الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد

يقول الله تعالى في كتابه الكريم«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ »، سورة العلق، الآيات 1 - 5.

يعود أبناؤنا وفلذات أكبادنا من الطلاب والطالبات إلى مقاعد الدراسة في هذه الأيام، لينهلوا من معين العلم والمعرفة، فالمدرسة هي البيئة المناسبة لصقل الطلاب وتهذيبهم وتربيتهم التربية السليمة، ومن المعلوم أن التعليم يمثل اللبنة الأولى في صقل شخصية الفرد وثقافته، لذلك، فإن العناية بتربية الأبناء وشحذ هممهم أمر واجب، لأن من شبَّ على شيء شاب عليه، فبالعلم ترتقي الأمم، وبالعلم يحيا الإنسان، وبالعلم تتطور الشعوب، وبالعلم ينتصر الحق على الباطل، وبالعلم ينتصر المظلوم على الظالم، لأن العلم نور، والله نور السموات والأرض، وكما قال الشاعر:

 

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهموا

 

على الهدى لمن استهدى أدلاء

ففـز بعلـم تعـش حيـاً بـه أبـداً

الناس موتى وأهل العلـم أحيـاء

لقد كانت أول كلمة في الوحي الإلهي في القرآن الكريم هي لفظ اقرأ، وبالرغم من أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- كان أمياً حين نزول الوحي، إلا أنه امتثل للأمر الرباني فكلّف أصحابه بالقراءة والكتابة، كما ودعا- صلى الله عليه وسلم- إلى وجوب تعليم الأبناء والبنات القراءة والكتابة، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، (أخرجه الترمذي).

علماء المسلمين

ومن المعلوم أن ديننا الإسلامي الحنيف كرم العلماء، وحث على العلم، وبين فضل أهله، منذ أشرقت شمس الإسلام، ومن فضل الله علينا أن عدداً من العلماء المسلمين قد برعوا في تخصصات عديدة والحمد لله، منهم الخوارزمي، والفارابي، وابن سينا، وابن الهيثم، وابن النفيس، والكندي، وغيرهم كثير، فأين نحن من هؤلاء العلماء الأجلاء الذين تُدرس كتبهم في الجامعات الغربية، ونحن هنا نوجه نداء لأبناء الأمتين العربية والإسلامية بضرورة المسارعة في تحصيل العلوم والمعارف المختلفة، حتى يخرجوا من حالة الضعف التي نخرت عظامهم، والوهن الذي أضاع مجدهم.

إنَّ البشرية اليوم تدين للإسلام والمسلمين بالفضل، فما ينعم به الغرب من تقدم وازدهار، هو أثر من آثار احتكاك الغربيين بالمسلمين الأوائل وتتلمذهم على أيديهم، حيث أخذ الغرب من الحضارة الإسلامية يقظة العقل، وحرية البحث، وضرورة التفكير، فالعلم والإيمان جناحان يطير بهما المرء إلى آفاق السمو الإنساني، ليكون خليقاً بما كرمه الله به من الخلافة في الأرض.

حب العلم

كما أن الدعوة إلى تميز المسلم بحب العلم والاستزادة منه وإكبار شأنه من أهم ما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف، وعند دراستنا للقرآن الكريم، فإننا نجد أنه قد رفع من شأن العلم والعلماء في عشرات الآيات قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، «سورة الزمر، الآية 9»، وقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، «سورة المجادلة، الآية 11»، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)، «سورة فاطر، الآية 28».

أما الأحاديث التي تتحدّث عن فضل العلم والعلماء فكثيرة منها قوله- صلى الله عليه وسلم-: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»، (أخرجه الشيخان)، وقال أيضاً: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ويعلمها»، (أخرجه الشيخان).

كما ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء- أي: في تبليغ شريعة الله للناس- وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر»، (أخرجه أبو داود والترمذي)، وقال أيضاً: «إنَّ الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، وحتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير»، (أخرجه الترمذي).

كما وأطلق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - سراح أسرى بدر مقابل تعليمهم عدداً من أبناء المسلمين القراءة والكتابة.

فضل العلم

كما وحث الإسلام أبناءه على الاجتهاد في تحصيل العلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب»، (أخرجه أبو داود والترمذي)، وقال أيضاً: «من خرج في طلب العلم، فهو في سبيل الله حتى يرجع»، (أخرجه الترمذي).

وبين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منزلة العلم والعلماء في كثير من أقوالهم ووصاياهم، فمن ذلك ما أثر عن الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه، قوله: «العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزيد بالإنفاق».

وعلى هذا النهج النبوي الكريم سار الأصحاب والأتباع والسلف الكريم يوجهون النشء إلى التعلم، لينشأوا صالحين لأنفسهم، وللأمة التي يعيشون بينها، يقول مصعب بن الزبير لابنه: «تعلم العلم، فإن يكن لك مالٌ كان لك جمالاً، وإن لم يكن لك مالٌ كان لك مالاً»، ويقول عبد الملك بن مروان لبنيه: «يا بني تعلموا العلم، فإن كنتم سادة فُقْتُم، وإن كنتم وسطاً سُدْتُم، وإن كنتم سُوقَةً عِشْتم».

تعلم القراءة

وسار الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، على هدي نبيهم ،صلى الله عليه وسلم، فاجتهدوا في تعلم القراءة والكتابة وطلب العلم في مختلف المجالات، فديننا الإسلامي يدعو إلى الرحلة في طلب العلم، إذا لم يتيسر إلا في مكان بعيد، يقول تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، «سورة التوبة، الآية 122»، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصحابة الكرام، رضي الله عنهم أجمعين، مع ما لهم من علم وفير، ومعارف جمة، كانوا يشدون الرحال إلى طلب العلم، فهذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- كان يتناوب مع أخ له في الإسلام مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتحصيل العلم، كما يتناوبان السعي وراء الرزق، فإذا كان آخر اليوم اشتركا فيما حصله كل منهما من علم أو مال، وعلى هذا المنهج درج المسلمون في عهد السلف الصالح، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مجد وسؤدد، بفضل ما تعلموه من علوم الإسلام التي كانت تبصرهم بشؤون دينهم ودنياهم.

فقد روت كتب السيرة والتاريخ أن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله، رضي الله عنه رحل مسيرة شهر إلى مدينة العريش في مصر ليكتسب حديثاً واحداً من عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، كما ورحل الإمام أحمد شهرين كاملين من بغداد إلى صنعاء ليأخذ عشرة أحاديث، كما وذكرت كتب الحديث أن الإمام أحمد رضي الله عنه- بقي يجمع مسنده منذ طلبه للحديث الشريف وحتى وفاته رحمه الله، لم يهدأ له بال ولم يرتح له خاطر حتى أتمه، دخل مصر والعراق والشام وخراسان والحجاز وصنعاء، وجمّع مسنده حديثاً حديثاً، وبحث في الأسانيد والعِلَل والطرق.

كما وروي أن عبد الله بن المبارك، وقف مع شيخه من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يُسائله حتى فصل بينهما المؤذن، فقال له تلاميذه: لو أنك أرَحْت نفسك؟ قال: والله لو وقفت شهراً كاملاً في مسألة ما أنصفتها!!

الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

المصدر: الاتحاد

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,280,508