الموجزفي تاريخ السينما   عدنان مدانات

قيل في السينما أنها صناعة وفكر وفن. قيل أيضا أن تاريخ السينما العالمي هو تاريخ الصراع بين السينما باعتبارها صناعة والسينما باعتبارها فنا وفكرا إنساني النزعة.
على جبهة الصناعة، احتدم و لا يزال الصراع يحتدم بين سينما الإنتاج الضخم بتقنياته الباهظة الكلفة وبين سينما أفلام الكلفة البسيطة والموازنة المنخفضة. ودار ويدور الصراع على جبهة الفن بين سينما الجماليات وسينما الترفيه القائم على الحركة والتشويق. أما على جبهة الفكر فقد قام الصراع بين السينما التي تعكس الواقع بصدق وتتضمن قيما إنسانية والسينما التي تقدم واقعا زائفا مصطنعا وتكرس الشخصية الفردية على حساب القيم الاجتماعية الإنسانية.
تجسد هذا الصراع بين السينما صناعة والسينما فنا من خلال الممارسة العملية والنظرية بشكل ملموس وتحدد من خلال الصراع بين السينما الأمريكية وبين السينما في باقي أرجاء العالم. وإلى حد ما يجوز اعتبار هذا الصراع الممتد على مدى القرن العشرين وحتى الآن، شكلا مبكرا من أشكال الصراع ضد الهيمنة الأمريكية، أو ما بات يصطلح على وصفه في زمننا الحالي بالعولمة، في عناصرها الثلاثة: الصناعة والفكر والفن.
على مدى القرن العشرين، وبدءا من العقد الثاني منه، وعبر فترات زمنية متنوعة كان المؤشر الأوضح تعبيرا عن هذا الصراع بجبهاته الثلاث هو بروز التيارات والمدارس السينمائية المختلفة في بعض أرجاء العالم، أحيانا من منطلقات فنية جمالية، وأحيانا من منطلقات فكرية وطنية، وأحيانا أخرى من منطلقات سياسية. وهي تيارات ومدارس، على اختلاف دوافعها وظروفها التاريخية واتجاهاتها، كانت تصب في مجرى واحد في نهاية المطاف،  ويتأثر واحدها بالآخر، وتتفاعل فيما بينها.
جمعت كل تلك التيارات والمدارس السينمائية ما بين النظرية والتطبيق في آن واحد. في بعض الأحيان كان للتطبيق سبق الأقدمية وفي أحيان أخرى كانت البداية تنطلق من النظرية. وفي كل الأحوال تبقى الكتابات النظرية والبيانات التي كانت تصدرها جماعات سينمائية المصدر الأهم للتعرف على مبادئ تلك التيارات والمدارس السينمائية، وهي التي تمنحها اسمها الرسمي.
منذ العقد الثاني من القرن العشرين توالت التيارات والمدارس السينمائية ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر بعض أهم هذه التيارات والمدارس السينمائية: المدرسة التعبيرية الألمانية، السينما الثورية السوفيتية، الواقعية الشعرية الفرنسية، " السينما الحرة " أو الواقعية الاجتماعية البريطانية، الموجة الجديدة في السينما الفرنسية وما انبثق عنها من نظرية " سينما المؤلف "، الواقعية الإيطالية الجديدة، السينما السياسية الإيطالية، " سينما نوفو " أو السينما البرازيلية الجديدة، السينما المباشرة أو " سينما الحقيقة " ( في السينما الفرنسية خاصة )، السينما الألمانية الجديدة، جماعة " الدوغما " الدانماركية.
هذه كلها أسماء لتيارات ومدارس وحركات سينمائية ذات منشأ جمالي و فكري، انتشرت في العالم وكان لها دور كبير في التأكيد على الارتباط الكبير بين السينما والواقع. ومع ذلك فمعظم هذه التيارات اكتسبت طابعا قوميا خاصا بالبلدان التي انبثقت منها وارتبطت بقضاياها ومشاكلها الاجتماعية والإنسانية. وهي كلها تقف، بهذه الدرجة أو تلك، موقفا مناقضا أو حتى مناهضا لتيار السينما الأمريكية المهيمن على أسواق العرض السينمائية في العالم والذي اصطلح على تسميته بالسينما الهوليودية .
كانت " التعبيرية " الألمانية هي المدرسة أو التيار الأول في تاريخ السينما العالمي. عكست هذه المدرسة الفنية بداية النفسية الجماعية الألمانية ما بين عامي 1903 و 1933 والتي اشتدت أزمتها بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. شملت التعبيرية كل أنواع الفنون، لكن تأثيرها على السينما الألمانية بدأ منذ عام 1919 (مع فيلم: مقصورة الدكتور كاليغاري"). ما يميز "السينما التعبيرية" من الناحية الفنية استبدال التصوير الواقعي بالتصوير المؤسلب، حيث الديكورات مبالغ فيها وتعتمد على الخطوط والزوايا الحادة، وحيث الإضاءة شديدة التباين تغلب فيها الظلمة على النور، بهدف التعبير عن الحياة الداخلية المضطربة. وفي " التعبيرية" استعيض عن التناسق الجمالي بالتنافر البصري، في زمن باتت الفوضوية فيه تهدد النظام الاجتماعي.
في العشرينات أيضا ظهرت السينما الثورية في روسيا الاشتراكية على يد مخرجين كبار مثل سيرغي ايزنشتاين وفسيفولد بودوفكين ودزيغا فيرتوف، والتي أرست أسس السينما السياسية التي وضعت السينما في خدمة النظام الثوري الجديد. ولكن فضل مخرجيها الأساسي كان اكتشاف أو تطوير وسائل التعبير السينمائية وخاصة المونتاج الذي تم التعامل معه في البداية على أنه وسيلة التعبير السينمائية الرئيسية.

 

فسيفولد بودوفكين

في الثلاثينات برزت " السينما الشعرية " في فرنسا. وكان المؤرخ السينمائي جورج سادول هو الذي أطلق تعبير "السينما الشعرية" ليصف به مجموعة الأفلام التي أنتجت في أواسط الثلاثينات والأربعينات والتي كانت تعالج مواضيع مستمدة من واقع الحياة الاجتماعية واليومية ولكن بروح شعرية. من أبرز ممثلي هذا التيار المخرج مارسيل كارنيه، الذي تعاون في عدد من أفلامه مع الشاعر جاك بريفيه. ومن اشهر أفلامه التي كتب نصها جاك بريفير فيلم " أطفال الجنة ". كما اشتهر المخرج رينيه كلير بأفلامه الواقعية الشعرية ومنها فيلم " تحت سطوح باريس ".
وفي أواخر الأربعينات بدأت تتبلور في السينما البريطانية حركة إنتاج واسعة لأفلام تعنى بمشاكل الواقع والإنسان سميت بتيار الواقعية الاجتماعية أو " السينما الحرة ". وكان المخرج ليندسي اندرسون هو الذي بلور هذا المصطلح في كتاباته النقدية والتحليلية لأفلام زملائه. طالب مخرجو أفلام هذا التيار بالقطيعة مع نموذج الحياة المصطنعة المزيفة التي تقدمها السينما الهوليودية، وتحقيق سينما بريطانية تعبر عن الموقف الشخصي للمخرج من الإنسان و المجتمع ومشاكل الحياة اليومية. من أشهر أفلام ذلك التيار فيلم " انظر خلفك بغضب " و " وحدة عدٌاء المسافات الطويلة ".
في أواسط الأربعينات ظهرت مدرسة الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية والتي سيكون لها تأثير كبير على السينما العالمية. عالجت هذه السينما مشاكل وقضايا المجتمع والإنسان الإيطالي في فترة ما بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. أهم ما جاءت به من جديد أسلوبيا هو التصوير في الأماكن الطبيعية خارج الأستوديو واستخدام ممثلين غير محترفين، كما في الفيلم الشهير "سارق الدراجة" للمخرج فيتوريو دي سيكا. أول أفلام هذه المدرسة فيلم "روما مدينة مفتوحة " للمخرج روبرتو روسيليني.

 

روبرتو روسيليني

 اتخذت هذه المدرسة شكلا أكثر تحديدا في الستينات من خلال موجة السينما السياسية الإيطالية، التي من أشهر روادها المخرج فرانشيسكو روزي صاحب فيلم " الأيدي فوق المدينة ". وفي حين يعتبر الكثيرون أن أي فيلم هو فيلم سياسي بالنتيجة وبهذا القدر أو ذاك، فإن مخرجي السينما السياسية الإيطاليين أثبتوا أن السينما السياسية نوع فني قائم بذاته وله مواصفاته الخاصة به سواء من حيث اختيار المواضيع ذات الصلة المباشرة بالسياسة( مثلا، فيلم " قضية ماتيه" لفرانشيسكو روزي مخصص كليا لدراسة إشكالية قضية النفط عالميا، علما بأن الفيلم مبني على وقائع حقيقية كليا)، أو من حيث المنهج الفيلمي الذي يبني الرواية بقوة الوثائق.

المصدر: الجزية الوثائقية http://doc.aljazeera.net/followup/2010/11/2010111885649639108.html
  • Currently 19/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
7 تصويتات / 982 مشاهدة
نشرت فى 18 مارس 2011 بواسطة artsfilms

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

15,514