أحمد مراد - تفرد ابن حجر العسقلاني من بين أهل عصره في علم الحديث مطالعة وقراءة وتصنيفا وإفتاء، حتى شهد له بالحفظ والاتقان القريب والبعيد والعدو والصديق، وكأن إطلاق لفظ «الحافظ» عليه بمثابة إجماع بين العلماء، وقد رحل إليه الطلبة من الأقطار، وطارت مؤلفاته في حياته وانتشرت في مختلف البلاد.

ويقول د. رأفت عثمان ــ الأستاذ بجامعة الأزهر ــ: هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني ، المعروف بابن حجر، ولد بمنطقة الفسطاط بالقاهرة في 12 شعبان سنة 773هـ، ونشأ يتيما، فما كاد يتم الرضاعة حتى فقد أمه، وما إن بلغ الرابعة من عمره حتى توفي أبوه في رجب 777هـ، تاركا له مبلغا من المال أعانه على تحمل أعباء الحياة، ومواصلة طلب العلم، وبعد موت أبيه، كفله زكي الدين الخروبي كبير تجار مصر، الذي قام بتربيته والعناية به، فحفظ القرآن الكريم، وجوده وعمره لم يبلغ التاسعة، ولما رحل الخروبي إلى الحج سنة 784هـ رافقه ابن حجر وهو في الثانية عشرة من عمره، وفي مكة درس الحديث النبوي الشريف على يد بعض علمائها.

يضيف د. عثمان: ولما عاد إلى القاهرة درس على عدد كبير من علماء عصره أمثال سراج الدين بن الملقن والبلقيني والعز بن جماعة والشهاب البوصيري ثم قام ابن حجر برحلات دراسية إلى الشام والحجاز واليمن، واتصل بمجد الدين الشيرازي، وتعلم اللغة على يديه، غير أن ابن حجر وجد في نفسه ميلا وحبا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه منكبا على علومه مطالعة وقراءة، وأجازه معظم شيوخه بالرواية وإصدار الفتاوى والقيام بالتدريس، فكانت تقام له حلقات الدرس، ويجلس فيها العلماء في كل بلد يرحل إليه، حتى انتهت إليه الرياسة في علم الحديث في الدنيا بأسرها، وبلغت شهرته الآفاق، وارتحل أئمة العلم إليه من كل أنحاء العالم الإسلامي، وقد أَهله علمه الغزير أن يشغل عدة مناصب مهمة، فقام بتدريس الحديث والتفسير في المدرسة الحسنية، والمنصورية، والجمالية، والشيخونية والصالحية ، وغيرها من المدارس الشهيرة بمصر، كما تولى مشيخة المدرسة البيبرسية، وولي الإفتاء بدار العدل، وتولى منصب القضاء، واستمر في منصبه نحو عشرين سنة شهد له فيها الناس بالعدل والإنصاف، وإلى جانب ذلك تولى الخطابة في الجامع الأزهر ثم جامع عمرو بن العاص.

 

وكان من عادة إبن حجر أن يختم في شهر رمضان قراءة صحيح البخاري على مسامع تلاميذه شرحا وتفسيرا، وكانت ليلة الختام بصحيح البخاري كالعيد، حيث يجتمع حوله العلماء والمريدون والتلاميذ، ثم توج حبّه لصحيح البخاري وشغفه به بأن ألّف كتابا لشرحه سماه « فتح الباري بشرح صحيح البخاري « استغرق تأليفه 25 سنة حيث بدأ التأليف فيه في أوائل سنة 817هـ وانتهى منه في غرة رجب سنة 842هـوهذا الكتاب يصفه تلميذه السخاوي بأنه لم يكن له نظير، حتى انتشر في الآفاق وتسابق إلى طلبه سائر ملوك الأطراف، وقد بيع هذا الكتاب آنذاك بثلاثمئة دينار وقد كتب الله لابن حجر القبول في زمانه، فأحبه الناس؛ علماؤهم وعوامهم، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساؤهم، وأحبه أيضا النصارى، وكانت أخلاقه الجميلة وسجاياه الحسنة هي التي تحملهم على ذلك، فكان يؤثر الحلم واللين، ويميل إلى الرفق وكظم الغيظ في معالجة الأمور، يصفه أحد تلاميذه بقوله: كل ذلك مع شدة تواضعه وحلمه وبهائه، وتحريه في مأكله ومشربه وملبسه وصيامه وقيامه، وبذله وحسن عشرته ومحاضراته النافعة، وحسن أخلاقه، وميله لأهل الفضائل، وإنصافه في البحث ورجوعه إلى الحق وخصاله التي لم تجتمع لأحد من أهل عصره.

 

مؤلفاته

ويشير إلى أن ابن حجر ترك خلفه ثروة ضخمة من الكتب تزيد على المئة والخمسين كتابا، أهمها: تهذيب التهذيب في تراجم رجال الحديث ، وبلوغ المرام من أدلة الأحكام، والإصابة في تمييز الصحابة، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة.

كما كان لابن حجر اليد الطولى في الشعر، وله ديوان شعر متوسط الحجم مطبوع.. وقال السخاوي في شأنه: شهد له شيخه العراقي بأنه أعلم أصحابه بالحديث. وقال السيوطي: إمام هذا الفن للمقتدين، ومقدم عساكر المحدثين، وعمدة الوجود في التصحيح، وأعظم الشهود والحكام في بابي التعديل والتجريح.

وقال عبدالحي العكبري: انتهى إليه معرفة الرجال واستحضارهم ومعرفة العالي والنازل وعلل الأحاديث وغير ذلك وصار هو المعول عليه في هذا الشأن في سائر الأقطار. وفي ليلة السبت 28 ذي الحجة سنة 852هـ توفي ابن حجر، وكان يوم وفاته يوما مشهودا، اجتمع في تشييع جنازته من الناس ما لا يحصيهم إلا الله، حتى كادت تتوقف حركة الحياة بمصر، يتقدمهم سلطان مصر والخليفة العباسي والوزراء والأمراء والقضاة والعلماء، وصلَّت عليه البلاد الإسلامية صلاة الغائب، في مكة وبيت المقدس، والخليل.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 53 مشاهدة

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,178,215