عمرو أبوالفضل - المقدسي واحد من أعظم رحالة القرن الثالث الهجري، وكان جغرافيا من الطراز الرفيع، طاف مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكتب وصفا دقيقا لمشاهداته العيانية خلال رحلاته، التي دامت حوالي العشرين عاما.

وقال الدكتور عبدالحكم الصعيدي الأستاذ بجامعة الازهر إن المقدسي ولد سنة 336 هـ ـ947م، بمدينة بيت القدس ومنها جاءت نسبته المقدسي، وهو محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي، والمعروف بالبشاري، وشمس الدين أبي عبدالله، ووالده من أمهر المهندسين الذين شاركوا في بناء ميناء عكا في عهد أحمد بن طولون 270هـ/883م، وقيل أن جده هو الذي اشتهر ببنائه لميناء عكا وحائطها واسمه مكتوب عليه، ومنه جاءه لقبه، وتنتمي أسرة أمه إلى آل الشوا الذين هاجروا من مدينة بيار في إقليم الديلم إلى الجنوب الشامي وصاهروا آل البناء، ونشأ في فلسطين، وسكن القدس، وبدا تلقى دروسه بحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية والادب، وارتحل إلى دمشق، واخذ عن مشاهير علمائها، وما ان تعد العشرين بقليل حتى انتقل إلى العراق وتفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان، على يد القاضي أبي الحسن القزويني، وأخذ علوم الحديث والنحو واللغة والقراءات على يد كثير من الفقهاء والعلماء، وانكب على دراسة تصانيف العلماء، وبرع في نظم الشعر.

أحوال البلاد

 

وأضاف، مارس المقدسي التجارة، فتجشم وعانى أسفارا هيأت له المعرفة بغوامض أحوال البلاد والأمصار، ثم انقطع بعد ذلك إلى تتبع البلدان والمدن والقرى، فطاف أكثر بلاد العالم الإسلامي، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، ومن القسطنطينية إلى جنوب الجزيرة العربية، ولم يترك إقليما إلا دخله عدا الأندلس، وامتاز بتحقيقاته المستندة إلى المشاهدة.

 

وأشار إلى أن المقدسي انطلق فى رحلته من مدينة القدس إلى جزيرة العرب في بداية عام 356هـ ـ 966م، بهدف الحج، ثم زار العراق وأقور والشام ومصر والمغرب وزار أقطار العجم وبدأها بإقليم المشرق ثم الديلم والرحاب والجبال وخوزستان وفارس وكرمان والسند، وكان يمكث في البلدة فترة قصيرة، وقد تطول أحيانا، يسجل فيها مشاهداته وملاحظاته، ثم يجتمع بالناس على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم ومشاربهم، وحسب أعمالهم واتجاهاتهم وأفكارهم، فيسأل ويجمع ويدون كل هذه المعلومات، وعانى كثيرا في رحلاته هذه من التعب والمشقة، ويبدو أنه انتهى من رحلته في حدود عام 375هـ ـ 985م، حيث أشار إلى أنه أنهى في هذه الفترة تأليف كتابا بالهدف الذي أراده في مدينة شيراز عاصمة إقليم فارس بعد أن أتم الأربعين من عمره.

وبين الدكتور عبدالحكم الصعيدي أن مصنفه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» أحد أشهر الموسوعات الجغرافية التي ظهرت في القرن الرابع الهجري ـ العاشر الميلادي، فقد حرص المقدسي على ذكر الأقاليم الإسلامية وما فيها من المفاوز والبحار، والبحيرات والأنهار، ووصف أمصارها المشهورة ومدنها المذكورة، ومنازلها المسكونة، وطرقها المستعملة، وعناصر العقاقير والآلات، ومعادن الحمل والتجارات، واختلاف أهل البلدان في كلامهم وأصواتهم وألسنتهم وألوانهم، ومذاهبهم ومكاييلهم وأوزانهم، ونقودهم وصروفهم، وصفة طعامهم وشرابهم وثمارهم ومياههم، ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم، وما يحمل من عندهم وإليهم، وذكر مواضع الأخطار، وعدد المنازل، وذكر الرمال والتلال والسهول والجبال، ومعادن السعة والخصب، ومواضع الضيق والجدب، وذكر المشاهد والمراصد والخصائص، والممالك والحدود والمصادر، وذكر الصنائع والعلوم.

ونبه إلى أن المقدسي اتبع منهجا في كتابه إذ بدأ بالعموميات عن كل إقليم قام بدراسته، ثم انتقل بالوصف إلى المدن والنواحي، وبعدها قدم معلومات تخص الأخلاق والعقائد الدينية، وقسم العالم الإسلامي إداريا إلى أربعة عشر إقليما ستة عربية هي: جزيرة العرب، وأقور، والعراق، والشام، ومصر، والمغرب. وثمانية اقاليم اعجمية هي إقليم المشرق، وخراسان، وهيطل وخوزستان، وفارس، وكرمان، والديلم، والجبال، والسند، وعرض لوحداته كعاصمته ومدنه، وقصباته، ونواحيه، وقراه ورساتيقه، مستخدما بعض المصطلحات الإدارية للاستفادة منها في معرفة المسافة بين كل منطقة وأخرى.

العامل الديني

وقال إن هذه المسافات وردت في ثنايا حديثه عن الأقاليم أو منفردة في آخر كل إقليم تحدث عنه، وتحدث عن العوامل التي ساعدت في نشوء المدن وازدهارها، وخصوصا العامل الديني الذي لعب دورا مهما في نشوء المدن ذات الأهمية الدينية مثل مكة المكرمة، ومنى، والمزدلفة، وعرفة، ويثرب في إقليم جزيرة العرب، وبيت المقدس، وأريحا، وبيت جبريل في إقليم الشام، وتطرق الى العوامل التي أدت إلى انهيار المدن ودمارها كإهمال نظام الري في مدينة الطابران في إقليم خراسان، والعصبية والصراع الديني بين فئات المجتمع الذى دمر مدينة نسا في إقليم المشرق، ودمرت مدينة سرخس نتيجة الصراع بين العروسية أصحاب أبي حنيفة النعمان وبين الأهلية أصحاب الشافعي، وكان لضعف السلطة السياسية واضمحلال قوتها أثر بارز في انهيار جنديسابور وسامراء وبغداد، كما أدت الفيضانات إلى خراب مدينة همذان، ودمرت الزلازل مدينة سيراف.

وطبع المقدسي كتابه لأول مرة عام 1294هـ ـ 1877م، بعناية المستشرق دي غويه، بليدن، ثم أعيد طبعه بلندن عام 1324 ـ 1906م بعناية المستشرقين دي غويه ودوزي.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 75 مشاهدة

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,278,715