماء المصريين
بقلم: د‏.‏ طه عبد العليم
في مصر وصلت العلاقات الأسرية إلي درجة سامية من الرقي‏,‏ وأفضت إلي تصورات أخلاقية متماسكة عن السلوك الحميد والسلوك المعيب‏,‏ وساد الاعتقاد بأن التحلي بالأخلاق الفاضلة يقوم علي أساس السلوك الذي يعامل به أفراد أسرته‏.
 
 

 

‏ منذ بداية عصر الأهرام قبل أكثر من خمسة آلاف سنة‏!‏ ولم ينفصل بناء الحضارة المادية عن بناء مكارم الأخلاق في مصر القديمة‏!‏ ولم ينل شعب آخر في بقاع العالم القديم سيطرة علي عالم المادة مثل ما نال قدماء المصريين في وادي النيل‏,‏ وهو ما تنطق به آثار مصر الخالدة‏.‏ ورغم هذا نجد‏,‏ في‏'‏ متون الأهرام‏'‏ إشارات فريدة عن الأخلاق‏,‏ وتكشف المحاكمة أو الحساب في‏'‏ الحياة الآخرة‏'‏ عن أقدم تقدير للسلوك بصفته مرضيا‏,‏ أو غير مرض في المسرحية المنفية‏,‏ التي كتبت قبل وفي بداية عصر الأسرات‏.‏
وقد سجلت أقدم دور في تطور الإنسان الأخلاقي‏,‏ وأعظم خطوة في تطور الحضارة‏.‏ ثم تظهر الخطوة التالية لتطور الأخلاق في حياة الأسرة المصرية القديمة‏,‏ وهو ما يرصده مندهشا عالم المصريات الأمريكي الرائد جيمس هنري بريستد في بحثه العظيم عن فجر الضمير‏!‏ مسجلا أن الأشراف منذ عصر بناء الأهرام قد جمعوا صفاتهم الحسنة في عبارة تقول‏:'‏ كنت إنسانا محبوبا من والده‏!‏ وممدوحا من أمه‏!‏ ومحبوبا من إخوته وأخواته‏'.‏ ونجد أحد أشراف الوجه القبلي عاش قبل نحو أربعة آلاف وسبعمائة سنة يقول في نقوش قبره بعد أن عدد الكثير من أعماله الطيبة‏:'‏ إنني كنت إنسانا محبوبا من والده‏!‏ وممدوحا من والدته‏!‏ وحسن السلوك مع أخيه‏,‏ وودودا لأخته‏!'‏ ويؤكد بعد فترة أحد المقربين من الملك من أهل جنوب الصعيد‏:'‏ ترك والدي وصية لمصلحتي لأني كنت طيبا‏...‏ وإنسانا محبوبا من والده‏!‏ ممدوحا من والدته‏!‏ ويحبه كل إخوته‏!'‏
وكان البر بالوالدين من أهم الفضائل البارزة في عصر الأهرام‏,‏ ونجد في النقوش القديمة مرارا وتكرارا في‏'‏ جبانات الأهرام‏'‏ أن مقابرها الضخمة كانت من صنع الأبناء البررة لآبائهم المتوفين‏!‏ ونجد الابن يعد لوالده مدفنا فاخرا‏!‏ ويذكر أحد الأبناء في عصر الأهرام العتيق في نقوش قبره‏:'‏ لقد عملت علي أن أدفن في نفس القبر مع‏(‏ والدي‏)!..‏ ولم أفعل ذلك لأني لست في مكانة تؤهلني لبناء قبر ثان‏,‏ بل فعلته لكي أكون معه في المكان عينه حتي أتمكن من رؤيته كل يوم‏'!‏ ونري حالة أخري أعظم في بر الابن بأبيه أيضا في قصة‏'‏ سبني‏'‏ حارس الباب الجنوبي‏,‏ أي المحافظ علي الحدود المصرية من جهة السودان‏.‏ فقد حدث أن قام‏'‏ مخو‏'‏ والد‏'‏ سبني‏'‏ برحلة تجارية خطيرة في إقليم معاد بقلب السودان‏,‏ فانقض عليه بعض الهمج وذبحوه‏.‏ فلما سمع ابنه قام فورا برحلة تعرضت فيها حياته للموت ليستخلص جثمان والده‏,‏ وأحضره ليدفن في مصر‏!‏ ولا يزال قبر‏'‏ سبني‏'‏ باقيا في أسوان‏,‏ بنقوشه المدونة لما قام به الابن نحو أبيه‏!‏
وفي المناظر المنقوشة علي الآثار‏,‏ التي تركتها لنا أقدم طائفة أرستقراطية عرفت في التاريخ القديم‏,‏ نشاهد رسوما جميلة زاهية الألوان تقدم بيانا خلابا عن الحياة اليومية لأسر نبلاء عصر الأهرام‏.‏ وفي المناظر المحفورة علي جدران مزارات مقابر‏'‏ منف‏',‏ والتي تمثل حياتهم نشاهد صاحب إحدي الضياع التي كانت تحيط بمدينة‏'‏ منف‏'‏ منقوشا علي الجدار يصحب معه زوجته في جولاته بأرجاء ضيعته الشاسعة‏,‏ وتشاطره زوجته كل حياته وكل أعماله وترافقه في كل لحظة‏,‏ وأطفالهما في صحبتهما دائما‏!‏ ونشاهد رسما لنبيل آخر جالسا بحديقة منزله‏,‏ وأطفاله أمامه يلعبون‏.‏ وتؤلف هذه النقوش أول مظهر معبر عن حياة الأسرة بقي لنا من العالم القديم‏!‏
ويقول المؤرخ لنشأة الأخلاق في مصر أن الاعتبار الأول في اهتمامه وغيره من علماء المصريات بتلك الرسوم أنها أعمال فنية‏,‏ ومصادر تستقي منها المعلومات عن حياة المصريين القدماء في الزراعة والصناعة‏,‏ ثم حياتهم الاجتماعية‏.‏ علي أن العلاقات الأسرية السعيدة الودودة‏,‏ التي تنطق بها تلك النقوش تعد كشفا ذا أهمية أساسية في تاريخ الأخلاق‏;‏ حيث تقدم برهانا تاريخيا قاطعا علي أن إدراك الأخلاق نبتت جذوره من حياة الأسرة‏!‏ وفي المصادر المصرية التي يرجع عهدها إلي النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد‏,‏ نجد أدلة تاريخية تظهر لنا ولأول مرة ما وصل إليه رواد علم النفس الاجتماعي المحدثون من‏'‏ أن الوازع الأخلاقي في حياة الإنسان نبت من العلاقات الأسرية‏'.‏
ويستشهد مؤلف فجر الضمير باستنتاجات مكدوجال في‏'‏ مدخل الي علم النفس الاجتماعي‏':‏ من عاطفة حنان الوالدين ومن الدافع الذي يحدو بهما إلي الحب والرعاية‏,‏ ينشأ الكرم والاعتراف بالجميل والحب والشفقة وحب الخير وكل أنواع الخلق المجردة عن الأنانية‏..‏ ومن تلك العاطفة تنبت الجذور الرئيسية لكل هذه الصفات‏,‏ التي لولا حنان الوالدين ما وجدت قط‏..‏ وفي المقابل فان كل غلطة يرتكبها الطفل تثير الغضب المعبر عن السخط الأخلاقي‏.‏ وعلي هذا السخط الأخلاقي بنيت أهم أركان العدالة‏!‏ ومعظم قواعد القانون‏!‏ ورغم التناقض البادي‏,‏ فإن كلا من الرأفة والعقاب تضرب بوشائجها العريقة في غريزة الأمومة والأبوة‏!‏
ويواصل بريستد قائلا‏:‏ إنه بينما كان السلوك الحسن محصورا علي الأرجح في دائرة الأسرة في أول الأمر‏,‏ فإن نطاقه قد أخذ يتسع حتي صار يشمل الجيرة أو الطائفة‏!‏ ولم يبق الوازع الخلقي مقتصرا علي علاقة الإنسان بأسرته وجيرانه أو المجتمع الذي يعيش فيه فحسب‏,‏ بل بدأ تأثيره يظهر قبل عصر الأهرام بزمن طويل في واجبات الحكومة نحو عامة الشعب‏!‏ وهكذا‏,‏ نجد في عصر الأهرام أن الوزير العادل‏'‏ خيتي‏'‏ قد صار مضرب الأمثال بسبب الحكم الذي أصدره ضد أقاربه عندما كان يرأس جلسة للتقاضي كانوا فيها أحد الطرفين المتخاصمين‏,‏ إذ أصدر حكمه ضد قريبه دون أن يفحص وقائع الحال‏,‏ وكان ذلك منع تورعا عن أن يهتم بمحاباة أسرته أو ممالأتها ضد خصومها‏!‏ وتمدنا حكم‏'‏ بتاح حتب‏'‏ بأقدم نصوص موجودة في الأدب العالمي كله للتعبير عن السلوك المستقيم‏.‏ وتسود جميع حكم ذلك الوزير والسياسي روح الشفقة الكريمة‏,‏ وهي تبتدئ في نظره أولا ببيت الرجل وأسرته التي كانت تعد رابطتها علي أعظم جانب من الأهمية والمكانة‏;‏ حيث كانت مسئوليات الأسرة في وصاياه إلي ابنه أهم من الأصدقاء‏.‏ فنراه يقول‏:'‏ اجعل قلبها فرحا ما دمت حيا‏,‏ فهي حقل مثمر لسيدها‏!..‏ وإذا كنت رجلا ناجحا‏,‏ وطد حياتك المنزلية‏,‏ وأحب زوجتك في البيت كما يجب‏'!‏ وهو حب عملي‏,‏ إذ يقول‏:'‏ أشبع جوفها واستر ظهرها‏'!‏ فالزوج الكيس هو الذي يجعل زوجته سعيدة‏:‏ أولا‏,‏ بالمحبة التي تلزمه أن يفسح لها في قلبه الاعتبار الأول‏!‏ ثم يأتي بعد ذلك بمستلزمات الحياة من غذاء وملابس‏!‏ ثم بالكماليات كالعطور والكريمات‏!‏
ورغم أن الوزير المسن كان يقدر تماما قيمة النجاح الدنيوي وإحراز الثروة فقد كان يري من الواجب ألا يطغي علي روابط الأسرة‏.‏ ولما كان الطمع من أكبر الصفات الذميمة التي تفكك الروابط الأسرية‏,‏ تراه يحذر ابنه‏,‏ فنراه يقول‏:'‏ لا تكونن شرها في القسمة‏..‏ ولا تطمعن في مال أقاربك‏!‏ وإذا أردت أن يكون خلقك محمودا وأن تحرر نفسك من كل قبيح فاحذر الشراهة فإنها مرض عضال لا يرجي شفاؤه والصداقة معها مستحيلة‏'!‏ وقد شفع‏'‏ بتاح حتب‏'‏ هذه الوصايا‏,‏ التي تنطق بما للروابط الخاصة بالأسرة من قيمة عظيمة في بيت الإنسان‏,‏ بوجوب احترام أهل بيوت غيره ولو كانوا من غير ذوي قرباه‏,‏ فنجده يحذره من محاولة الاقتراب من النساء‏!‏ وهكذا‏,‏ صار السلوك المستقيم أمرا تقليديا وحكمة غالية يرثها الابن عن أبيه‏.‏ وللحديث بقية‏.‏
[email protected]

 

 

المزيد من مقالات د‏.‏ طه عبد العليم
المصدر: مؤسسة الأهرام
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 601 مشاهدة
نشرت فى 23 مارس 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,623,895