اللاعنف والعولمة
(صباح الخير. خلال محاضرات أمس، وخاصة خلال محاضرة ديمتري، سجلت بعض الملاحظات التي أود البدء بها لأنها تمهد لموضوع اليوم. تحدث ديمتري أمس عن العمل اليدوي عند غاندي، والذي كان جزءًا أساسيًا من حياته ومن نضاله في نفس الوقت؛ وفكرة العمل اليدوي مقابل الشركات الاحتكارية الكبرى ستكون جزءًا من هذه المحاضرة. أيضًا تحدث ديمتري عن الفقر الاختياري الذي لا أعتقده ضروريًا جدًا للنضال اللاعنفي كما تشهد بذلك حياة غاندي. بعض الناس عزوا نجاح غاندي إلى أن الهند وإنكلترا كانتا منظومة مغلقة سياسيًا واقتصاديًا. بغض النظر عن صحة هذه النظرية أو لا، يمكننا القول إن العالم الآن منظومة شبه مغلقة، وهذا ما يدخلنا في علاقة اللاعنف بالعولمة. أيضًا تحدثنا أمس عن الطرق الجديدة في العمل اللاعنفي، وتحدثنا عن ضرورة إبداع طرقنا الجديدة. أمس خطرت ببالي كلمة "طرق استباقية" أو وقائية، إذ لا يجب انتظار وقوع المشكلة حتى نبحث عن حل. النقطة الهامة جدًا، والتي توقفت عندها طويلاً، هي نقطة العمل الفردي والعمل الجماعي. أعتقد أن الأفراد الذين يختارون خيارًا معينًا سيجتمعون لاحقًا لتشكيل جماعات أو منظمات تتطور لتصبح مؤسسة. الخطر الكبير هو الأيديولوجية. هناك سؤال أود طرحه رغم أنه لا إجابة لدي عليه: هل يمكن أن نبقى أفرادًا لدينا استقلاليتنا في نفس الوقت الذي ننتمي فيه إلى مجموعة ما؟
أيضًا استمتعت بمحاضرة لنا أمس وبطريقة الإلقاء التفاعلية، ولدي بعض الملاحظات: من يمارس العنف ضد المرأة، سواء كان رجلاً أو امرأة، يمارس، قبل ذلك، عنفًا ضد الأنوثة التي فيه أولاً، وثانيًا يمارس العنف ضد الأرض-المرأة، الأرض-الأم. وما العنف ضد المرأة، برأيي، إلا صور وتجليات للعنف الأكبر، العنف ضد الأم الكبرى: الأرض.
أعجبتني طريقة التمارين في محاضرة لنا أمس وأود أن أطلب منكم تمرينًا بسيطًا وهو دقيقة صمت نفكر فيها ماذا يمكن أن يقول غاندي لكل منا. (تم التأمل)
تدعونا روح غاندي إلى ممارسة ساتياغراها، النداء الملحاح للحقيقة في خدمة الأرض الآن. إذ أنه لو استمر تدهور موارد الحياة والحضارة على إيقاعه الحالي فإن حظوظ الجنس البشري من الانهيار في مستقبل قريب لا يستهان بها. رامتشاندرا غاندي
تدعونا روح غاندي ومعها أرواح الكثيرين من الشهداء العظام الذين ما يزالون يفتدون هذا الجنس البشري في سلسلة لا تنتهي. يحدث مرارًا أن تلقى هذه الدعوة صدى وحماسًا في نفوسنا، ولكن هذا الحماس قد يخبو في كثير من المرات لنعود مرة أخرى إلى التقاعس، إلى النوم في أحضان الأمان الوهمي، قل في أحضان الكسل.)[1]
* * *
كلّ الأشياء، بعيدةٌ كانت أو قريبة، مرتبطةٌ معًا،
بحال إنّك لا تستطيع قطف زهرة دون أن تكون قد أزعجت نجمًا.
فرنسيس تومسون. من ديوان سيّدة الرؤيا
تدور عجلة اليين-اليان، لا تني.
نحن من نسمّيها سوداء بيضاء، ونحن من نفضِّل لونًا على آخر.
نحن من نرى خيرًا وشرًّا، وندعو لهذا دون ذاك.
نحن من نقول "عنف"، "لاعنف"،... فإذا بالعنف لاعنفٌ هو، وإذا باللاّعنف أشدّ العنف.
والعجلة تدور...
أيّ عملٍ جميلٍ حين أقطف زهرةً ريّا أقدّمها لمن أحبّ، وأيّ جهلٍ ألاّ أدرك أنّني أزعج النجوم!
كلّ الأشياء، بعيدةٌ كانت أو قريبة، مرتبطةٌ معًا، بحال إنّك لا تستطيع قطف زهرة دون أن تكون قد أزعجت نجمًا.
لكنّ هذا البيت من الشّعر صار، فيما يُسمّى "نظريّة الشّواش"[2] في الرّياضيات، حقيقةً علميّة، دون أن ننسى أنّ الحقائق العلميّة نسبيّةٌ أيضًا!
أجل، كلّ الأشياء في الكون مرتبطةٌ معًا، لا رباطًا آليًّا جامدًا بل على نحوٍ عضويّ حيّ، هذا ما يقوله العلم إذًا: كلّ الأشياء مرتبطةٌ، عضويًّا، معًا...، "فإذا تألّم عضوٌ تألّمت معه سائر الأعضاء" قال بولص الطّرسوسيّ!
هل قطف زهرةٍ عمل عنيف؟! وإلاّ، فما الفرق بين قضم تفّاحةٍ وذبح شاة، أو حتّى قتل إنسان؟!
هل يعني هذا أنّ العنف نسبيّ، وأنّ اللاعنف بالتّالي نسبيّ أيضًا؟!
أيرتبط العنف، ومن ثمّ اللاّعنف بدرجة الوعي؟ أم نستطيع أن نعاملَ مَن نشأ في بيئةٍ عنيفة، بل ربّما في بيئةٍ يُعتبر بعض العنف فيها فضيلةً - مبدأ الأخذ بالثّأر مثلاً - كما نعامل مَن نشأ في أشرمٍ غانديّ؟! - دون أن ندّعي أبدًا أنّ ابن الأشرم هو بالضّرورة أكثر وعيًا من ابن الأخذ بالثّأر -.
والأهمّ في الأسئلة: هل يمكن للمرء أن يعيش دون حدٍّ أدنى من العنف؟! وهل هذا الحدّ الأدنى واحدٌ بالنّسبة للجميع؟!
أخيرًا، ألا يُطرَح هذا السّؤال على مستوى العالم مثلما يُطرَح على مستوى الفرد: هل تستمرّ الحياة دون مقدارٍ ما من العنف؟!
لا أجيب عن هذه الأسئلة بنفسي، بل أترك لمعلّمِي اللاّعنف الكبار هذه المسؤوليّة:
الأهيمسا[3] أو اللاعنف مبدأ شامل، يقول غاندي، إنّنا بشر عاجزون تحيط بنا نار "الهيمسا" إنّ مقولة "الحياة تقتات بالحياة" لمقولةٌ تنطوي على معنىً عميق. لا يستطيع الإنسان أن يحيا لحظة من غير أن يباشر، على نحوٍ واعٍ أو لاواعٍ، "الهيمسا" الخارجيّة. فمجرّد معيشته نفسه، تناوله الطعام والشراب وتنقّله من مكان لآخر، ينطوي بالضرورة على شيء من العنف مهما يكن ضئيلًا. وهكذا فإنّ الساعي وراء اللاعنف يظلّ أمينًا على معتقده حين تكون جميع أعماله نابعةً من الحنان،...[4]
لقد كتب غاندي هذا الكلام شرحًا لموقفه حين دعا الهنود الموجودين في بريطانيا إلى المشاركة في المجهود الحربيّ أثناء الحرب العالميّة الأولى، وحين عارضه في ذلك الكثيرون من شركاء نضاله اللاعنفيّ.
ليس المهمّ، كما أفهم ممّا تقدّم، هو العمل نفسه، المهمّ أن ينبع من الحنان.
على نحوٍ مشابه يجيب تيك نات هَنه[5]، أحد كبار القادة اللاعنفيّين، عن سؤالٍ يخصّ الموضوع:
يُغالى في التشديد على التمييز بين اللاّعنف والعنف، بين النّاس غير العنيفين وبين العنيفين، لكنّنا لا نستطيع في الحقيقة أن نجزم بهذه السهولة [...] اللاّعنف هو اتّجاهٌ وليس خطًّا فاصلاً ليس للاّعنف من حدود [...] حتّى البوذا لم يكن يستطيع، وهو يمشي أو يشرب أو يأكل، أن يكون غير عنيف في شكل كامل، لسبب من داعي الحياة نفسها.
ويعطي تيك نات هنه أمثلةً عن قادةٍ عسكريّين يمكن أن يكونوا لحدٍّ بعيد أشخاصًا لاعنفيّين![6]
ما العولمة، وما العالم في الأساس، وأين تنتهي حدوده إن كانت له حدود؟! وهل لا تنتمي النجوم الّتي يزعجها قطف الأزهار، إلى عالمنا حقًّا؟!
بل أعتقد أنّها تنتمي...
في الصحارى البعيدة، حيث تحافظ الطبيعة على نقائها، تظهر نجوم اللّيل لوحةً أروع من الخيال، أمّا حيث يكثر الناس، حيث تُقطَف الزّهور، حيث تُقطع الأشجار، حيث تُجتثّ الغابات، فإنّ النجوم، إلاّ القليل منها، تختفي في أعماق الظلام خجلى من عنف البشر!
لكنّ العالم بات واحدًا اليوم، بمدنه وصحاريه، وإذا كانت حدوده قبل ألف عام تتراوح بين حدود القبيلة وحدود المملكة في أحسن الأحوال، فإنّ علماء هذا الزّمان يحدّثوننا عن الكون المتمدّد وعن حياةٍ على كواكب أخرى، فهل ينتهي العالم بحدود الكرة الأرضيّة وغلافها الجويّ، في الوقت الّذي يزداد فيه اليقين بوجود حيواتٍ كثيرة في الكون؟! ألا يوحي لنا العلم الحديث أنّ مفهومنا للعالم قاصرٌ جدًّا وهو على كلّ الأحوال نظرٌ من الداخل، رؤية جزءٍ لكلّ، وليس بأيّ حال رؤيةً حقيقيّة؟!
قد تبدو هذه الأسئلة الأخيرة بالذّات، فانتازيا لا ضرورة لها، أقلّه في وقتنا هذا، لكنّ العلم، الّذي لا يحقّ لنا تجاهله ونحن نستفيد من كلّ إفرازات قرينته التكنولوجيا، يدّعي، على ألسنة بعض شيوخه، أنّ الإجابة على هذه الأسئلة يمكن أن تلعب دورًا أساسيًّا في تغيير صورتنا عن الحياة وعن أنفسنا وبالتالي في تغيّر السّلوك اليوميّ لكلّ واحدٍ منّا وفي نمط حياته، وفي سلوكنا الجمعيّ وفي مستقبل البشريّة!
رغم ذلك، ومع ما أحسبه من أهمّيّة لهذه الأسئلة، فلنترك هذا الجانب من الموضوع الآن ولنبقَ ضمن حدود كرتنا اللاّمتناهيّة في الصّغر أمام سعة هذا الكون، هذه الكرة الّتي بدأ شكلها يتغيّر لراءٍ من فوق، أي الّتي بدأنا نعكّر صفاء زرقتها!
يتضارب فهم كلمة "عولمة" لدى مستخدميها وسامعيها. سأحاول أن أميّز فيما يلي بين فهمَين مختلفين للكلمة لأدعو إلى الاستعاضة عنها بعدئذٍ، في هذا الحديث على الأقلّ، بمصطلحٍ جديد. لا بدّ لي من أجل ذلك من التمييز أوّلاً بين مفهومين مختلفين لأكثر من مصطلَحٍ آخر، وسأبدأ باقتباس نصٍّ للمفكّر والشّاعر العظيم رابندرانات طاغور[7]:
قديمًا، كانوا يجعلون الملك يعتقد أنّه الكائن الأكثر حرّيّة في العالم [...] أمّا في الواقع فلقد بنوا له سجنًا من الأوهام.
تقع شعوب الغرب ضحيّة لنهجٍ مماثل اليوم، فهم يقنعونها لكي يداهنوها، أنّها حرّة وأنّ السلطة المطلقة بين يديها لكن هذه القدرة تُسرَق منها بواسطة عدد من الأنانيين.
يُترك الاعتقاد الشعبي ينعم بحريّة ظاهريّة، بينما تقيَّد حرّيّته الحقيقيّة بكلّ الوسائل. فأفكاره تُصاغ تبعًا لمستويات مصلحة منظّمة [...] هكذا يبدو لي بشكل أكثر فأكثر وضوحًا أنّ مثال الحرّيّة قد تبخّر في جوّ الغرب. فعقليّة سكّانه هي عقليّة جماعة من الملاكين - العبيد أو أيضًا عقليّة حشد من البشر المشوّهين وقد رُبِطوا برحى طاحونته التجارية والسياسيّة. [...] إنّ مسرحيّات البربريّة والظّلم المخيفة، الّتي أصبحت مألوفةً لنا، هي نتيجة لعلم نفس مُستغِلّ للرعب على نحوٍ منهجيّ. [...] إنّ رحلاتي في الغرب، الّتي استطعت في أثنائها التأكّد من اتّساع سلطة المال والدعاية المنظّمة - المتحرّكة في كلّ مكان خلف شاشة التعمية، خالقة جوًا من الشكّ والوجل والنفور، قد أقنعتني أنّ الحرّيّة الحقّة هي حرّيّة الروح والفكر...
يقول الشاعر العظيم في هذا المقتطف ما يلي: إنّ الشعوب في الغرب ليست حرّةً بل هي مغشوشة في معتقداتها مكرّسة لخدمة عجلة الاقتصاد الّتي تقودها السياسة، مُقادة بإعلامٍ كاذب خادع، يستفيد من علم نفسٍ مُستَغلّ، أو إذا أردنا التصحيح، يستغلّ علم النفس بطرق سيّئة.
ألا نرى هذا الواقع، الّذي تحدّث عنه طاغور منذ نحو قرن، يتفاقم في العمق وفي الاتّساع، مشدّدًا الخناق على أبناء "العالم الحرّ" من جهة وممتدًّا ليشمل شعوبًا أخرى كثيرة، في "حركة عولمة" من جهة أخرى؟!
يعود اختياري لهذا المقتطف إلى كونه يلخّص بكثافة حلوة، على ما أظنّ، عناصر العولمة الرئيسة، أو على الأدقّ أحد وجوهها، وسأحاول شرح ذلك انطلاقًا من بعض الكلمات المفاتيح الواردة هنا.
الاقتصاد
نعيش اليوم كما يعلم الجميع أزمةً عالميّةً ماليّةً واقتصاديّة، تكرّس وقعًا غير لطيف لكلمة "اقتصاد" في أذهان معظم النّاس. ذلك أنّها تفضح الطريقة الّتي يُسيَّر بها اقتصاد العالَم والّتي ترفع كلّ يوم عدد الفقراء والجياع فيه رغم مشاريع الأمم المتّحدة للحدّ من الفقر!
ولكن ما الّذي تعنيه كلمة اقتصاد في الأصل والمبدأ؟! ألا يُفتَرَض أن يكون الاقتصاد أداة تنظيم، أداة موازنةٍ بين الإنتاج والاستهلاك، أداة تحقيق عدالةٍ اجتماعيّة؟! وما الاقتصاد في واقعه اليوم؟! أليس وسيلةً للرّبح على حساب الآخرين؟! أليس طريقةً لاستغلال الغير؟! أليس تحالفات أقوياء على حساب الفقراء في مؤسّساتٍ تزداد يومًا بعد يوم "عالميّةً"؟! أوليس في الوقت نفسه أيضًا صراعات حيتانٍ وقودها الفقراء أنفسهم، أليس عنفًا على أعلى المستويات؟!
هل يمكننا إذًا أن نتحدّث عن مفهومٍ إيجابيّ وآخر سلبيّ للاقتصاد، كلاهما موجود وكلاهما مُمارَس لكنّ أحدهما هو الّذي يسود ظاهريًّا على الأقلّ؟!
السياسة
يتفنّن البعض في تعريفها فيعرّفونها على أنّها "فنّ الكذب"! أوليست تُمارَسُ في الغالبيّة العظمى من الحالات على هذا الأساس؟! لكن ألم تكن تجربة غاندي برهانًا كافيًا، وهو ليس الوحيد، على أنّ هذا التعريف غير صحيح؟!
هل العلاقات الدولية هي بالضرورة علاقات توازنات وشدّ حبال بانتظار فرصة سانحة؟! أم أنّها في المبدأ علاقات احترام مبادئ وتمسّك بثوابت؟! هل السياسة مجرّد مطيّةٍ لما سمّيناه الاقتصاد السّلبيّ، أم يمكن أن تكون أداةً بيد الاقتصاد الإيجابيّ، اقتصاد العدالة والكفاية والتغلّب على الفقر، مع الحفاظ على الموارد الطبيعيّة وضمان سلامة البيئة...؟!
ألا يمكن القول أيضًا بوجود وجهين متقابلين للسياسة، وإن كان أحدهما أكثر حضورًا من الآخر؟!
العقيدة (الإيديولوجيا)
يضعنا المعنى الاشتقاقيّ لهذه الكلمة، في اللغة العربيّة، أمام إشكاليّةٍ لا نستطيع تجاوزها إلاّ بالكثير من الحرّيّة ومن الرّفض! فالعقيدة من العقدة، وهي بالنّسبة للأغلبيّة "مُنزَلة" أو شبه منزلة. والحال فهي ترادف على الدوام، عند أتباع عقيدةٍ أو أخرى، الصحّة الأكيدة والحقيقة الأكيدة، ورفض عقيدة الغير، بل ورفض الغير نفسه!
لكن أليس صحيحًا في العمق أنّ هذه العقيدة تختلف، لا في نصّها بل في فهمها، بين أيّ شخصٍ وآخر، أوليس من الحقيقيّ أنّها فرديّةٌ جدًّا، أوليس من الأكيد أنّها رغم كلّ العقد، متغيّرةٌ ومتطوّرةٌ من عصرٍ لآخر؟!
(هنا نقطة مهمة جدًا تتمثل بسؤال: هل الإنسان كائن عقائدي؟ أميل إلى القول دون أن أجزم: نعم. وبما أني اعتقد أن الإنسان كائن عقائدي فإني أردف: لتكن عقيدة متطورة، متغيرة، مرنة، منفتحة.
كاجو كاجو: في هذه الحالة لن يكون اسمها عقيدة.
أديب الخوري: بالمعنى الاشتقاقي هذا صحيح، ولكني أود أن أقوم بنوع من التوفيق، فأنا، كإنسان، كائن عقائدي شئتُ أم أبيت. بما أننا نتحدث عن العولمة أقول إن العقائد الكبرى التي تقود العولمة: الرأسمالية أو ما يسمى بالليبرالية والديمقراطية، لديها، من حيث المبدأ، وجهها الإيجابي.
كاجو كاجو: هل الليبرالية عقيدة؟
أديب الخوري: ليس عقيدة مكتوبة في مصحف طبعًا. لنكمل المحاضرة.)
القوّة
يقول الشاعر "طاغور" على لسان أمّ:
حين ألجأ إلى معاقبته، فإنّه يضحي، إذ ذاك، أكبر جزءٍ من كياني. وحين أجعل دموعه تنهمر فإنّ قلبي يبكي معه. لي الحقّ وحدي أن أؤنّبه وأعاقبه، فلمن يحبّ الحق، وحده بأن يعاقب[8].
(السلوك الذي قد تمارسه الأم لحماية ولدها هو عنف، ولكنه قوة أيضًا. عندما أتصرف بعنف وأنا لست سعيدًا بذلك "قلبي يبكي معه" فهذا حق وواجب. القوة من حيث المبدأ، مثل كل شيء آخر، لها وجهها الإيجابي، ولكن الطريقة التي يتم فيها استخدام هذه القوة، في كل العالم، بدءًا من المنزل إلى المدرسة إلى الصراع بين الدول، ليست الطريقة التي يتحدث عنها طاغور. وبالتالي يمكن الحديث عن قوة إيجابية وقوة سلبية، وأنا شخصيًا ليس لدي مانع من القول إن هناك عنف إيجابي وعنف سلبي.
أكرم أنطاكي: عنف إيجابي وعنف سلبي!!؟
أديب الخوري: في حالات خاصة يمكن أن نقول نعم. إنه سؤال كبير.
أكرم أنطاكي: أريد إجابة صريحة: هل هناك قتل إيجابي؟
أديب الخوري: قتل إنسان؟
أكرم أنطاكي: قتل إنسان أو حيوان.
أديب الخوري: حيوان نعم، أما إنسان فإني لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال، لأنه أولاً من حيث المبدأ لا أوافق على الإجابة بلا أو نعم قطعية. كل حالة لها خصوصيتها...
أكرم أنطاكي: تقصد أن هناك حالات يقدر فيها إنسان ما أن إنسانًا آخرًا يجب قتله فيقتله أو يبرر قتله.
أديب الخوري: قد يكون.)
ألا يُبرَّر للأمّ أن تستخدم القوّة، وأن تستخدم بعض العنف، شرط أن يكون واعيًا لنفسه ومحبًّا ومتألّمًا، من أجل حماية ولدها من نفسه؟! ألا يعني هذا أنّ غاية القوّة من حيث المبدأ هي الحفاظ على الأمان، على سلامة النّاس، لنقل الرّدع... ألم يقل غاندي نفسه بالحاجة لمثل هذا النّوع من العنف؟! لأنّ ذلك، كما عبّر تيك نات هَنْه "من طبيعة الحياة". لكن ألا يكمن الخطر في اتّخاذ هذه القوّة وسيلةً لقهر الآخر والتّسلّط عليه واستغلاله، أو في أحسن الأحوال إسقاط مخاوف غير مبرّرة وتنفيس غيظٍ مكظوم؟! أما واقع الحال أنّ القوّة العضليّة الّتي يفوق بها الفرد الكبير الطفل الصغير، غالبًا ما تنقلب قوّة قهر وتسلّط؟! أوليس صحيحًا أنّ ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات أيضًا؟! ألا نرى أنّ القوى العسكريّة الهائلة الّتي تتستّر بعباءة الأمن القوميّ، مرّةً وبعباءة تقديم الديمقراطية وإصلاح النظم مرّةً أخرى، توضع في كلّ مكان خادمةً لأغراض الربح والجشع وفرض الرأي والإقناع حين لا ينفع فنّ الكذب؟! هل نتحدّث إذًا عن قوّةٍ إيجابيّة وأخرى سلبيّة أيضًا، بل وحتّى عن عنفٍ إيجابيّ وآخر سلبيّ؟!
الإعلام
تتكاثر المحطّات التلفزيونية الفضائيّة والإذاعات ومواقع الأنترنت على أشكالها المختلفة تكاثر الفطر بعد المطر في غابة الأسلاك والكابلات الضوئية والصّحون المستقبلة، وتحت سماء الأقمار الصّنعيّة الّتي تمدّ تلوّثنا إلى الفضاء.
ولكن هل كلّ هذا "إعلامٌ" حقًّا؟! أم هو تضليل، تزييف، تمويه،... وأكثره تخدير، سرقةٌ للوقت في أحسن الأحوال، ولكن ليس إعلامًا؟!
خبّرني صديقٌ من خريجي كلّيّة الإعلام في إحدى الجامعات: إنّهم يعلّمونك هناك كيف، ومن أين تَلتقط صورةً لتبدو غير ما هي عليه، كيف تنقل حدثًا وينقله زميلك، بنفس الأمانة ولكنّه يظهر حدثًا آخر! أجل، قال صديقي: هناك مهنيّة في تغطية الأحداث، إنّما تقابلها مهنيّة أخرى مختلفة عند الطّرف الآخر، الصّحافيّ أو المصوّر الآخر الّذي تخرّجت أنت وهو من نفس الكلّيّة وعملتما في وكالتي أنباء مختلفتين أو تابعتين لحزبين متعارضين!
العلم
يُحمِّل البعض، وربّما الكثيرون، العلم وزر الكثير من الحالة الحرجة الّتي تعيشها البشريّة، لكنّني أحبّ أن أفرّق دومًا بين العلم وتطبيقاته، ومثال المدية الّتي يمكن أن تُستخدم لعملٍ جراحيّ أو لقتل إنسان، والّتي أصبحت مع تطوّر العلم طاقةً نووية لمعالجة بعض الأمراض أو لإنتاج الكهرباء أو بالمقابل قنبلةً نووية لا تُبقي ولا تذر، يبقى من أفضل الأمثلة.
العلم المجرّد وسيلةٌ للمعرفة، منهجٌ لفهم العالم، محاولةٌ مشروعةٌ للإجابة عن بعض الأسئلة الأزليّة: من أين، وإلى أين، وكيف، ولماذا؟!... وهو على ما أظنّ يقوم بمهمّته أفضل من مناهج أخرى كثيرة. صحيحٌ ما قاله طاغور عن استخدام علم النفس، وعلى نحوٍ واسع جدًّا في قيادة الناس كقطيع، صحيحٌ جدًّا ومؤسفٌ جدًّا، لكنّ الأمر يتعلّق باستخدام، بل باستغلال العلم، وليس بالعلم نفسه.
... والعولمة؟!
استُخدِم مصطلح العولمة مؤخّرًا لوصف حالةٍ اقتصاديّةٍ عالميّةٍ منشودة، تُزال فيها الحواجز أمام حركات البضائع من جهة وأمام انتقال رؤوس الأموال من جهةٍ أخرى، بحيث يتحوّل العالم بالتدريج إلى سوقٍ كبيرةٍ وتتحوّل أرجاؤه المختلفة إلى فرصٍ استثماريّة، ويُختَزَل النّاس فيه، من وجهة نظر الاقتصاد السلبيّ، إلى منتجين ومستهلكين، وقود آلةٍ ضخمة لا تكفّ عن الدوران، هي الّتي تحدّث عنها ميخائيل نعيمة في قصّته الرائعة: ساعة الكوكو[9].
لا بدّ من القول إنّ مثل هذه الحالة آخذةٌ بالتّحقق، وما تداعيات الأزمة الماليّة الغربيّة الّتي ألقت بظلالها على كلّ الدول وأرخت ثقلها على الغالبية الساحقة من الناس، إلاّ برهانًا عليها.
لقد انتشر مصطلح العولمة إذًا انطلاقًا من هذه النّظرة الاقتصادية السّلبيّة. لكنّ تحقيق هذه الغاية الاقتصادية، الّذي يُنجز بخطىً سريعةً أحيانًا ويتعثّر في أحيان أخرى، ليس أمرًا من السهولة بمكان، وهنا يظهر قران الاقتصاد مع السياسة والقوّة والإعلام وتطبيقات العلم، أمّا الإيديولوجيا فإنّني أحار حقًّا في دورها ومكانتها! ففي الوقت الّذي يؤكّد فيه الكثيرون أنّ العقيدة لا تعدو كونها ستارًا وغطاءً للسياسة أو للقوّة العسكريّة أو للغايات الاقتصاديّة، يؤكّد الآخرون أنّ الأسباب الحقيقية لكلّ الأعمال العنفيّة الكبرى هي العقائد والإيديولوجيات - كما في الحرب العالمية الثانية مثلاً - وأنّ الاقتصاد والسياسة والقوّة... ليست سوى أدواتٍ بيد الإيديولوجيا... ولكن، لماذا لا نقول إنّ الإيديولوجيا والاقتصاد يرتبطان على نحو عضويّ بحيث يصعب أن نقول مَن يسبق الآخر؟! أليست نظريّة العولمة الاقتصاديّة إيديولوجيا قبل أن تكون اقتصادًا، لكنّها إيديولوجيا لا تنفصل عن الاقتصاد؟! ألا يغذّي سلطانُ المادّة إلهَ العقائد الجامدة بقرابينه من الأموات جوعًا وقهرًا؟! أولا يبادله هذا الإله الخدمة بمباركة سلطانه "الإلهيّ" وإسناد أمر العالم إليه؟!
ثمّة حالةٌ من تطوّرٍ دوليّ، نرى بموجبه تركيزًا للثروات من جهة، وازديادًا في أعداد الجائعين من جهةٍ أخرى، نرى فيه أموالاً تُجبى من "دافعي الضرائب" وتُقدّمُ مساعداتٍ لشركاتٍ كبرى، فتصرفها مكافآتٍ لبعض المديرين وتسرِّح آلاف العمّال، نرى فيه فلاّحي دول العالم الثالث يبيعون غلاّتهم بأسعار أقلّ - بين عامٍ وآخر- ليشتريها المستهلكون في كلّ العالم بأسعار أعلى - بين عامٍ وآخر-. نرى فيها انتقالاً لمعامل الشركات الصناعية الكبرى إلى دول العالم الثالث استغلالاً لليد العاملة الرخيصة وكذلك تجنّبًا لمزيدٍ من التلوّث في دول رأس المال، ولا نرى بالمقابل انخفاضًا في أسعار منتجاتها، نرى فيه المصرف الدوليّ، بالتّحالف مع حكوماتٍ دولٍ تُسمّى كبرى ومع تكتّلات شركات احتكارية عملاقة تشدّد الخناق على حكومات وشعوب الدول الأكثر فقرًا مع أنّ بعضها قد يكون من أغنى دول العالم بموارده الطّبيعيّة...، نرى فيه تقاطعًا في المصالح بين شركات صناعة الأغذية وشركات صناعة الأسلحة، نرى فيه مافيات تجارة الأطفال متلبّسةً برداء العمل الإنسانيّ ومحميّةً من سلطاتٍ رسميّة لدولٍ تُدعى كبرى، نرى ملاّك معامل أسلحة يصيرون مسؤولي شؤون إنسانيّة، نرى المعاهدات والاتفاقيات السياسية بركةً وتصديقًا لكلّ هذا الظلم، نرى القوّة الغاشمة وسيلةً لا بدّ منها حين لا تنفع السياسة، نرى عقيدة الحرّيّة والديمقراطيّة ومحاربة الإرهاب مظلّةً كبرى تبرّر كلّ تعسّف، ونرى طواحين الأكاذيب تجمّل هذا الواقع الشاذ! هذه الحالة القائمة والّتي نشاهدها ونعيش تطوّراتها هي ما أسمّيه عولمة سلبيّة.
والعولمة بمفهومها الإيجابيّ...
ولكن... إذا نظرنا إلى الاقتصاد على أنّه إدارة الموارد بشكل حسن وتوزيعها بشكل عادل وموازنة الإنتاج مع الاستهلاك، مع النّظر إلى الاحتياجات الحقيقيّة للأفراد والجماعات دون غضّ الطّرف عن الاحتياجات الهامّة للأرض نفسها، ومراعاة عدم استنفاذ مواردها،... وإذا أمكن لنا أن نتخيّل السياسة وسيلة تعاونٍ دوليّ مخلص لتحقيق هذه الغايات، وإذا رجونا يومًا تكون القوّة فيه وسيلة للحفاظ على السلامة والأمانة، والسهر على الراحة والحياة، وإذا حلمنا بيومٍ يتخلّى فيه الإنسان عن كلّ عقيدةٍ منزَلة جامدة غير متطوّرة، دون أن يتخلّى عن حقّه بالاعتقاد وبالتفكير وعن حرّيّة التعبير، مع ما يقود إليه هذا من احترامٍ متبادل للفئات والشعوب والأديان والطوائف... إذا أدركنا مدى صعوبة هذا الحلم أفلا تظهر لنا شبه استحالة عولمة إيجابيّة؟!
لا أظنّ، فهذه العولمة، الإيجابيّة والبنّاءة والمحمودة موجودةٌ وقائمةٌ منذ الآن، فليس كلّ الاقتصاديين سرّاقًا ولا كلّ السّاسة كاذبين ولا كلّ أصحاب المبادئ منافقين ولا كلّ الإعلاميين بائعي كلمات وصور، ولا كلّ العسكريين سفّاحين. هذه العولمة الإيجابيّة موجودة ٌمنذ الآن أقلّه طالما أنّ كثيرين يحلمون بها. وهذه العولمة الإيجابية هي الغالبة على المدى الطويل لأنّها لا تقع وحسب على الطرف المقابل للعولمة السلبية الّتي تحدّثنا عنها بل أعتقد أنّها أبعد من ذلك بكثير.
إنّها أكثر من تقريب النّاس من بعضهم البعض في وسائل المواصلات والاتصالات المتطوّرة، إنّها أكثر من الإمكانيات الهائلة للأنترنت الّتي تعطي الفرد البسيط فرصة المشاركة بشكل أكثر مباشرة في التّعبير، بل وحتّى في تغيير العالم، إنّها أكثر من منظّمات يتعاون فيها أفراد، وتتعاون هي فيما بينها ومع مؤسّسات أخرى للعمل من أجل السلام والعدالة والكفاية والصحة والبيئة والتعليم...
العولمة الإيجابية هي تلك الحقيقة العميقة الّتي أومأت لها في بداية هذا الحديث، رباطنا العضويّ، كوننا خلايا كثيرة في جسد واحد، وإن كان هذا الجسد لا يزال جنينًا، أو كما يقول ميخائيل نعيمة: "إلهًا في القمط"[10].
ألسنا، نحن دعاة السلام، نتعاطفٍ مع ميَتَّمي بلاد آباء التاريخ، نجوع مع مفَقَّري بلادٍ تدرّ لبنًا وعسلاً، نشدّ على أيدي حملة وورثة المفاتيح العتيقة، نحزن لإباداتٍ جماعيّة وتطهيراتٍ عرقيّة هنا وهناك،... بل ألا نتأثّر حتّى لاستباحة مملكة الحيوان، للصّيد الجائر، لانقراض مئات الأنواع كلّ يوم، ألا يؤلمنا أيضًا وأيضًا اجتثاث الغابات المطيرة في بلاد كولومبوس، تسارع التصحّر في كلّ أرجاء العالم، التعدّي على زرقة السّماء في كلّ مكان، غياب نجوم السّهر والسّمر في تلوّث الدخان والضوء والضجيج، ذبح البحر والمحيط من الوريد إلى الوريد، اغتصاب الأرض في وضح النّهار؟! أما ظنّكم مثلي أنّ هذه المشاعر هي البعد الأعمق للعولمة، هي ألمنا، كأعضاء في جسم واحدٍ، مع ألم أعضاء أخرى؟!
فما الّذي نفعله حيال كلّ هذا إذًا أو ما الّّذي يُفترض أن نفعله؟!
لقد ترك لنا غاندي في نضاله العظيم مثالاً ونهجًا... لكنّنا كثيرًا ما نختزل، مع الأسف، إرث غاندي بالمظاهرات السلمية والاعتصام، والصيام،... وغالبًا ما ننسى أنّ اهتمام غاندي بالعدالة لم يقتصر على محيطه وبلده، فلقد كتب عن معظم الأحداث الكبرى في العالم في زمنه وقال كلمته في كثير من النزاعات. ننسى من جهةٍ أخرى أنّ عمل غاندي كان بالأولى نضالاً في نفسه غيّره من شخصٍ يثور بسبب طرده من عربة الدرجة الأولى في وسيلة نقل، إلى شخصٍ يختار مهما كان الظّرف عربة الدرجة الثالثة.
أنا أقول إنّ النضال السّلميّ من أجل قضيّة هنا وأخرى هناك هو حقّ وواجب. لكنّني أظنّ أنّنا لا نستطيع أن نناضل، بعد اليوم على الأقلّ، من أجل هذه دون تلك. أظنّ فوق ذلك أنّ هذا النضال لا يقتصر ولا يبدأ ولا يُحصَر بمظاهرةٍ أو مقالٍ أو اعتصامٍ أو محاضرة أو رسالة احتجاج أو بيانٍ إعلاميّ، فكلّ هذا، على أهمّيّته يأخذ وقتًا محدّدًا و... ينتهي حتّى ولو أعقبه نشاطٌ يماثله. أقول إنّ النضال اللاعنفيّ هو نضالٌ على مستوى الكوكب، وهو لهذا السبب نضالٌ على مستوى النفس، وأودّ هنا أن أطرح بضعة أمثلة:
يعتصم دعاة سلامٍ صادقون في مدينةٍ ما من مدن العالم أمام مبنى شركةٍ ثبت أنّها تعيد تعليب أغذيةٍ فاتت مدّة صلاحيّتها. ينتهي الاعتصام ويشعر الشّبّان بالجوع، يدخلون مطعمًا قريبًا جاهلين أنّ عائديّته ترجع للمجموعة نفسها الّتي تملك تلك الشركة.
يلقي مدافعٌ عن حقوق المرأة محاضرةً عن قصور القوانين وإجحافها، لكنّ أكثر ما يلفت السامعين في محاضرته هو بزّته الأنيقة مع ربطة عنقٍ حريريّة مصنوعة في ورشات شركةٍ عالميّة كبرى تدور عجلة مصانعها في بعض أفقر بلدان العالم حيث تعمل ساعاتٍ طويلاتٍ عاملاتٌ في ظروف من أسوأ ما يكون ومقابل أجرٍ لا يسدّ الرّمق.
تعمل منظّمةٌ ناشطةٌ في الدفاع عن البيئة وحمايتها على تأسيس محميّة. عملٌ يُحتَرَم. لكنّ هذه المنظّمة تلجأ، في حاجتها لتمويل هذا المشروع، إلى شركة نفطٍ تساعدها مقابل شرطٍ بسيط: أن يوضع اسم الشركة مرّاتٍ عديدة على سور المحميّة وخصوصًا على بابها الرّئيسيّ. يجهل أصحاب النيّة السليمة أنّ هذه الشركة العالميّة تلوّث البيئة بشكل خطيرٍ وعنيف في أماكن أخرى كثيرة.
كلّ من الاحتجاج على بيع أغذيةٍ فاسدة والحديث عن حقوق المرأة وتأسيس محميّة طبيعيّة، أعمالٌ لاعنفيّة بشكلٍ أو بآخر، كلّ هذا مهمّ جدًّا، لكنّه قد لا يكون الأهمّ.
يبدأ نضالي اللاعنفيّ، أو هكذا يُفترض، منذ الصّباح: بأيّ نوعٍ من الصّابون أغسل وجهي؟! كم من الماء أصرف في غسيل يديّ؟! (إذا علمنا أنّ الصعوبات الكبرى الّتي تواجهها الكثير من الدول، من الآن فصاعدًا، هي صعوبات توفير مياه الشرب والرّيّ، وإذا فهمنا أنّ ذلك يعني إمكانية نشوب حروبٍ صغيرةٍ وكبيرة من أجل موارد المياه، فإنّ هذا يدلّنا على أنّ توفير الماء والاقتصاد باستعماله هو عملٌ لا عنفيّ ممتاز لأنّه أيضًا عملٌ لا عنفيّ استباقيّ!) ما الّذي أتناوله من طعام ومن أين أتسوّقه؟! ما هي وسيلة المواصلات الّتي أستقلّها إلى عملي، بل كيف أختار أصلاً هذا العمل ولماذا أستمرّ به؟! إلى أيّة مدرسةٍ أوصِل ابنتي وأنا في طريقي إلى العمل، وهل أوصلها بنفسي أو أترك ذلك لوسيلة النّقل الجماعيّة الخاصّة بالمدرسة نفسها إن وُجِدت؟!........ يمكنني أنّ أطرح ألف سؤال، تنتهي بالوسادة الّتي أسند إليها رأسي في آخر النهار، وسؤالٌ إضافيّ صعب: ألا يزال لي ما أسند له رأسي؟!... ثمّ تتكرّر الأسئلة نفسها في يومٍ آخر... وتضاف لها أسئلة جديدة: ... هل ينتهي نضالي اللاّعنفيّ مع عطلة نهاية الأسبوع، أو مع العطلة السّنويّة: أين أذهب في يوم راحتي وما الّذي أفعله فيه؟! أين أسافر إن كان لي أن أسافر في سياحةٍ مرّةً كلّ عام أو كلّ عدّة أعوام.
ثمّة دراساتٌ موثّقة تقوم بها جمعيّاتٌ غير ربحيّة في بعض البلدان تصدر قوائم سوداء بالشّركات الّتي تلوّث البيئة، أو الّتي تستغلّ عمالة الأطفال، أو الّتي لا تلتزم بقواعد صحّيّة، الخ... وأعتقد أنّه قد آن الأوان كي تنشط مثل هذه الجمعيّات في كلّ البلدان من جهة وأن تصبح عالميّةً من جهةٍ أخرى، فإذا كنّا نشتري معظم سلعنا من شركاتٍ عبر قارّيّة فإنّ من الضّروريّ أن تراقب هذه الشركات منظّماتٌ عبر قاريّة موثوقة.
أمّا في غياب هذه المؤسّسات فيمكن اقتراح ما يلي:
حين يستوي الأمر عندي وأكون قادرًا على الاختيار، فلأختر، في الحالة العامّة، المحلّيّ الصنع على المستورد، والحكوميّ على الخاص، واليدويّ على صنع الآلة... وحتّى في أبسط الأمور، يمكنني أن أختار الشراء من صاحب الحانوت البسيط على الـ "مول" الضخم...
ما أريد قوله ببساطة هو إنّي أومن أنّ كلّ عملٍ أقوم به، صغيرًا كان أو كبيرًا يرتبط بقدرٍ أو بآخر، شئت أو أبيت، وبطريقةٍ أدركها أو لا أدركها بكلّ ما يحدث في الأرض، وأنّ عليّ في كلّ مرّة أن أُحسِن الاختيار.
الوحدة الكبرى
ذلك أنّ الموضوع لم يعد موضوع ربحي وخسارتي، ولم يعد حتّى موضوع عدل وظلم، لقد صار الموضوع هو خلاصنا جميعًا أو هلاكنا معًا.
نحن مهدّدون اليوم من كلّ صوب: الغابات، وهي رئات الأرض، تموت يومًا بعد يوم. مصادر المياه في تضاؤلٍ مستمرّ. جبال الجليد الّتي كان شعراء الشّمال يصفونها بالأبديّة تبدأ بالذّوبان، والكثير من المدن الساحليّة في العالم باتت مهدّدةً بالغرق. الهواء الّذي نتنفّسه صار، خصوصًا في المدن الكبرى، يقارب في ضرره نفعه. الطّاقة الّتي اختزنَتْها لنا الأرض في الوقود الأحفوريّ بدّدنا أكثرها خلال أقلّ من مائة عام، وقد لا يلزمنا نصف هذا العدد من السّنين كي نصرف ما تبقّى، أمّا الأجيال التالية فلتحلّ أمورها بنفسها، وليكن بعدنا الطوفان... الأمراض المصطنعة،... هندسة الوراثة والاستنساخ واللعب بالحياة،... الروبوتات الّتي بدأ الكثيرون يتخوّفون فعلاً من تحكّمها فينا... كلّ هذا والخطر النووي الّذي يهدّد بتدمير كلّ الحياة في ساعات جاثمٌ على صدور الجميع منذ وقتٍ غير قصير بحيث اعتدنا عليه وما عدنا نشعر بثقله!
الوحدة الكبرى هي أكثر بكثير من مجرّد العولمة، حتّى ولو كانت إيجابيّة: الوحدة الكبرى، هذا الرّباط العضويّ للحياة الواحدة على الأرض، يخبرنا أنّ بقاء هذه الحياة، وبالتّالي بقاءنا كجنس بشريّ، يفرض علينا عمل الكثير.
يعني اللاعنف في الجوهر أن نكفّ عن أذية أمّنا الأرض، ولا يكون لنا هذا إلاّ بتغيير كلّ واحدٍ سلوكه الشّخصيّ بتغيير نظرته للحياة. ليس الموضوع هو أن نكون أكثر رفاهيّةً، بل أن نكون أكثر إخلاصًا، ولا يستقيم الأمر بأن ينتظر أحدنا الآخر... إنّما تتطلّب الحالة شجاعة الإقدام.
ساحة النقاش