ما هو متعارف عليه من قديم الأزل أن الشعب المصري كريم وعطوف وجدع ودائم الإخلاص والعطاء ، والكثير من الأحداث التاريخية تدل على ذلك ومنذ الفراعنة مروراً بكل من الدول الفاطمية والعثمانية ثم الإحتلال الإنجليزي ولم تتغير طبيعة الشعب المصري ، واحتفظ بعاداته وتقاليده التي لم تتأثر بأي ممن قاموا بالسيطرة على السلطة طوال التاريخ ، واستفادت جميع تلك الأنظمة من طيبة شعب مصر ، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أنه مع تعاون هذا الشعب إلا أنه ليس غبياً كما يظن البعض ، فقد اكتسب الكثير من الخبرات المتراكمة من العصور السابقة ، وكمثال حي على ذلك ، المبادرة الأخيرة التي قامت بها الدولة برعاية رئيس الجمهورية لحفر قناة السويس الجديدة ، ولأن الرئيس يحب مشاركة جميع الناس له في أي مشروع يقوم به فطلب من الشعب المساهمة لإتمام ذلك المشروع الضخم الذي لا تستطيع ميزانية الدولة ان تتحمل أعباءه كاملة ، وقام الشعب بالفعل بتقديم 60 مليار جنيهاً طواعية في أيام معدودات لإحساسه لأول مرة بروح المشاركة في تأسيس مصر المستقبل ، واندهش الكثيرون بسبب ظهور ذلك المبلغ الضخم في بلد يعاني الفقر والجهل والمرض على مدى ثلاثين عاماً مضوا أبرزهم سنوات مابعد ثورة 2011 بسبب قلة العمل والإنتاج ، والسؤال الذي بدر في أذهان الجميع هو : من أين أتى هذا الشعب الكادح بتلك الأموال الطائلة مع معاناته وقلة رزقه ؟!!
ولكن إذا نظرنا من جهة أخرى نجد أن الشعب المصري مدبر جداً بطبيعته وذلك لإحساسه الدائم بعدم الأمان ، كما أن الحكومة في العهد البائد كانت تعتبر الشعب أغنى منها - بناءاً على واحد من تصريحات الرئيس الأسبق مبارك - فكانت تتفنن في إلقاء الأعباء على الشعب سواء عن طريق فرض الضرائب والتمغات والرسوم والمصاريف الإدارية بشكل رسمي ، أو العمولات والرشاوى بشكل غير رسمي ، فكان المصريين دائماً يخفون أكثر ما يظهرون كنوع من تأمين المستقبل ، ومازال الشعب حتى الآن يفكر بنفس الشكل ، والدليل على ذلك أن الـ 60 مليار سابقي الذكر ماهم إلا النقود المودعة بالفعل في حسابات الناس بالبنوك المختلفة والتي تم جمعها وإعطائها للدولة في بنوك محددة لمساعدتها من جهة وضمان الحصول على العائد الأعلى المتفق عليه من جهة أخرى ، وبذلك تم صيد عصفورين بحجر واحد ، ونستطيع أن نقول أنه مع ذلك الكثير من المصريين لم يظهروا النقود التي في حوذتهم بسبب عدم الشعور الكامل بالأمان حتى الآن ، والغريب أن تلك الأموال الموجودة تحت البلاطة بدأت في الظهور في الآونة الأخيرة عندما تناولت وسائل الإعلام الحديث عن النصابين وكان أبرزهم تلك الأيام هو أحمد مصطفى إبراهيم الشهير بـ"المستريح" والذي نصب على الناس بإقناعهم أنه مقرب للكثير من رجال الدولة ويستطيع استثمار أموالهم وتوظيفها لإعطائهم أرباحاً تعادل أضعاف أرباح البنوك العادية المتعارف عليها ، وهذا يعني أن ثقافة الشعب المصري تغيرت فمع حرصنا الدائم وخوفنا من المستقبل إلا أننا على إستعداد لإعطاء شقاء عمرنا لأي شخص يقنعنا بالربح السريع دون تعب ، وتلك هي المأساه .
فأدى بُعد أفراد الأسرة عن بعضهم بسبب الجرى وراء الرزق وتطور وسائل الإتصال إلى صعوبة سيطرة الوالدين على الأبناء وترتب على ذلك حدوث خلل كبير في التربية ، بالإضافة للإنهيار الكامل في المنظومة التعليمية التي وصلت إلى حد أن خريج الجامعة أصبح لا يجيد الكتابة ، كل ذلك مع غياب المثل الأعلى الذي لم يعد متوفرا في الأب أو المدرس أو حتى أستاذ الجامعة ، وتلاشي القيم والأصول والمبادئ وانهيار الذوق العام وفقدان القيمة والهدف ... فكيف تحصل على مجتمع سوي يعمل لينتج ويربح ،؟ بل من الطبيعي أن يحدث ما نراه نتيجة الخلل الكامل في حياتنا بأكملها .
علينا جميعاً أن نبدأ بإصلاح أنقسنا ونبعد عن مبدأ الإستسهال ذو النهاية الوخيمة
ساحة النقاش