هند الرباط‏:

   إن التقهقر والتخلّف الحضاري ، يعد أكبر ظاهرة تهيمن على حياة دول العالم الثالث بوجه عام ، وعلى الأمة العربية والإسلامية المعاصرة بوجه خاص ، وكل ما تشهده الأمة من مظاهر سلبية يعود إلى هذه الظاهرة، والمقصود من التخلّف الحضاري ، ابتعاد الأمة عن المساهمة في دفع المسيرة البشرية على طريق التطوير والإثراء في مجالات الحياة الإنسانية المختلفة . لقد كانت الأمة الإسلامية رائدة في المجال الحضاري خلال قرون ازدهارها ، ثم تضافرت عوامل عديدة أدّت إلى اتجاه منحنيها الحضاري نحو الهبوط منذ القرن السابع، وسقطت حضاريًا بعد عصر الاستعمار.

    إن واقع العرب والمسلمين ينتابه الركود والتردي، وبخاصة في ميدان العلوم و التقدم الاقتصادي والصناعي و التكنولوجي، وهذا الأمر لا يخفى على كثير من المسلمين، والسبب في ذلك يرجع إلى ضعف الفهم لحقيقة الإسلام وأهدافه ومقاصده، وكذلك إلى ضعف الإيمان عموماً، ذلك الإيمان الذي يُنتج وُيولد العمل،والإيمان إذا لم ينعكس في حياة المؤمن إلى عمل فهو أماني ، قال الله تعالى { ومنهم أُميّون لا يعلمون الكتاب إلا أماني}( سورة البقرة [ الآية:78).

    إن المسلمين الأوائل أدركوا وفهموا حقيقة الإسلام وجوهره ، ولهذا استطاعوا بأقصر المدد وأبسط الأساليب أن يحققوا نهضة عربية إسلامية شاملة،.بالإيمان الحقيقي وفهم الإسلام الصحيح ، تحولوا من قبائل متناحرة إلى عباقرة أنشئوا أعظم أُمة عالمية، وحّدت إلى جانبها عشرات الأُمم الأُخرى على اختلاف القوميات واللغات، وصهروها في بوتقة واحدة ليكونوا خير أمة أخرجت للناس،أمة عالمية قائمة على قواعد حضارية أوجدها الإيمان الحقيقي والفهم الصحيح للإسلام..

آراء في أسباب التخلّف الحضاري… .

   أذكر هنا بعضاً من آراء المصلحين والإحيائيين ممن حملوا على عاتقهم همّ التخلّف الحضاري في الأمة العربية والإسلامية…،

    من أوائل الذين حرّكوا موجة الإحياء في القرن التاسع عشر السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني (1254هـ/ 1838م – 1314هـ/ 1897م).

    هذا الرجل رأى المشكلة كامنة في السلطة السياسية المهيمنة على العالم الإسلامي ،ورأى أن هذه السلطة سبب كل فساد في المجتمعات المسلمة.

وأقام مشروعه على ثلاثة محاور:

1ـ يقظة الشرق 2- العودة إلى الإسلام 3- وحدة المسلمين.

ويعود سر نجاحه بخاصة إلى:

أ- انفتاحه على الآخر المسلم والغربي، فقد تجاوز التقسيمات العرقية والإقليمية والطائفية بين المسلمين وأصبح ينتمي إلى كل الأمة الإسلامية، كما أنه انفتح على الحضارة الغربية، ودعا إلى الأخذ بإيجابياتها.

ب – الجمع بين الأصالة والمعاصرة مما أعاد الأمل إلى النفوس بإمكان عودة الإسلام إلى الحياة بلغة العصر وعلى مستوى متطلّبات العصر، وإمكان الإصلاح والنهضة من منطلق إسلامي لا غربي.

      ومن طلائع النهضة عبد الرحمن الكواكبي (1271هـ/1855م – 1320هـ/1902م)، وهذا الرجل أيضاً مثل السيد جمال الدين جمع بين الأصل الفارسي والمحتد العربي (سوريا)، وامتاز بعمق التفكير ، وذهب إلى أن مشكلة الأمة تكمن فيما سمّاه «الفتور»، وهذا الفتور ناشئ عن فقدان الحرية.

    هناك رأي آخر لشاب لم يمهله الأجل لتقديم مشروعه النهضوي وهو أبو القاسم الشابي (1909-1934) ، يتحدث عن سبب ما هو مشهود في الساحة البشرية من تفاوت بين الشعوب في ابتكارها وفنونها وآدابها، بين شعب مفعم بالحياة والحيوية وشعب هو أقرب إلى البطالة والفراغ والكسل والخمول، إن الحرية « يقظة روحية تملأ النفس شعوراً بالأمل “.

    ولعل مالك بن نبي هو أكبر مفكر مسلم اهتم بدراسة التخلّف الحضاري في العالم الإسلامي وسبل التقدم الحضاري ، فلقد كرّس أكثر كتاباته على هذا الموضوع، وأقام مشروعه على أساس «بناء الذات ومقاومة مخطط الاستعمار.

    يرى مالك بن نبي أن الحركة الحضارية تنتج من تفاعل «الإنسان» و«التراب» و«الوقت» ،وهذا التفاعل يحتاج إلى طاقة روحية لا يمكن أن يوفرها إلاّ الدين.

    ويقصد بالدين أن ينشد الإنسان إلى الله المعبود الغيبي ، ،وأن ينشد إلى أهداف بعيدة يضع حجرها الأول جيل وتواصل بناءه الأجيال المتعاقبة.

    وإذا جُمِّعت الآراء السابقة ،سواء من رأى أن العامل في التحرك الحضاري يكمن في التخلّص من «الاستبداد السياسي» أو الذي رأى أنه في «يقظة الشعور» أو «بناء الذات» و«مقاومة الاستعمار» أو التوق إلى «المثل الأعلى الحق». يمكن جمع كل تلك الآراء بعبارة واحدة هي أن عامل التحرك الحضاري هو «الكرامة والعزة ».

     فالكرامة والعزة يمنحان الحياة، وبعكسهما الذلّ ،والذي هو قهر للمخلوق البشري ،إن الإحيائيين بمختلف اتجاهاتهم حاولوا أن يغرسوا روح العزة في النفوس، ويزيلوا من أمامها عوامل الإذلال.

الكرامة وصناعة التاريخ.

    إن الحديث عن العزة والكرامة من منطلق الحركة الحضارية له ما يؤيده في الدراسات القديمة والحديثة…،  وإن النزعة الموجودة في نفس الإنسان لأن يعترف به الآخرون ، كما ترى الفلسفة السياسية الغربية ، نجد أن المقابل لهذه النزعة في العربية هي «العزة وبناء الذات ».

     إن رغبة الاعتراف تشكل جزءاً لا يتجزأ من الشخصية الإنسانية، ولقد كان أفلاطون أول من وصف هذه الرغبة في كتابه الجمهورية، عندما أشار إلى أن الكائن الإنساني يتكوّن من ثلاثة مركّبات: جزء راغب وجزء عاقل وجزء يسميه تيموس (thymos) أو روح الحياة.

     هناك جزء كبير من السلوك الإنساني يمكن تفسيره من خلال اندماج العنصرين الأولين، الرغبة والعقل: فالرغبة تدفع البشر للبحث عن أشياء موجودة خارج ذواتهم بينما العقل والحساب يبيّنان لهم أفضل السبل للحصول عليها. ولكن بالإضافة إلى ذلك يبحث الإنسان عن الاعتراف بكرامته الذاتية أو بكرامة الشعب أو الأشياء أو المبادئ التي يشحنها بالكرامة، فالنزوع إلى شحن الأنا بقيمة معينة وإلى طلب الاعتراف بهذه القيمة يتوافق مع «احترام الذات».

    هذا النزوع لاحترام الذات يولّد من هذا الجزء في الكائن الذي يسميه أفلاطون (تيموس) فهو يشبه عند الإنسان نوعًا من الإحساس الفطري بالعدالة. يعتقد الناس بأن لهم قيمة معينة وإذا ما عاملهم الآخرون وكأن قيمتهم أقل من ذلك فإنهم يشعرون بالذل.

    وبالمقابل عندما لا يرفع الناس حياتهم إلى مستوى ما يعتبرونه قيمتهم، فإنهم يشعرون بالخجل، وأخيراً عندما يقيَّمون بشكل صحيح يتناسب مع قيمتهم، فإنهم يشعرون بالاعتزاز. فرغبة الاعتراف والانفعالات التي ترافقها ـ الغضب والخجل والاعتزاز ـ تشكل جزءاً لا يتجزأ من حياة أية شخصية إنسانية.

     ويرى الفيلسوف الألماني هيغل أن هذه المعاني محركات الصيرورة التاريخية بكاملها.ولقد تبنى الفيلسوف الألماني هيغل هذه النظرية لتفسير حركة التاريخ. هيغل يرى في هذه النظرية النور الأول للحرية الإنسانية.

من إفرازات السقوط الحضاري…

1ـ فقدان قيمة الإنسان:

حالة الذل التي يشعر بها شخص ما كما يرى علماء النفس والاجتماع ، تخلق بداخله عقدة الدونية ،فلا يرى لنفسه وزناً ولا قيمة ،وهذا يؤدي به إلى الحقد على الآخرين ، كما تنشأ بداخله مشاعر العداء والعدوانية ضدهم .

2- قصور الفكر المنطقي المنهجي :

إن الإنسان المقهور كما يرى علماء النفس والاجتماع يفقد القدرة على التفكير المنطقي القائم على منهج علمي، وتصبح تحليلاته للأمور فجّة وناقصة.

3- التأرجح بين الإفراط والتفريط

وهذا يعني عدم مواجهة الواقع بخطة فاعلة، بل الانجراف في أحداث الواقع لتفعل به ما تشاء.

4- غياب الغايات والأهداف البعيدة.

إن الذليل كما يرى علماء النفس والاجتماع ، يفقد النظرة المستقبلية الصائبة.

5-التمزق الاجتماعي:

وهذه الظاهرة تعد حالة طبيعية لغياب الهدف الذي يجمع الأمة ،إذ تتصارع المصالح الفردية في حالة غياب المصالح الاجتماعية.

كما أن دافع حب الاعتراف بالذات يدفع المقهورين كما يرى علماء النفس والاجتماع ، للانضمام إلى جماعات لا هدف لها سوى محاولة إثبات الذات الفردية.

6- الانكفاء على الذات:

الذاتية في الفرد المقهور والمجتمع المقهور لا تخلق حالة الانفتاح على الآخر، والتعصّب ينتح عن هذا الانكفاء، لأن المتعصّب لا يتحرّى الصحة أو الدقة ، بل ينشد الانتصار على الرأي الآخر بشتى أنواع المغالطات .

7- انتشار الشهوات واستفحالها.

الإنسان الذليل كما يرى علماء النفس والاجتماع تستعر عنده الشهوات حتى تستوعب كل تفكيره .

علاج التخلف الحضاري :

    إن للتربية الأخلاقية والإيمانية الصحيحة دور هام في الأخذ بيد الإنسان العربي المعاصر لمساعدته على استرداد الحاسة الأخلاقية حتى يعاود النظر من جديد إلى عالم الأشياء والأشخاص بعين نفاذة ترى القيم وتدرك المعاني.

    أضيف أيضا أن للأخلاق فلسفة علمية تفتح أمام الإنسان ملكوت القيم وعلى ذلك فالأخلاق لا تلقن بعض الأحكام الجاهزة بل هي تعلم الإنسان دائما كيف يحكم على الأشياء وتوجّه انتباه الإنسان نحو العنصر الإبتكاري في الذات الإنسانية ، والحق أن للأخلاق وظيفة إيجابية إلى أعلى درجة لأن واجبها أن تربي المربّي نفسه حتى يصبح أهلاً لتربية النشء وهذا ما فطن إليه أفلاطون قديما حينما قال أن الأخلاق هي مربية الإنسانية.

     معنى هذا أن الأخلاق تضطلع بمهمة المساهمة في إيقاظ الإحساس بالقيم لدى الإنسان، وسيبقى المربون الحقيقيون قلة دائما ولكنهم بلا شك ملح الأرض على حد تعبير السيد المسيح عليه وعلى سيدنا محمد أفضل الصلاة والسلام ، فالمربون وحدهم الذين يرون ثم يعلّمون الآخرين كيف يرون.

المصدر:

https://www.facebook.com/groups/alkhader/permalink/702114623146803/


  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 3287 مشاهدة

مؤسسة النسر السياسي للإعلام

alsiassi
إعلام وصحافة الكترونية،،، منابر ومساحات للحوار...، بهدف المساهمة في التنمية السياسية ...، وتعميق الثقافة الديمقراطية...، و في محاولة لتلمس الخطى على طريق الوحدة ، والحرية ،والحياة الفضلى....، خدمة للإنسان والوطن والأمة والإنسانية جمعاء... . »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

36,114