قطر الندى.. زفاف أسطورى يتسبب فى إفلاس مصر!
ثناء حامد طباعة المقالقطر الندى هى أسماء ابنة خمارويه ابن أحمد ابن طولون الذى كان مملوكا تركيا وصل الى البلاط فى بغداد فى عهد المأمون وكان رئيسا لحرس الخليفة.
توفى طولون الأب وعاد الابن والأم الى مصر حيث خدمت الظروف أحمد ابن طولون فتزوجت والدته من باك باك والى مصر التركى الذى كان كعادة حكام الأقاليم فى نهاية حكم العباسيين يستقر الى جانب الخليفة فى بغداد خوفا من أن يدس له ويفقد مكانته و كان فى نفس الوقت يترك من يقوم بشئون البلاد نائبا هناك وهذا ما تم مع أحمد ابن طولون حيث تركه زوج أمه باك باك فى مصر يقوم على شئونها أثناء غيبته.
...............................................
قتل باك باك و عين بدلا منه يارجوخ حما أحمد ابن طولون واليا على مصر، فقام الوالى الجديد بما قام به الوالى القديم بترك مصر لأحمد ابن طولون ليقوم على شؤنها وسافر هو الى بغداد للمكوث بجوار الخليفة، وبذا استتبت الأمور لأحمد ابن طولون وسيطر على البلاد سيطرة تامة وامتنع عن دفع الأموال للخليفة العباسى، وتمكن بذلك من إقامة جيش قوى ودولة قوية فامتدت حدود دولته من برقة غربا حتى الشام شرقا.
كانت الدولة الطولونية على قصر عهدها فهى لم تستمر سوى ثمانية و ثلاثين عاما (254- 292 هجرية ) من أعظم الدول وأغناها، فمدينة القطائع التى أنشأها ابن طولون لتكون عاصمة الدولة التى بقى منها الى اليوم جامعه العظيم واضافة الى ما بناه من قناطر وقصور لدليل على قوة هذه الدولة وثرائها.
ومن الطرائف التى تروى عن عصره أنه بنى بيمارستان لعلاج المرضى من الفقراء بالمجان وكان يتفقده بنفسه ويشرف على المرضى. وكان المريض لا يؤذن له بالخروج الا اذا تمكن من أكل فرخة كاملة ورغيف من الخبر كدلالة على تمام شفائه.
تولى أبو الجيوش خمارويه امارة مصر عقب وفاة أبيه «885م « وكان حين ذاك فى الحادية والعشرين من عمره وعلى الرغم من كون الدولة الطولونية تنضوى تحت لواء الخلافة العباسية من الناحية الروحية الا أن المعارك بين جند الخلافة والدولة الطولونية على حدود الشام كانت معارك مستمرة يخوضها الطولونيون دفاعا عن استقلالهم.
من آيات البذخ الصارخ فى عهد الدولة الطولونية ذلك القصر الذى بناه خماراويه ابن أحمد ابن طولون والذى احتوى على مجلس سماه بيت الذهب. وجاء فى خطط المقريزى ان هذا البيت « طليت حيطانه كلها بالذهب وجعل فيه صورا فى حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته وصور حظاياه والمغنيات اللاتى تغنينه بأحسن تصوير وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص فكان هذا البيت من أعجب مبانى الدنيا « كما احتوى القصر على بركة كبيرة من الزئبق وحدائق للطيور والأسود وكأننا أمام صورة من صور قصور ألف ليلة وليلة.
واعتبر زواج قطر الندى ابنة خمارويه صورة جلية لذلك البذخ الفائق الذى عاشته امتازت به الدولة الطولونية.
عندما تولى خمارويه امارة مصر قرر ان يتبع سياسة السلام والمهادنة مع الخلافة العباسية، وعندما تولى الخليفة العباسى المعتضد بالله الخلافة سنة 892 م انتهز خماراويه الفرصة وبعث سفيره الى بغداد ومعه الأموال والتحف والهدايا النفيسة وأوكل اليه مهمة أن يعرض على الخليفة المعتضد أن يتزوج ولده وولى عهده «المكتفى بالله» من الأميرة قطر الندى فوافق الخليفة على العرض على أن يتزوج هو من الأميرة التى كانت فى الرابعة عشرة من عمرها وكانت ذات جمال فائق بينما كان الخليفة على مشارف الستين. وافق خمارويه على رغبة الخليفة وبدأ الاستعداد لتنفيذ الاتفاق و على اثر عقد الخطبة تم عقد معاهدة سلم وصداقة بين مصر والخلافة، اعترف بمقتضاها الخليفة العباسى لخمارويه بولاية مصر والأراضى الملحقة بها من الفرات شرقا الى برقة غربا.
قدم الخليفة العباسى لقطر الندى صداق قدره عشرة الاف دينار وبالرغم من ضخامة هذا الصداق فى هذا العصر فانه لم يكن الا جزءا يسيرا مما انفقه خماراويه على تجهيزها، فكانت تفاصيل ما أعد لها من نفائس مما لا يصدقه عقل, فمن ذلك أريكة أربع قطع من الذهب وعليها قبة من ذهب مشبك فى كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هون من الذهب، ويرى بعض المؤرخين أن الخليفة العباسى أراد بالزواج من الأميرة المصرية أن يفقر الدولة الطولونية, فقد كان يعلم ما يتسم به خماراويه من الاسراف البالغ والبذخ، فكان اجمالى ما انفق على تجهيز الأميرة 400 ألف دينار وهو مبلغ يضارع دخل دولة بأثرها فى هذا الزمان.
لم يقف هذا البذخ عند تجهيز الأميرة، بل ان خماراويه عندما فرغ من اعداد الجهاز بدأ فى النظر فى أمر تلك الرحلة الشاقة التى ستسير فيها ابنته من مصر الى بغداد, فقرر أن يحولها الى رحلة ممتعة، فأمر بأن يبنى لقطر الندى على رأس كل محطة تنزل فيها فيما بين مصر وبغداد قصرا وثيرا وتفرش فيه جميع ما تحتاج اليه.
خرجت قطر الندى بعد اتخاذ كل الاستعداد للرحلة من مصر فى صحبة عمها شيبان وعمتها العباسة وعدد من الكبراء والحاشية ووصلت معها العباسة الى اخر حدود مصر الشرقية وبنت قرية سميت باسمها «العباسة» وهى لا تزال قائمة حتى اليوم شمال شرق بلبيس.
وصل ركب الأميرة الى بغداد وزفت الى الخليفة المعتضد فى حفلات بازخة عاشت فيها بغداد أيام من البهاء و المرح. وقال فيها على ابن العباس الرومي:
يا سيد العرب الذى زفت له - باليمن و البركات سيدة العجم
شمس الضحى زفت الى بدر الدجي- فتكشفت بهما عن الدنيا الظلم
لم تمض أشهر قلائل على زفاف قطر الندى حتى قتل والدها خماراوية بدمشق، على يد خدمه وهو نائم لدسائس قصر غرامية وخلفه فى امارة مصر ولده «أبو العساكر جيش».
عاشت قطر الندى فى قصر بغداد خمس سنوات فقط من زواجها و توفيت ودفنت داخل قصر الرصافة فى بغداد وكانت وقتها فى الثانية و العشرين من عمرها وعاش الخليفة المعتضد بالله بعد ذلك عامين آخرين.
وهكذا قدم خماراويه ابنته الأثيرة لديه قطر الندى كعربون لاتفاق مع الخليفة العباسى يشترى به سلام واستقرار ملكه وكلفه هذا الاتفاق كل ما فى خزينة مصر من أموال، كما كان آخر مسمار يدق فى جسد الدولة الطولونية ويجهز عليها، فهذه الدولة لم تعش بعد زواج قطر الندى لأكثر من عشر سنوات وتمكن العباسيون بسبب ما آلت اليه أحوال مصر من فقر وعوز بسبب الانفاق الباهظ من الهجوم على مصر وحرق القطائع العاصمة، وارتكبوا فى حق المصريين أكبر الفظائع لعلمهم بمدى حب المصريين للطولونيين.
وهكذا انتهت الدولة الطولونية تلك النهاية المأساوية على الرغم من أنها كانت من أفضل ما شهدت مصر الاسلامية من عصور الدعة والرخاء.
ساحة النقاش