مـركــز بحوث القـرآن الكــريم والسـنة النبـوية
المؤتمر العلمي العالمي الثاني
التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون
بحث بعنوان :
التراث المنقول ومناهج النظر فيه
(التفسير بالمأثور أنموذجاً)
أ.د . عيادة ابن أيوب الكبيسي
المحرّم 1430هـ – يناير 2009م
"التراث المنقول ومناهج النظر فيه"
التفسير بالمأثور أنموذجا
الحمد لله الذي أبدع الخلق على أحسن نظام، وأقام دلائل القدرة على وجه الإتقان ودقة الإحكام، وهدى إلى طريق الحق من شاء من الأنام، أنزل سبحانه الكتب ثم توجها بالقرآن العظيم فكان مسك الختام، وأرسل الرسل ثم ختمهم بأكملهم وأفضلهم عليه وعليهم الصلاة والسلام.
والحمد لله الذي جعلنا من أمته، ونسأله تعالى أن يوفقنا لإحياء سنته، وأن يتوفانا بفضله على ملته، حتى نلقاه على الرضا والمحبة آمين.
وبعد:
فإن مدح العلم والثناء على العلماء في الإسلام معلوم، والآيات الكريمة في ذلك مبثوثة في ثنايا الكتاب الكريم، ومن ذلك آية فذة جاء فيها الثناء على من عمل بالعلم على الإطلاق، حيث يقول تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}الزمر/9، فنزّل يعلمون منزلة اللازم أي المتصفون بصفة العلم، وفيه إشارة ـ كما يقول ابن عاشور ـ إلى أن الإيمان أخو العلم، لأن كليهما نور ومعرفة وحق.
كما أنه أخبر عن حقائق كونية متعددة، وذكر مشاهد كونية متنوعة، كان ولم يزل مجال الدراسة والبحث فيها مفتوحا أمام العلماء، وما أسفرت وتسفر عنه مكتبة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم من الأبحاث المبهرة خير شاهد وأوضح دليل.
وبعد النظر في أهداف هذا المؤتمر المبارك (التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون)، والتمعن في محاوره، استخرت الله تعالى ورأيت أن أكتب في المحور الثاني وتحت فقرة:
"التراث المنقول ومناهج النظر فيه":التفسير بالمأثور أنموذجا
محاولا إبراز التكامل المعرفي فيما ورد في تفسير بعض الآيات من الآثار، وما كشف عنه العلم الحديث، وبيان مدى الترابط بينهما بما يعدّ إضافة وبناء، والتحذير من التسرع في تجاوز المأثور وإلغائه، بحجة العصرنة، أوالحداثة، أودعوى ضرورة التجديد في الدين، من غير تفريق بين الجديد والتجديد!! لما لذلك من أهمية كبرى في الدراسات القرآنية، لاسيما في أيامنا هذه، التي كثرت فيها الانحرافات التفسيرية، ولتباين أنظار العلماء والباحثين في التفسير بالمأثور من حيث القبول والرفض.
وقد بنيت خطة البحث على:
مقدمة وتمهيد ومبحثين وخاتمة، على النحو الآتي:
المقدمة: وهي هذه.
التمهيد: أهمية التفسير المأثور، وفيه مطلبان:
الأول: المراد بالمأثور.
الثاني: بيان أهمية ما صحّ منه.
المبحث الأول: موقف العلماء والباحثين منه، وفيه ثلاثة مطالب:
الأول: موقف الرفض، ومستنده.
الثاني: موقف القبول، وأدلته.
الثالث: المناقشة والترجيح.
المبحث الثاني: علاقته بالتفسير المعاصر، وفيه ثلاثة مطالب:
الأول: كونه ركيزة الانطلاق في التفسير.
الثاني: نماذج من المرفوع، مقارنا بمعطيات العصر.
الثالث: نماذج من سوى المرفوع، مقارنا بمعطيات العصر.
(وفيه بيان التكامل المعرفي في الجمع بين التفسيرين القديم والحديث بما يعدّ إضافة للآّحق إلى السابق من غير نفور أو تعارض، مع بيان الفرق بين الجديد المختلق والتجديد لما سبق).
الخاتمة: وفيها أهم ما توصل إليه البحث من نتائج.
ثم ذكر بعض التوصيات. والله تعالى هو الموفق والمستعان.
أهمية التفسير المأثور
المطلب الأول: المراد بالمأثور.
ونبدأ ببيان المراد بالتفسير بالمأثور، وذلك يقتضينا أن نعرف باختصار كلا من التفسير والمأثور، ثم نوضح المراد بذلك، وإنما قلنا باختصار لأن المقصد من هذا البحث ليس الحديث عن التفسير بالمأثور، وإنما بيان أهميته وإبراز التكامل المعرفي بينه وبين ما يتبعه من تفاسير معاصرة، فنقول وبالله تعالى التوفيق:
أما التفسير لغة: فإن محور مادته هو الكشف والإيضاح، ومنه قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} الفرقان/33، فالفسر الإبانة وكشف المغطى، يقال: فسرت اللفظ فسرا، من باب ضرب ونصر([1])، وقال الراغب: الفَسْر والسَّفْر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول، وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار، فقيل: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح([2]).
وأما اصطلاحا: فقد تعددت تعريفاته، ولعل أحسنها وأجمعها قول من قال:
هو علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد، من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية([3]).
وسر ترجيح هذا التعريف على غيره لأمرين:
الأول: كونه مختصرا وجامعا مانعا.
الثاني: لقيد بقدر الطاقة البشرية، إذ الوصول إلى مراد الله تعالى متعذر، ولملاحظته الغاية من نزول القرآن الكريم.
وأما المأثور،لغة: فهو مأخوذ من الأثر، وهو بقية الشيء، جمع آثار وأثور، والأثر: مصدر قولك أثرت الحديث آثره، إذا نقلته عن غيرك ورويته، ومن هنا قيل: حديث مأثور أي يخبر الناس به بعضهم بعضا أي ينقله خلف عن سلف([4]).
واصطلاحا: ما جاء في القرآن الكريم نفسه، أو ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه رضي الله تعالى عنهم، بيانا لمراد الله تعالى من كتابه([5]) .
المطلب الثاني
بيان أهمية ما صحّ منه
بعد الوقوف على تعريف التفسير المأثور وبيان المراد به، تتجلى لنا مدى أهميته، وضرورة العناية به، والوقوف عنده، والحذر من تجاوزه، وندرك أنه من أفضل أنواع التفسير، ولذا فقد كانت العناية به مبكرة، فكان أول علوم القرآن تدوينا، وكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا([6]).
وإنا لنجد في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من دواوين السنة المطهرة، أبوابا خاصة بالتفسير، جمع فيها أصحاب تلك الكتب ما صح عندهم من التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على أهمية هذا النوع من التفسير، أنه سنام معرفة معاني القرآن وإدراك مراميه، وأنه لابد منه لمن أراد أن يستجيب لله تعالى فيتدبر كلامه، وكذا لمن أراد أن يفسر بالرأي يتحتم عليه أن يطلع على أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني ونحوها من العلوم اللازمة، وهذه كلها لا تؤخذ إلا بالنقل الصحيح عن التفسير بالمأثور بل هي نابعة منه([7]) .
إن قيمة هذا التفسير وأهميته إنما ترجع إلى قيمة مصادره الأصلية وأهميتها، ولا يخفى على الباحثين في الدراسات القرآنية، أن تلك المصادر هي أحسن طرق التفسير بلا خلاف كما نص على ذلك علماء علوم القرآن.
أما ما ثبت في القرآن نفسه، فأمره واضح إذ هو قول الله تعالى، والله جل وعلا أدرى بأسرار كلامه، وهو سبحانه وتعالى أعلم بمراد نفسه من غيره([8]) ، ولذا فقد عد العلماء هذا اللون من التفسير في الدرجة الأولى، وأنه من أعلى المصادر وأجودها، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (إن أصح الطرق في ذلك ـ أي في التفسير ـ: أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر)([9]).
وإذا علمنا أن تفسير القرآن بالقرآن لا يعني تفسير المفردات والجمل فحسب، وإنما يعني وجوها أخر من مثل: تفسير العام بالخاص، والمطلق بالمقيد، والمجمل بالمبين، وتفسير ما جاء موجزا بما جاء مطنبا، وتفسير إشكالات معينة، ونحو ذلك.
إذا علمنا هذا أدركنا أن ثمة قدرا لا بأس به يمكن تحصيله من هذا اللون من التفسير.
ومثل هذا يقال في تفسير النبي صلى الله عليه و سلم، الذي يأتي في الدرجة الثانية من ألوان التفسير، إذ هو صلى الله عليه و سلم المكلف بالبيان والشرح، وأن خير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، مع أنا نقطع بعصمته وتوفيقه صلى الله عليه و سلم([10]) ، كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} النحل/44.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:
إن مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره واجبه ومندوبه، وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته.
وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأويله بنص منه عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله([11]).
ويشير الإمام الشاطبي في موافقاته إلى مسألة مهمة في وجوب الرجوع إلى السنة لفهم القرآن فيقول رحمه الله تعالى:
إن السنة توضح المجمل وتقيد المطلق وتخصص العموم، فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة، وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ، فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره، جاهلا بالكتاب، خابطا في عمياء، لا يهتدي إلى الصواب فيها، إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير، وهي في الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل([12]) .
ويأتي بعد هذين المصدرين المصدر الثالث وهو تفاسير الصحابة رضي الله تعالى عنهم، التي تقع في الدرجة الثالثة، والتي اشتملت على تفاسير كثيرة كانت الحاجة قد اشتدت إليها في زمانهم، لأسباب كثيرة منها([13]) :
اتساع رقعة الإسلام، واختلاط العرب بغيرهم، مما أدى إلى اختلاط الثقافات الوافدة مع المسلمين الجدد بالثقافة الإسلامية وخاصة ثقافة أهل الكتاب اليهود والنصارى، وفلسفة الشرق المتمثلة بالمجوس وغيرها، ودخول أناس جدد من غير العرب في الدين الحنيف، ونشوء جيل من أبناء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وغيرهم لم يعايشوا الوحي ولم يشهدوا وقائع التنزيل.
فهذه الأسباب وغيرها جعلت الحاجة ماسة إلى الرجوع إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لمعرفة الحق من الباطل، وتمييز الصحيح من غيره.
التفسير المأثور ليس محض نقل:
تجدر الإشارة والتنبيه هنا إلى أن التفسير بالمأثور لا يعني محض النقل، فلا يقال إنه لا جهد يذكر لمن يفسر به، وأن عمله مقصور على نقل الأقوال، وجمعها في مكان واحد، دون إعمال الفكر والتأمل، هذا غير صحيح، بل للعقل دخل فيه.
وذلك:
أن التفسير المأثور إن كان من النوع الأول وهو تفسير القرآن بالقرآن، فإنه لا يمكنه ذلك دون تأمل دقيق، وفكر ثاقب، سواء كان من باب تفسير آية بآية، أو من باب تفسير العام بالخاص والمطلق بالمقيد ونحو ذلك فكله يتوقف على التروي والتأمل، ولكن لا بد من أن نفرق بين تفسير القرآن بالرأي، وبين استخدام العقل في بيان تفسير القرآن بالقرآن، فتأمل([14]) .
وإن كان من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن للعقل أيضا دخلا في تمييز الصحيح من غيره، وتمحيص الروايات، والموازنة والترجيح، لينقل نقل المتدبر المتبصر، ولا يكون كحاطب ليل فينقل ما صح وما لم يصح، أو يضع الشئ في غير موضعه!! كما هو شأن بعض التفاسير التي ملئت بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبالإسرائيليات الباطلة التي لا يؤيدها شرع ولا عقل.
ولذا فإنا حينما ندعو إلى اعتماد المأثور، لا نريد بذلك اعتماده على كل حال وكيفما ورد، إنما نريد اعتمادا قائما على النظر والتأمل والتمحيص والنقد.
المبحث الأول
موقف العلماء والباحثين منه
على الرغم من أهمية التفسير بالمأثور ـ كما تقدم ـ وبُعْد منزلته، وعلو رتبته، نجد أن من بين الباحثين من يقلل من شأنه، بل ويرفض الاعتماد عليه، أو الانطلاق منه، وعليه فإن كلمة الباحثين لم تتفق على قبول هذا اللون من التفسير، ولم تعتمد عليه ليكون ركيزة الانطلاق في فهم مراد الله تعالى، ولكن هل يفهم من ذلك أن أدلة الفريقين متكافئة؟
هذا ما سنعرضه في هذا المبحث، ولنبدأ مع القائلين بالرفض، وذلك بعرض مستندهم فيما ذهبوا إليه، ثم نعرض أدلة الفريق الثاني فالمناقشة والترجيح، وبذلك تكون المطالب ثلاثة وهي:
المطلب الأول: موقف الرفض ومستنده.
يمكن أن نقسم الذين تحفظوا من التفسير بالمأثور إلى قسمين:
القسم الأول: هم الذين قالوا: إن أكثر التفسير بالمأثور قد دخله الدخيل، والتبس الصحيح منه بالعليل، ولم يصح منه إلا النزر القليل، كما وإن عامته منقول من كتب بني إسرائيل، ولذا فقد أطلقوا القول في رده، وعدم قبوله([15]).
وجواب هؤلاء أنا نسلم أن التفسير بالمأثور قد دخل فيه الدخيل، ولكن لا نسلم أنه لم يصح منه إلا القليل، بل قد صح منه قدر لا بأس به، وإن جهابذة العلماء قد ميزوا الصحيح من غيره، ونخلوا ذلك وغربلوه كما صنعوا مع الحديث الشريف، على أن دراسة منهج الأسانيد والمتون لدى النقاد المتبصرين كفيل ببيان الصحيح من غيره، فما صح من ذلك أخذ وعمل به، وما لم يصح رد وطرح([16]).
وأما القسم الثاني: فهم الذين رفضوا التفسير بالمأثور، ولم يلتفتوا إلى تقسيمات العلماء له على نحو ما تقدم، وأغلب هؤلاء من الحداثيين ـ على تفاوت منهم في ذلك ـ، ومثلهم من يسمون أنفسهم بالقرآنيين وأضرابهم.
وأراني لست بحاجة إلى نقل أقوالهم هنا، لأن مدرسة هؤلاء قد قامت على رفض المأثور جملة وتفصيلا، بل إن الأمر قد تعدى إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث لم تسلم قدسية النص القرآني الكريم من غمزهم، وأما السنة فقد تناولتها أقلامهم بالنقد اللاذع، فطعنوا في دواوينها حتى في أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وأكثرها قدسية لدى علماء المسلمين وعامتهم، ويكفي أن نحيل إلى ما سودوا به صحائف كتبهم، ولينظر من شاء إلى مواضع ذلك الهراء فيها، إذ معظمه أو كله لا يستأهل أن يوضع على مائدة النقاش العلمي، ولولا أنا مضطرون إلى الإشارة إليه، لما ذكرنا شيئا من ذلك([17]).
المطلب الثاني: موقف القبول وأدلته.
بعد أن بينا أهمية التفسير بالمأثور، ونقلنا طرفا مما قاله العلماء في ذلك، نبين في هذا المطلب حكم هذا النوع من التفسير، وهل يجب الأخذ به والوقوف عنده أم لا؟
وذلك ببيان آراء العلماء والنظر في أحكامهم، فمن ذلك:
ما قاله الإمام البغوي رحمه الله تعالى وهو يفسر قوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} النحل /44: أراد بالذكر الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبينا للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة([18]).
ويقول الإمام الثعالبي رحمه الله تعالى: وليس لأحد مع الحديث إذا صح نظر([19]).
وقد تقدم كلام ابن تيمية([20]) في هذا الخصوص ـ وهو يبين أصح طرق التفسير ـ، وقد نقل كلامه ورضيه ابن كثير والسيوطي وغيرهما رحمهم الله تعالى جميعا.
وأما المعاصرون، فيقول الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي: يجب الأخذ بالتفسير بالمأثور إذا صحّ، ولا يجوز العدول عنه والله تعالى أعلم([21]).
وينقل اهتمام السلف بالتفسير بالمأثور ووقوفهم عنده،واجتماعهم على ذلك فيقول:
لا خلاف بين السلف في قبول هذا النوع من التفسير والإشادة به، والاكتفاء بوروده عما سواه([22]).
ويقول الدكتور محمد زغلول: ولذا فقد اتفق العلماء على حجة الاعتماد على التفسير بالمأثور والأخذ به، إذا كان هذا المأثور الذي يفسر به القرآن قرآنا، أو سنة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما قول الصحابة والتابعين فمن العلماء من قال بالاعتماد على أقوالهم في تفسير القرآن، وهذا ما ذهب إليه كثير من العلماء المفسرين، وهو الأقرب إلى الصواب كما أرى([23])، ثم نقل قول ابن كثير : (إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال).
أقول: ذكر التابعين مع الصحابة في اعتماد التفسير فيه نظر، حيث إن الراجح أن أقوال التابعين ليست حجة في التفسير ـ إلا إذا أجمعوا ـ([24]) ، ولذا نرى أن الحافظ ابن كثير اقتصر على ذكر الصحابة رضي الله تعالى عنهم([25]).
وكل ما تقدم من بيان الأهمية ووجوب القبول، والتحذير من الرد والإهمال والإغفال إنما هو لما صح سنده بنقل الثقات العدول، أما ما كان بخلاف ذلك ـ فيجب رده ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به، اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه على ضلاله وخطئه حتى لا يغتر به أحد([26])، وإلى هذا يشير ما روي عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى أنه قال: (لا يجوز أن يكون الرجل إماما حتى يعلم ما يصح مما لم يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم)([27]).
المطلب الثالث: المناقشة والترجيح.
بعد ما تقدم من الوقوف على آراء الفريقين وطرح أدلتهم، نشرع في المناقشة والترجيح ليتبين لنا وجه الحق في ذلك، ولدى التأمل في تلك الأدلة نرى أن الحق في هذه القضية إنما هو مع من ذهب إلى وجوب الأخذ بالتفسير بالمأثور، واعتباره الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه ما سواه من أوجه التفسير، وذلك:
لأن التفسير بالمأثور إن كان من النوع الأول وهو تفسير القرآن بالقرآن، فلا شك في قبوله، لأن الله تعالى أدرى بكلامه، وإن كان من النوع الثاني وهو التفسير بالسنة الصحيحة فكذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المكلف ببيان كلام ربه، ولا بيان بعد بيانه عليه الصلاة والسلام، وأما إن كان من النوع الثالث، وهو التفسير بأقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: فالأمر لا يخلو إما أن يكون قد سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا معدود من النوع الثاني، وإما أن يكون من تفسيرهم الذي بنوه على ما منحهم الله تعالى من أدوات الاجتهاد، وهم أهل لذلك بلا ريب، فيتعين أخذه والقبول به، لاعتبارات متعددة منها([28]) أنهم كانوا:
ـ شاهدي عيان لأحوال الوحي وقرائنه وأسبابه.
ـ أهل اللسان العربي، وأصحاب البلاغة والفصاحة والبيان.
ـ أعلم الناس بعادات العرب وأحوالها وأخبارها.
ـ الجيل المثالي الذي لم يشهد التاريخ مثيلا لهم في علمهم وإدراكهم وسعة نظرتهم لأمور الحياة والكون والإنسان.
ـ صفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم، وشدة إخلاصهم.
ـ كبير محبتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وعظيم تضحيتهم لنشر دينهم.
حتى إن الحاكم أطلق القول بأن ما صح وروده عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم له حكم المرفوع([29]) ، إلا أن غيره قيده بما كان في بيان النزول ونحوه مما لا مجال للرأي فيه، وإلا فهو من الموقوف، قال الزرقاني بعد أن نقل ما تقدم عن الحاكم:
(ووجهة نظر الحاكم ومن وافقه، أن الصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف لهم النقاب عن معاني الكتاب، ولهم من سلامة فطرتهم، وصفاء نفوسهم، وعلو كعبهم في الفصاحة والبيان، ما يمكنهم من الفهم الصحيح لكلام الله، وما يجعلهم يوقنون بمراده من تنزيله وهداه([30]).
هذه أقسام التفسير بالمأثور المجمع عليها بين علماء علوم القرآن وأصول التفسير، وهناك من يضيف قسما رابعا، وهو:
تفسير القرآن بأقوال التابعين، ولا نطيل في الكلام عن هذا، ولنقتصر على ذكر القول الراجح في ذلك وهو:
قول التابعي في التفسير ليس بحجة، فلا ينبغي الجمود عند قوله، ولا أن نعطل فهم القرآن، أو نحجم عن تفسيره اكتفاء بفهمه واستغناء بتفسيره، بل يجب أن يكون باب التأمل في الآيات مفتوحا، وذهن من أهّل لاستنباط ما فيها من أسرار ومعارف مشغولا، اللهم إلا فيما أجمعوا عليه، فإن الإجماع حجة ملزمة، وإلى هذا جنح الدكتور الذهبي رحمه الله تعالى حيث قال:
والذي تميل إليه النفس هو أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه بأن كان يأخذ من أهل الكتاب، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه، أما إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره([31]).
أقول: لعل بقاء تفسير التابعين خارج دائرة التفسير بالمأثور هو الأولى، ما لم يكن هناك إجماع منهم ـ والله تعالى أعلم ـ.
المبحث الثاني
علاقته بالتفسير المعاصر
المطلب الأول: كونه ركيزة الانطلاق في التفسير.
إن الدعوة إلى الالتزام بالتفسير بالمأثور، والاهتمام به، والتذكير بوجوب الأخذ به وعدم تجاوزه، لا يعني الجمود عليه، والوقوف عنده، إذ لا يخفى ما في هذه النظرة من قصور، وحجر على الإفادة من فيوضات القرآن غير المحدودة، ذاك الكتاب العظيم الذي قال الله فيه: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}النحل/89، فلا يصح ولا يقبل أن يكون التفسير بالمأثور عائقا عن الانتهال من ذلك المعين الذي لا ينضب.
وإنما يعنى بذلك أن يكون ما صح من التفسير بالمأثور هو الأساس الذي يبني عليه المفسر ما يمكن أن يضيفه من أفهام جديدة، كشفت عنها معطيات العصر، ومستجدات الحياة.
(فالتفسير بالمأثور هو القاعدة الأساسية، والركيزة الجوهرية، التي ينبغي أن ينطلق منها كل مفسر)([32])، وفي هذا يقول الإمام البيهقي في قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}: فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ففيه كفاية عن فكرة من بعده، وما لم يرد بيانه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده، ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد)([33])
ويقول القرطبي وهو يتكلم عن وجوه منع تفسير القرآن بالرأي:
(والوجه الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل..)، إلى أن يقول: (والنقل والسماع لا بد له منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط)([34]).
ويقول الإمام ابن تيمية: (.. إن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزنادقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام)([35]).
ويقول ابن القيم: (إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ، ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلف([36]).
وإلى مثل هذا ذهب القاضي أبو يعلى حيث قال: (وأما تفسير الصحابة فيجب الرجوع إليه وهذا ظاهر كلا أحمد ـ رحمه الله ـ في مواضع من كتاب طاعة الرسول، والوجه فيه أنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، فعرفوا ذلك، ولهذا جعلنا قولهم حجة)([37]).
حتى السيد محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى، الذي يمثل المدرسة العقلانية في عصره، أقر بأهمية التفسير المأثور، فقد قال في مقدمة تفسير المنار:
(وأما الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء التابعين في التفسير فمنها ما هو ضروري أيضا، لأن ما صح من المرفوع لا يقدم عليه شئ، ويليه ما صح عن علماء الصحابة مما يتعلق بالمعاني اللغوية أو عمل عصرهم، والصحيح من هذا وذاك قليل)([38]).
إن الخروج على هذا المنهج، وعدم التقيد بضوابط التفسير، جرّ إلى انحرافات تفسيرية خطيرة، ولا يخفى على المتتبع ما تطالعنا به أفكار الحداثيين، ومن يسمون أنفسهم بالقرآنيين ونحوهم من جنوح عن جادة الصواب، بل ووقوع في بعض الأحيان في الكفر الصراح، والإتيان بأفهام سقيمة لا تستأهل أن توضع على مائدة النقاش العلمي([39])!!
وليس الهدف من هذا البحث عرض ذلك ومناقشته، وإنما أردنا أن نشير إلى أن الذي جرّ إلى ذلك إنما هو الخروج على ذلك المنهج السليم الذي سارت عليه الأمة عبر القرون.
المطلب الثاني: نماذج من المرفوع، مقارنا بمعطيات العصر.
المقصود من هذا المطلب إيراد بعض النماذج من التفسير المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إيراد ما كشف عنه العلم الحديث في الموضع نفسه، وبيان وجه التوافق بين التفسيرين، بما يعد إضافة تفسيرية لا تتعارض مع ما صح من التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن مثل هذا يعدّ لونا من ألوان التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون عنوان هذا المؤتمر المبارك.
والأمثلة على ذلك متعددة، وأرى أن خير مثال واقعي مفيد نذكره هنا هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقوة في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}الأنفال/60، فهذه آية عظيمة فيها أمر إلهي لعباده المؤمنين بأن يبذلوا جهدهم في إعداد ما استطاعوا من قوة لعدوهم([40])، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر هذه القوة بالرمي، كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن القوة الرمي) ثلاثا([41]).
ولا يخفى ما تشهده البشرية اليوم من التطور الهائل في أنواع السلاح، فهل يفهم من الحديث الحصر، وأنه لا يجوز إضافة شيء من التفسير إليه؟ نقول في جواب هذا السؤال: لا شك أن الحصر غير مراد، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهم أنواع الأسلحة وهو الرمي، فلا مانع إذن من إضافة بعض وجوه القوة الأخرى مثل: القوة الاقتصادية والسياسية والعلمية والصناعية فإن اللفظ يتسع لذلك، بل قد يضاف إليها أيّ وجه آخر قد يكشف عنه المستقبل، ما دام اللفظ يتسع له ولا يأباه.
ونظير هذه الآية ما ورد في قوله تعالى عن النحل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} النحل/69.
فتأمل كيف جاءت كلمة {شفاء} مطلقة، وقد صح في الحديث: (أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أخي استطلق بطنه، فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا، ثم جاء فقال: سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال: اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا فبرأ)([42]).
ولا نريد هنا أن نستطرد في ذكر منافع العسل، فتلك حقيقة علمية لا نزاع فيها، وقد أفاض الأطباء في بيان ذلك، إنما نريد أن نبين، أن اللفظ الكريم يبقى متسعا لكل ما يتوصل إليه العلم الحديث من المنافع، فيدخل فيه ما ذكروه من أنه يصلح علاجا:
للمصابين بآفات قلبية، ولمرضى السل الرئوي، وأمراض الكبد، وأمراض العيون، وللالتئام الجروح، وعلاج حموضة المعدة، والنزيف المعدي، والإمساك، والقيئ، وقرح المعدة والاثني عشر، والأمراض الجلدية، وغير ذلك مما بسطه علماء الطب بالأدلة والتقارير الطبية([43])، حتى قال أحد كبار علماء الطب([44]): (إن عسل النحل هو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله في ازدياد مستمر بتقدم الطب، فهو يعطى بالفم، وبالحقن الشرجية، وتحت الجلد وفي الوريد، ويعطى ضد التسمم الناشىء من مواد خارجية مثل الزرنيخ والزئبق والكلوروفورم، وكذلك ضغط التسمم الناشىء من أمراض أعضاء في الجسم مثل التسمم البولى، والناتج من أمراض الكبد والمعدة والأمعاء، وفي الحميات والحصبة وفي حالات الذبحة الصدرية، وفي �
ساحة النقاش