العفو هو التجاوز عن الذنب والخطأ، وترك العقاب عليه، خُلق الأقوياء الذين إذا قدروا وأمكنهم الله ممن أساء إليهم عفوا، إن الذي يجود بالعفو عبد عالي الهمة وعظيم الحلم والصبر، والعفو عند المقدرة خلة لا يرتقيها إلا أصحابها، وصفة لا تنبع إلا من نفوس الكرام الذين بلغوا شأنا من النبل وكرم الأخلاق.
إن العفو والتسامح وغفر زلة المخطيء خلق رفيع وإحساس مرهف ينم عن تربية إيمانية جادة للنفس وصقل لطباعها، إنه القوة التي عجز أن يمتلكها الكثير من الناس الذين أخذتهم العزة بالإثم عن النظر في المعنى السامي لها، فالله يعفو عن ذنوب التائبين ويغفر لهم، قال تعالى: «إن الله لعفو غفور» الذي لم يزل، بالعفو معروفا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا، يتجاوز عن الزلات بفضله وكرمه فلا يعاقب عليها ولا يعاتب صاحبها مبالغة في إكرامه له وعطفه عليه ولا يذكره بها حتى لا يخجله.
أسلوب بديع
يقول تعالى: «فمن عفا وأصلح فأجره على الله» «الشورى:40» وهذا الأسلوب البديع الذي يفتح آفاقا من تخيل الجزاء لا يأتي إلا في الأمور الجليلة القدر البعيدة المنزلة كالعفو، بل ويأتي القرآن برائعة أخرى من روائع العفو، حيث يجعله الله صدقة من المرء على نفسه وغيره، وميدانا للإنفاق وإقراضا للواحد الأحد، ويعظم شأنه، فيقول تعالى: «ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو» «البقرة:219»، إن هذا الإنفاق يستطيعه كل أحد، ويقدر على البذل منه كل إنسان، الغني والفقير، والكبير والصغير، والضعيف والمسكين، كل هؤلاء جعل الله لهم ميدانا كبيرا للصدقة والإحسان وهو العفو.
ثم تأتي الإشارة القرآنية والتذكرة الربانية مجلية أمرا جميلا ومعنى جليلا، وهو أن نيل عفو القدير جل وعلا، والفوز بالمغفرة طريقها العفو، فيقول تعالى: «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبـون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم» «النور:22».
تهذيب البشر
ويقول العلماء إنه لتهذيب البشر جعل الله العفو والعدل وسيلتين، أمر عبده أن يعدل إذا حكم بين الناس وأن يعفو عمن أساء إليه حتى ولو كان أقرب الناس إليه، ودائما يأمرنا القرآن بالعفو ولو صدر الظلم من اهلنا: «يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولَادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحِيم» «التغابن:14».
وللعفو معنى دقيق ذو أثر نفسي عظيم، وقد شرح المفسرون مفهومه في الاسلام معتمدين على الآية الكريمة «ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو» البقرة:219» وعرفوه انه الزيادة والفضل، اي ما زاد من مال المرء بعد نفقته ونفقة عياله، وهذا المعنى يدعمه الحديث الشريف: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لازاد له»، والقصد هذا لا يخلو من معنى نفسي عميق فرؤية الفضل تعني تحديد الحاجة وذلك قمة القناعة.
ومن عفو الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان نائما في ظل شجرة، فإذا برجل من الكفار يهجم عليه، وهو ماسك بسيفه ويوقظه، ويقول: يا محمد، من يمنعك مني، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ثبات وهدوء: الله، فاضطرب الرجل وارتجف وسقط السيف من يده، فأمسك النبي السيف، وقال للرجل: ومن يمنعك مني؟ فقال الرجل: كن خير آخذ، فعفا عنه، كما عفا عن المرأة اليهودية التي وضعت له ولاصحابه السم في شاة مشوية.
وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منتصرا، جلس في المسجد، والمشركون ينظرون إليه، وقلوبهم مرتجفة خشية أن ينتقم منهم، عما صنعوا به وبأصحابه، فقال لهم: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم، قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
الصفح
ومعني العفو كما قال الإمام الغزالي: أن يستحق حقا فيسقطه ويبرئ عنه، وهناك فرق بين العفو والصفح في قوله تعالى: «فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين» «المائدة:13 «، وقال أيضا: «فاصفح الصفح الجميل» «الحجر:85».
فمعنى العفو ترك المؤاخذة بالذنب، ومعنى الصفح، ترك أثره من النفس وكونه لم يبق أثره في النفس فهو قمة التسامح، وأمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يأخذ العفو عن الناس عما صدر منهم عن أخلاقهم السيئة كما في قوله: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين»
ساحة النقاش