إن في هذا الأمر تفصيل كبير، وأكبر من أن يحصره الإنسان ببعض الكلمات أو الجمل أو الكتب أو المؤلفات، ولكن لا بد من رشحة صادقة فيها بعض العبر الإرشادية الضرورية للإنسان، حتى يعيد تقييم أمره من جديد، ويسدد خطاه على الطريق الصحيح، وليتبين له بعض الإعجازات الإلهية الخارقة المطوية في هذه الخلقة البشرية، ومستلزماتها الضرورية، وفوائدها المحققة التي لا غبار عليها، والتي أظهرها الله على يد من يشاء من المخلوقات في عصرنا هذا بعد مرور ما يزيد على الـ(1426) عام، وهو وقت طويل جداً في عرف بني البشر، وفي هذا الأمر تحقيق لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وما بعثه الله به، يقول الله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء/ الأنعام آية/ 38)، فهذه الآية جامعة مانعة لكل ما يلزم، أي أن الله تعالى طوى في القرآن الكريم كل ما يلزم لعمار الدنيا والآخرة.
إنه لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكر أمرين فقط منوهين عن بعض ما طوى الله تعالى بهما، وبما ألهمنا الله من علمه وفضله وجوده وكرمه متوكلين عليه في كل أمورنا كبيرها وصغيرها، ألا وهما: (روحية وتعبدية، وجسمية وطبية).
أ. الناحية الروحية والتعبدية:
لقد خلق الله الإنسان في أحسن وأجمل صورة وأكرمه أن جعله خليفته في الأرض، يقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم/ التين آية/ 4)، ومن هذا المقتضى وجب أن يكون الخليفة مطيعاً لمن استخلفه، وأن يلازم أمره ولا يزيغ عنه، وأن يشغل نفسه بما يرضيه من العبادات وعمل الصالحات، وكل ما فيه خير له في الدنيا والآخرة، ومن هذا الباب فرض الله الصيام وبخاصة شهر رمضان على عباده حتى تتربى هذه النفس البشرية، وتترك شهواتها وتشتغل بالعبادة وقراءة القرآن والذكر والتسبيح، وتأخذ بالأخلاق الفاضلة، فعندها تنقلب عينيتها وتتنور بأنوار موهوبة، فتتعلق بالعلويات من العلوم والخوض في بحار الأنوار الجبروتية المسترسلة والمتدلية، وترتقي بهم إلى الكمال البشري، ومن نتائجها استخراج العلوم اللدنية الموهوبة والمتنزلة على القلوب العطشى من أهل الولاية من أمة الإسلام، فما مثابة هذه العلوم إلا كالماء النازل على الأرض المقفرة الجدباء، حتى تنبت من باطنها من كل زوج بهيج، يقول الله تعالى: (أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون/ السجدة آية/ 27)، ومن فائدة هذه العلوم الموهوبة أن ينال صاحبها القرب من الحضرة العلية مع حصول السكينة والوقار والرسوخ له في مواطن الرجال الذين وصفهم الله تعالى في القرآن الكريم، بقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار/ النور آية/ 37)، وهنا يعرف الإنسان حقارة الدنيا ومنزلتها عند الله تعالى، وأنها لا تزن عنده سبحانه جناح بعوضة، فيخرج قلب الولي من الطين والماء وحالة عدم الاستقرار إلى الاطمئنان واليقين والتعلق، مما يجذب قلبه فيغيب ذلك الولي عن حسه وعن عالم الكثافة، ويدرك الكثير من الكنهية المطوية في عالم اللطافة، فتفنى في نظره الأغيار ويحصل عنده التوحيد المطلق لله رب العالمين، وعندها يستشعر شعوراً غريباً عن أطوار البشر، فتحصل له المكاشفة والمؤانسة والمشاهدة ويسمع ما لا يدركه غيره، يقول الله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد/ ق آية/ 22)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: (......... تنام عيني ولا ينام قلبي) رواه أبو داود في سننه كتاب الطهارة ورقم الحديث (174)، وإن من الحكمة المأثورة: (يأتي علي وقت لا يسعني فيه إلا ربي)، ويقول بعض الأولياء الصالحين رضي الله عنهم: (قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرين)، وقالوا: (لهم قلوب ترى ما لا يرى غيرها أيقاظ وإن ناموا ففي نومهم وصلا).
لقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بدخول رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة) رواه ابن ماجه في سننه كتاب الصيام ورقم الحديث (1632)، وإن الأحاديث في فضل شهر رمضان والترغيب في مضاعفة العمل فيه كثيرة، لذا قراءة القرآن والإكثار من ذكر الله تعالى من: تسبيح، وتكبير، وتحميد، وتهليل، واستغفار، والدعاء إلى الله بالفوز بالجنة، والنجاة من النار، وغير ذلك من الأعمال الصالحة: كالصدقة، ومواساة الفقراء والمساكين، والعناية بإخراج الزكاة وصرفها لمستحقيها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالرفق والأسلوب الحسن والكلمة الطيبة.
إن الله ليعطي الثواب الجزيل لمن فطر صائماً على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن، فهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فمن خفف عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من النار، فليستكثر الصائم من أعمال الخير الشيء الكثير.
إن الصوم في اللغة هو: الإمساك عن المفطرات الحسية من الأكل والشرب وغيرها، والمعنوية هي الغيبة والنميمة وغيرها، وفي نظر الأولياء الصالحين من أمة الإسلام هو: الإمساك عما سوى الله تعالى وهو معشوقهم ومحبوبهم، ولهذا المقام فرائض وشروط وموانع ومستحبات، ولضيق المجال نأخذ رشفات مما قاله بعض الأولياء الصالحين:
(1): يقول الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة/ العلوي رضي الله عنه في كتابه المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على طريق الصوفية في هذا الشأن، نقتبس منه: لكن يكون إمساك العارفين عما سوى الله في حضرة مخصوصة وهي حضرة الذات، وقد يعبرون عنها بحضرة الجبروت، وأما حضرة الأسماء والصفات، فلهذا كان الإمساك مستحباً فيهما، وفي الغالب يتعذر الجمع على صاحب هذا المقام لاضطراب أمواج السماء والصفات، فكل ذلك مناقضاً للإمساك بخلاف الحضرة الأحدية فهي منزهة من أن يناقضها غيرها، وصاحبها ولو تعمد رؤية الغير لم يستطع، لأن حقيقتها لا تقتضيه، وإن خطر على قلبه ما سوى الله فقد خرج منها وبطل صومه، وقد قال سلطان العاشقين رضي الله عنه في هذا المعنى: (ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا قضيت بردّتي)، فهكذا يكون صاحب تلك الحضرة المتقدمة في الذكر، وأما باقي الحضرات فقد يحتجب صاحبها بظهور الأسماء والصفات، فيكون شهود الذات في حقه مستحباً إن أمكنه.
لما تقرر عند القوم أن الإمساك واجب عما سوى الله تعالى تشوقت النفوس إلى معرفة وقت الوجوب، فأخير بأن ذلك يكون عند رؤية الهلال فكأنه يقول: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه/ البقرة آية/ 185)، فالمقام مقام مشاهد وليس الخبر كالمعاينة، فمن شهد الشهر فلا بد له أن يمسك على ما يناقضه.
(2): تنويه وتوضيح: ثم اعلم بأن هذه الرؤية لا تكون في أرض الكثافة إنما تحصل في سماء اللطافة، ومن لم يرفع رأسه للخارج فلا يرى ملكوت السماوات والأرض، يقول الله تعالى: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون/ يونس آية/ 101) وفي الغالب لا تجتمع همة المريد في الحسّ، لأنه هو السبب في تغيير القلب عن مشاهدة الرب، وحاصل الأمر هو مناقض للمعنى، ولهذا لا بد للمريد أن يترك كل ما يصل إليه من الحواس الخمس، وترك وطئه وأكله وشربه والقيء، مع إيصال شيء للمعدة، إذ كل ما يصل للمعدة مناقض للإمساك، والمراد بالمعدة هي المعدّة للتجلي الإلهي، وقد يعبر عنها بسويداء القلب، وهي المسماة بالبصيرة، لأنها سريعة التغيير، فليحافظ عليها المريد ما استطاع، ولهذا تجد أكثر المريدين حالة دخولهم على الله يكون قد غلب عملهم على تغميض العين وجمع الحواس حالة الذكر، لأن المريد لا تنقطع همته إلا عند انقطاع مادة الحس، والحس له غلبة في الظاهر، يقول الله تعالى متحدياً جميع مخلوقاته: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين/ لقمان آية/ 11).
(3): يقول الشيخ أبو الحسن علي الشاذلي رضي الله عنه: كل ما يصل من الحس إلى المعنى حالة الفني فذلك مناقض للإمساك، اللهم إلا إذا صار الحس هو عين المعنى، فحينئذ لا يكون مناقضاً.
(4): ويضيف أيضاً الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة/ العلوي في كتابه المنح القوسية، نقتبس منه: إن ما يكره على المريد وهو: أن يخطر شيء من الحس على بصيرته، خشية أن يرتسم ذلك على قلبه فينقطع عن ربه، يقول صاحب الحكم، رضي الله عنه: (كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته)، لأن القلب أدنى شيء يؤثر فيه، فلهذا ينبغي للمريد أن لا يتهاون في ذلك، بل يقف على باب قلبه، وليفعل كما قال بعضهم، رضي الله عنهم: (وقفت على باب قلبي أربعين سنة فما خطر عليه سوى الله ردّدته).
إن القواطع في هذا المحل كثيرة من أن تحصر بحيث لا يمكن الخروج عنها تفصيلاً، وإنه إذا أراد الخروج عنها شيئاً فشيئاً فهي متتابعة، وعليه نية واحدة تكفي بأن يجمع المريد العالم بأسره وما احتوى عليه ويخرج عليه بقلبه، وهذا أسهل الطرائق إلى الله، لقد قال سلطان العاشقين رضي الله عنه: (صفاء وماء، لطف وهواء، نور ونار، وروح وجسم)، والفطر الذي لا يتمكن ما دام الحس مفقوداً، اللهم إلا إذا رجع له ورجع بنفسه، وأما إذا رجع بربه فذلك هو المطلوب، وهو المعبر عنه بالعيد، فيكون الفطر فيه واجباً، أي الرجوع إليه والنظر فيه، فالمريد يخرج من الحس خشية اللمس والتلذذ به، كي لا يحتجب عن ربه، وإذا صار الحس هو عين المعنى، أو نقول: هو مظهر التجلي فلا يخرج عنه بل يكون عنده كجبل موسى عليه السلام يقصد به وجود الأنس، وموسى عليه السلام طلب رؤية التنزيل قبل أن يعلقها على التشبيه، أي على الحس لقوله تعالى: (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني/ الأعراف آية/ 143)، فلما تحقق في الحس، أو نقول: في عالم التشبيه استغنى بذلك عن المعنى، أو نقول: عن عالم التنزيه، وقال: أن كلاً من الحس والمعنى والتنزيه والتشبيه، يقول الله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم/ البقرة آية/ 115).
إن فائدة خروج المريد عن كل العالم حيث كان يرى وجوداً له في الخارج، ولما وجده لا يوصف بوجود ولا بعدم، وجد نفسه محجوباً عن الله بما ليس بموجود معه، يقول ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في حكمه: (مما يدلك على وجوده قهره سبحانه أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه)، لهذا تجد أكثر العارفين في نهايتهم يستأنسون بوجود الخلق، كما كانوا يستوحشون منهم في بدايتهم ولا يستأنسون إلا بالخلوة، فالوجود صار كله عندهم خلوة، وليس فيه إلا واحد، وذلك الواحد هو المقصود بالذات.
إن من أفطر الفرض قضاه وليزد، ووجب عليه في شرع القوم أن يكفر أي ما وقع منه من المخالفة ونقض العهد بأن يمسك ثانياً كل ما سبق ويخرج عن الحس، ويستغرق في المعنى استغراقاً كلياً ولا يرجع للخلق إذا تحقق زوال الكل من قلبه بأن صار لا يخطر له ببال، ولا يرتسم له في فكر إلا لله تعالى.
إن إمساك المريد عما سوى الله في حضرة تعلق الأسماء والصفات يتعذر في الغالب، فلهذا لا يجب عليه شهود الذات في هذا العالم قبل معرفته لأصله لكثرة مظاهر الأسماء والصفات، وإذا وقع ونزل وتمكن من الشهود في هذا العالم قبل الخروج عليه فذلك هو المطلوب، فينبغي له أن يمسك عن رؤية غيره، وليدم على تلك الحالة ولو كان الإمساك مستحباً فيه، فلا ينبغي له أن يترك ما هو عليه ويشتغل بغيره، فيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وفد نبه الحق تبارك وتعالى على من يصبر على الطعام الواحد، أي توحيد الذات والتشوف لما سوى ذلك من المصنوعات، قال تعالى: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم/ البقرة آية/ 61)، والمتبادر من فهم معنى مصر على مقتضى ما نحن بصدده هو: مركز النفس، وما فيها من الشهوات الخفية والجلية المشار إليها بقوله تعالى: (مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها/ البقرة آية/ 61)، وكل شهوات النفس مقترنة بوجود الذلة، ولهذا قال تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله/ البقرة آية/ 61)، فلا ذلّ إلا مع وجود النفس، ولا عز إلا مع وجود الأنس، ولهذا قيل: (فإذا أردت عزاً لا يفنى فلا تعتز بعز يفنى)، يقول الله تعالى في ماهية هذه النفس: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد/ ق آية/ 16).
ثم اعلم بأن المريد إذا وقعت له الإساءة ونقض عهده مع الله وبطل صومه، وينبغي له الرجوع على الفور ويقصد الله تبارك وتعالى ويرجع إليه بقلبه المنيب، ويتوسط له بأحبابه ذوي القلب السليم والشرف والتكريم ويجمعهم وهو أعلم بهم، وينبئهم عن حاله ويبكي ويتضرع ويسألهم الرجوع لمقامه.
وهنالك من الكلام الكثير في هذا الموضوع، ولكن خير الكلام ما قلّ ودلّ.
ساحة النقاش