اللاعنف والمدينة
حوار ذاتي وتأملات
1
لستُ معلمًا، فأنا لا أتمتع بهذه الموهبة، وهذه ليست محاضرة ولا حتى مقالة مملة أريد من خلالها استعراض ما أعرف؛ إنما، في حقيقة الأمر، هي مجرد مراجعة للذات وتفكر في مسار اخترته لنفسي متأخرًا، ألا وهو طريق اللاعنف. وقد عنونت هذه التأملات باللاعنف والمدينة، لأني من خلالها، وأنا أحاول مراجعة نفسي، كنت أفكر بنفسي وبمدينتي بمقدار ما كنت أفكر بشكل عام بكل أخ لي في هذا البلد وفي الإنسانية.
2
في نهاية العام المنصرم، وكنت حينذاك منهمكًا في ترجمة كتاب بعنوان كتابات وأقوال للمهاتما م. ك. غاندي استوقفتني في الفصل الأول من هذا الكتاب، وهو فصل بعنوان لست قديسًا ولا غارقًا في الخطيئة، عبارة في منتهى الفطرية والجمال يقول فيها:
لم أدّعي يومًا بأني زاهد[1]؛ فالزهد مرده صرامة الأشياء. أنظر إلى نفسي كصاحب بيت يعيش حياة خدمة متواضعة كغيري من العاملين الذين يعيشون على صدقات الأصدقاء... والحياة التي أعيشها سهلة ومريحة في مجملها، هذا إن فهمنا الراحة بأنها مجرد حالة ذهنية. ومن هذا المنظور، لديّ كل ما أحتاج إليه ولا أتعب نفسي باكتناز أي شيء خاص[2].
ووجدتني من خلالها أتأمل، من خلال هذا اللاعنفي الكبير، في ماهية علاقة الإنسان اللاعنفي بذاته وبمدينته.
وأبدأ بمحاولة تعريف من هو اللاعنفي وطبعًا أرجع إلى غاندي الذي يقول بهذا الخصوص ومعرفًا نفسه:
لست صاحب رؤيا. وما بوسعي أن أقوله عن نفسي هو أني شخص مثالي عملي. الذين يقصدهم دين اللاعنف ليسوا القديسين... بل عامة الناس أيضًا؛ فاللاعنف شريعة جنسنا بينما العنف شريعة البهائم، وشريعة الروح الغافية في قلب العنيف الذي لا يعرف سوى قانون القدرة الجسدية. لكن كرامة الإنسان تتطلب الطاعة لقانون أسمى هو قوة الروح...[3]
ونضيف على هذا ما نقلناه عن قاموس اللاعنف لجان ماري مولَّر الذي يقول إن:
اللاعنف، إذن، قبل أن يكون منهاج عمل، هو أولاً وأساسًا موقف. فهو الموقف الأخلاقي والروحي للإنسان الناهد الذي يقر بالعنف بوصفه نفي الإنسانية - إنسانيته وإنسانية الآخر في آنٍ معًا - والذي يقرر رفض الخضوع لقانونه. اللاعنف هو احترام كرامة إنسانية الإنسان، فيه هو وفي كلِّ إنسان آخر[4].
ونستنتج من هذين التعريفين الأولين:
أن اللاعنفي - بمعنى الشخص الذي تبنى اللاعنف - هو إنسان يعيش مع سواه، أي في المدينة. وهو من هذا المنطلق، شخص مثالي وعملي معًا...
مثالي بمعنى أنه يؤمن بمبادىء وقيم تجعله ينأى عن العنف ويرفضه. وعملي من منطلق أنه يعي حتمية أن يعيش مع سواه. يتفهم ظروف مدينته ما يجعله يسعى لحلول عملية تقاربه من العدالة التي يسعى إليها في مدينته وتجنبها العنف في نفس الوقت.
لكن، قبل أن نغوص أكثر في هذا الخصوص، دعوني أبدىء بتعريف ما أعنيه ههنا بالمدينة.
لأن الإنسان "البدائي"، وكما تعلمون، لم يكن "مدنيًّا". فكلُّنا يعلم عاش في الكهوف وفي الغابات والبراري؛ ليس وحيدًا طبعًا، إنما كـ"قطعان" أو تجمعات شبه حيوانية كان أفرادها يتعاضدون فيما بينهم على تأمين قوْتهم وعلى الدفاع عن أنفسهم. لكن، مع تطور الإنسان - مع الحضارة التي هي، أيضًا، المدنية - ولدت المدينة وتطورت.
ونشوء المدينة لم يكن مصطنعًا قطعًا إنما جاء نتيجة تطور طبيعي، أو لنقلْ، كفعل من أفعال الطبيعة، على حدِّ قول أرسطو. فالمدينة، كما قال أفلاطون في جمهوريته، نشأت (ربما) "حين لم يعد في وسع تلك التجمعات البدائية الاكتفاء بذاتها" من حيث الغذاء والسكن والملبس، مما ولَّد تلك الضرورة إلى تجمُّع أكثر تنظيمًا، بكلِّ ما نتج عنه: ذلك الذي يمكن لنا التعريف به اليوم بأنه سياسي و"يتمتع بحدِّ أدنى من الاستقلال الذاتي".
ويصبح الإنسان في قلب المدينة هو ذلك "المواطن الذي يتمتع بحقوقها ويؤدي ما عليه من واجبات تحدِّدها قوانين المدينة ومناقبها" - تلك القوانين التي تختلف في رقيِّها وتقدُّمها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي من مكان إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، بحسب تقدم البشر.
ما يعني أن اللاعنفي في قلب المدينة هو ذلك الإنسان الأكثر مدنية من سواه، ذلك الذي كان في وسعه الارتقاء إلى مستوى وعي أرقى وأكثر إنسانية، مستوى وعي يفرض عليه اتخاذ موقف تجاه ما يراه و/أو يعيشه ويعيشه الآخرون في مدينته من سوء حال ومظالم.
ونتعمق في التفكير قليلاً بما قد تعنيه هذه الأمور على أرض الواقع:
لأن اللاعنفي في المدينة هو إنسان في نهاية المطاف، إنسان يمكن أن يكون عاديًا كمعظمنا و/أو خارقًا كالبعض ممن نعرف ونسمع عنهم. وحالة اللاعنف التي يبتدىء الإنسان بوعيها فكرًا وروحًا إنما هي حالة يفترض أن يسعى إلى تطبيقها على نفسه أولاً ثم في حياته الشخصية أي عبر علاقته مع الآخرين.
والإنسان كما نعلم ليس واحدًا في النهاية - حيث توجد، كما نعلم، "وفي نفس المدينة، مستويات واقع" (بَسَراب نيكولسكو) مختلفة ومتفاوتة بين البشر، كما توجد مستويات مختلفة من التطور ومن الوعي - ما يعني بالتالي أن المدينة ليست واحدة حكمًا بمقتضى اختلاف مستويات التطور وبحكم اختلاف البشر الذين يشكِّلونها بعضهم عن بعض. لذلك فإننا، من منطلق ذلك الاختلاف وطرائق التعامل معه، ترانا نتفكر في دور اللاعنفي في مدينته. ما يعني:
أولاً بديهيةً أساسيةً تقول إن اللاعنف يبدأ بالذات. لأن علينا كي نكون لا عنفيين فعلاً أن نبدأ بالسيطرة على انفعالاتنا وأحقادنا وأفكارنا السيئة. وهذه عملية حياتية مستمرة ولا تنتهي. لهذا تأتي التمارين التي نقوم بها، والتي علينا القيام بها دائمًا، لتساعدنا على ذلك. هذا الأمر الذي كي يتحقق يفرض علينا أيضًا وفي نفس الوقت وليس...
ثانيًا إنما كشرط أساسي واجب تنمية المحبة في قلوبنا. وحين نتحدث عن المحبة لا نعني طبعًا محبة الذات للذات فقط، إنما من خلالها السعي الدائم لتجاوز أنانيتنا، ومحبة الآخر كما نحب أنفسنا. من دون هذا لا يمكن للاعنفي أن يكون لاعنفيًا وتبقى كل ادعاءاته مجرد هراء.
وهذه المحبة، مضاف عليها التدرب الذاتي على ضبط النفس الذي يبدأ من الذات ينعكس أول ما ينعكس على أصغر تلك الحلقات التي تحيط بالإنسان والتي هي الأسرة و/أو المدرسة و/أو مكان العمل، فينعكس هذا الموقف اللاعنفي ضمن هذا النطاق سلوكًا لا بد من أن يصبح معديًا.
وأتفكر في المقابل، أن هذا هو أبسط الإيمان، لأن هذه هي أبسط حالات اللاعنف الإنساني في قلب المدينة. إنها حالة أساسية نعم. لا بد منها قطعًا. ضرورية حتمًا. ولكن، إن تفكرنا بها من منطلق مثال غاندي، غير كافية بالنسبة لمن يريد أن يستخدم اللاعنف لمواجهة العسف في قلب مدينته.
بهذا الخصوص، يقول غاندي:
في هذا البلد، الذي يسوده محو الذات والخجل المقارب حدّ الجبن، ليس بوسعنا امتلاك الكثير من الشجاعة، أو الكثير من روح التضحية... وأنا أريد... أكبر شجاعة للخانع واللطيف واللاعنفي، تلك الشجاعة التي بوسعها رفع العوارض من دون أذى، أو حمل أي فكرة دون الإضرار بأي روح[5].
ونتفكر أن غاندي في حينه إنما كان يتحدث عن بلده، عن مدينته في ظل الاحتلال البريطاني، والتي كان يسود شعبها تلك الحالة التي وصفها بمحو الذات والخجل المقارب حد الجبن. وأجدني وأنا أقرأ هذا كأني أراه يتحدث أيضًا عن مدينتي التي يسودها اليوم - كمدينته آنذاك- وكمعظم المدن التي يتحكم فيها الطغيان في عالمنا، تلك الحالة من الخجل المقارب لحد الجبن. واللاعنفي لا يمكن أن يكون جبانًا. وبالتالي، لا يمكن للاعنفي في المدينة أن يكون لامباليًا تجاه ما قد يواجهه ويواجه الآخرين في مدينته من مظالم، إنما يجب عليه أن يسعى لرفع هذه المظالم بالتي هي أحسن.
وأتفكر أننا قد ارتقينا ههنا من حال إلى حال أكثر تطورًا. حال إنسان تجاوز حلقته الصغرى ولاعنفه السلبي من خلال قوة المثال، إلى حلقة أوسع توجب عليه ومن منطلق ضميري أن يسعى لمواجهة المظالم الموجودة في قلب مدينته. وهذا، كي يكون فعالاً، يعني أنه ليس بوسع اللاعنفي أن يقوم به بمفرده. وتجدنا ههنا، نقارب ما دعوناه بالسياسة.
وأتساءل لماذا، يا ترى، في مدن كمدننا - وإن كان الجميع يتحدث في السياسة بهذا الشكل أو ذاك - يتجنب الناس تعاطيها عمومًا؟ ألأنها من شأن السلطان، وبالتالي مخيفة - كما هو واقع الحال عندنا، كان وما زال، منذ القدم - من جهة، أم لأنها أيضًا، من جهة أخرى، غير نظيفة؟
وأتفكر أنه في مدن أخرى، هي اليوم أرقى من مدننا بما لا يقاس، وحيث لا يثير تعاطيها ذلك الخوف الغريزي الذي يثيره عندنا، يتجنَّبها الناس أيضًا بشكل عام. وأتساءل: هل يا ترى لأنها عندهم أيضًا، كما هي عندنا، قذرة؟
وكلمة "سياسة" (بالفرنسية politique) في أصلها اليوناني (مشتقة من كلمة polis، أي المدينة) هي كلمة تعني أساسًا كلَّ ما له علاقة بحياة مجتمع المدينة. وبالتالي فإنه من المفترض، نظريًّا على الأقل، أن تعكس السياسة، من خلال ممارستها، فهمًا ونظرةً أخلاقيةً نبيلةً إلى الشأن العام وإلى الحياة. نظرة لا تنمُّ عن أية وضاعة - اللهم إلا...
إذا أعدنا الكلمة - وأعادها الجميع في كلِّ أصقاع المعمورة (مجازًا) معنا - إلى بعض من أصولها "العربية"، حيث السياسة (المشتقة من فعل ساس) تعني، في جملة ما تعنيه، "قيام المرء على دابَّته ورياضتها وتأديبها"! فيغدو حاكم المدينة في حالنا هو "السائس" لـ"قطيع" ناسه الذين تحولوا عمليًّا، كتحصيل حاصل، إلى ما يشبه الدواب. وهذا الفهم "العروبي" للسياسة هو ما يبدو، لأول وهلة اليوم، الأقرب إلى واقع الحال على صعيد مدن كمدننا.
فسياق الحياة قد أحدث شرخًا عميقًا بين السياسة - هذه الكلمة المدنية بالاستحقاق - وبين جذورها الأخلاقية. فقد أمست السياسة اليوم - كصفة على الأقل - تعني كلَّ ما يمسُّ أمور الحكم والدولة والسلطة وعلاقتها بعضها ببعض وعلاقتها بالآخرين. وواقع الحال هذا أضحى، بحكم تحكُّم المصالح المادية به وتشابكها معه، مخيفًا وملوَّثًا إلى حدٍّ كبير.
ويتساءل اللاعنفي هنا عما يجب عليه أن يفعله ليكسر جدار الخوف القائم، وليكسر سلبية الناس تجاه الواقع القائم في مدينته، وليتعاطى الناس في المدينة السياسة بلا خوف ولكن بطرائق جديدة وبمفاهيم جديدة، تلك التي تعني أولاً وقبل كل شيء محاربة المظالم القائمة بطرائق لاعنفية وبالتي هي أحسن. وأنا هنا أتفكر مبتدءًا أيضًا بالحلقة الأصغر التي هي المدينة التي يعيش فيها اللاعنفي بحد ذاتها. وأجدني مرة أخرى أستعيد فألخص من جديد ما سبق ويقول أن:
اللاعنفي يبدأ أولاً من ذاته، فيعكسها من خلال محبته وسلوكه على الحلقة الأصغر المحيطة به. هذا مفهوم ومتفق عليه.
ثم ولمحاربة الظلم في مدينته فإن عليه التعامل والتعاون مع الآخرين المختلفين عنه قطعًا من حيث المستوى والفكر والأخلاق. لهذا نرى أن عليه هنا، وقبل كل شيء، إعطاء المثل الصالح بسلوكه ما ندعوه بقوة المثال، وعليه أن ينشر مفاهيمه وأن يجعلها في متناول الناس. ومن أجل هذا عليه تمكين علاقته بالآخرين أولاً، ونشر الوعي الإنساني بمختلف أشكاله دائمًا. وهذه جميعها حالات دائمة ومستمرة وواجبة دائمًا وأبدًا، إلا أنها لا توضح تمامًا ما المقصود بتعاطي اللاعنفي للسياسة من أجل محاربة الظلم في مدينته. وأراني أعود بهذا الخصوص مرة أخرى إلى غاندي من خلال التأكيد على بعض مبادئه الأساسية. يقول غاندي بهذا الخصوص، ومتحدثًا عن ذاته:
شعرت بأني مجبر على ولوج الحقل السياسي لأني وجدت أنْ ليس بوسعي القيام بأي عمل اجتماعي دون التعرّض للسياسة. وأشعر أنه يجب النظر إلى العمل السياسي من منطلق التقدم الاجتماعي والأخلاقي. لا يوجد في الديمقراطية حقل من حقول الحياة لا تلامسه السياسة[6].
ولأن العمل في السياسة في المدينة يعني السعي إلى السلطة فيها، نراه يوضح فهمه في هذا الخصوص فيقول:
ليس بوسع اللاعنف، من حيث طبيعته، "الاستيلاء" على السلطة، ولا يمكن أن تكون هذه هي غايته، لكن بوسع اللاعنف أن يفعل ما هو أكثر من هذا. بوسعه أن يشرف ويراقب السلطة بفعالية دون أن يستولي على أجهزة الحكم. وهذا أجمل ما فيه[7].
ويؤكده قائلاً:
لن أشارك، في أي حال من الأحوال، وبغض النظر عن اللاعنف، في إضراب عام يهدف إلى الإستيلاء على السلطة[8].
وفي كيف يمارس اللاعنفي السياسة ويتعاطاها يقول غاندي:
أنا لا أؤمن بالثورات المسلحة لأنها علاج أسوأ من ذلك المرض التي تعتقد أنها تداويه، ولأنها نتاج روح الثأر والتسرّع والغضب. وهذا يعني أنّ طريقها لا يمكن أن يكون جيدًا على المدى الطويل[9].
فما الذي يعنيه كل هذا؟ إنه يعني كما سبق وأسلفنا أن لا بد للاعنفي في المدينة أن يتعاطى في السياسة أولاً، وأن يكون الهدف من نضاله السياسي فيها السعي لرفع الظلم فيها وليس السلطة ثانيًا، وأن طريقته من أجل ذلك هي على أرض الواقع طريقة إصلاحية وليست طريقة ثورية مسلحة وعنيفة. وهذا يوضح تمامًا على ما أعتقد، ما يقصده غاندي حين يتحدث عن نفسه وبالتالي عن فهمه في أن يكون اللاعنفي في المدينة مثاليًا وعمليًا معًا.
مثاليًا بمعنى أن لا يتنازل البتة عن مبادئه وقيمه الإنسانية، وعمليًا بمعنى أن يسعى لحل المشاكل التي تواجهه بالحسنى وبالتدريج ومن خلال تسويات متتالية ومستمرة وإلى ما شاء الله.
ونتفكر من هذا المنطلق في مدينتنا (كل في مدينته) فنجدنا أمام واقع أصعب وأعمق بكثير مما نتوقع. واقع قد يقول على سبيل المثال لا الحصر، مثلاً:
أنه وكما هي الحال عندنا فإن الثقافة السائدة، ومن منطلقات قد يفترضها البعض دينية و/أو وطنية و/أو طبقية، هي ثقافة عنف. فأتساءل حول كيف يجب أن يكون موقف اللاعنفي تجاه مثل هذا الواقع الذي هو واقع مدينته وناسه. وهو واقع شائك ومعقد إن أمعنا النظر فيه. وخاصةً حين تكون هذه المدينة مستقلة. أي يحكمها من هم من أبنائها وليس الغرباء.
وأتفكر في بلدي حين كان يسعى إلى استقلاله من الاستعمار الفرنسي بقيادة الكتلة الوطنية وأقارنه بواقع الهند التي كانت تسعى أيضًا إلى استقلالها من الاستعمار البريطاني بقيادة غاندي وحزب المؤتمر، فأجدني أمام واقعين متقاربين جدًا من حيث المفهوم، رغم بعض التعارضات الطبيعية بينهما. وهذه الوقائع (من منظوري) تقول:
إنه في حال مواجهة المدينة لمستعمر محتل فإنه من السهل تعبئة الناس ضد هذا المحتل الغريب. وهذا ما حصل عندنا من خلال التفاف الناس حول الكتلة الوطنية كما حصل في الهند من خلال التفاف الناس حول غاندي وحزب المؤتمر.
حيث عندنا كما في الهند اختار الناس في البداية، ولمقاومة المحتل، الطريق العنيف الذي سرعان ما أثبت عدم جدواه، مما أدى إلى لجوئهم إلى السياسة عن طريق المقاومة اللاعنفية التي قادها غاندي، و/أو عن طريق المقاومة السياسية (التي كانت أقرب إلى اللاعنف التي قادتها الكتلة الوطنية).
وألاحظ أن كلتا الحالتين قد تكللتا بالنجاح الباهر وبأقل الكلف.
ولكن، المشاكل كل المشاكل تبدأ حين نواجه ذاتنا. المشاكل كل المشاكل تبدأ حين تواجه المدينة ذاتها لتكتشف وهي تنطلق إلى أمام مدى هشاشتها وتناقضاتها. الهند واجهت مثل هذا الواقع مباشرة من خلال الصدامات الطائفية بين أبنائها ما أدى إلى انشقاقها، وإلى التخلي العملي لأبناء كلا شطريها، ونخبها السياسية، عن مبدأ النضال اللاعنفي الذي جمعهم من أجل الاستقلال. وكذلك كانت الحال عندنا. لأنه بعد الاستقلال تبرز أمام المدينة مشاكل أعقد وأعمق يتوجب على اللاعنفي أن يتفكر بها مليًا قبل أن يسعى إلى حلها بالتي هي أحسن، أي عن طريق التسويات والنضال السياسي وليس عن طريق النضال الثوري العنيف. وهذه المشاكل تصبح في قلب المدينة المستقلة بذاتها، أي التي من المفترض أن تحكم نفسها بنفسها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كما يلي:
مشاكل طبقية تتعلق، إن تحدثنا عنها من منظور فلسفي، بمفهوم تحقيق العدالة ومقاربة السعي إليها في قلب المدينة. ويكون طريق اللاعنفي بهذا الخصوص هو الطريق الداعي إلى الإصلاح من خلال التسويات وليس طريق الإلغاء أولاً. وطريق التنمية الدائمة والمستمرة بقيادة الدولة التي يصبح واجبها ليس فقط تأمين الأمن والنظام إنما أيضًا وخاصةً تحقيق الرخاء والتخفيف من الفروقات في المجتمع. حول هذا الموضوع يقول غاندي:
لا يمكن إلغاء استغلال الفقير بمجرد تدمير حفنة من أصحاب الملايين وإنما بإزالة جهل الفقراء، وتعليمهم كيفية اللاتعاون مع مستغليهم، مما يساعد على تحويل المستغلين أنفسهم. حتى إني اقترحت بأن هذا سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى أن يصبحوا شركاء متساوين. فرأسال المال بحدّ ذاته ليس شرًا، إنما الشرّ يكمن في سوء استعماله. كما أننا سنكون دائمًا بحاجة إلى رأسال المال بهذا الشكل أو ذاك[10].
وأيضًا...
يواجه اللاعنفي في المدينة مشاكل طائفية ناجمة عن التنوع الطائفي والمذهبي القائم فيها. وهذه لا سبيل إلى حلها وتجاوزها إلاّ من خلال الفهم المشترك كل للآخر أولاً، وثانيًا عن طريق السعي لإقامة الدولة العلمانية التي تفصل تمامًا بين الدين والدولة، ولا تسمح في هذا المجال بهيمنة أكثرية أو أقلية دينية على سواها. من هذا المنطلق، وكما يقول غاندي، يكون الحل من خلال التأكيد والسعي الدؤوب لنشر ثقافة المحبة والتسامح التي تشكل أساس كل الأديان. موضحًا مفهومه بهذا الخصوص، يقول غاندي:
دعوني أشرح لكم ما أعنيه بالدين: إنه قطعًا ليس الديانة الهندوسية التي أقدِّرها حتمًا أكثر من باقي الديانات، بل الدين هو ما يسمو فوق الهندوسية، فيغير طبيعة كل شخص، ويربط الشخص بشكل لا ينفصم بالحقيقة التي يطَّهر المرء من خلالها. إنه العنصر الراسخ في الطبيعة البشرية التي لا تبخل بأي ثمن لكي تبلغ كامل تحققها، ولا تدع للنفس مجالاً للراحة حتى تتعرّف إلى نفسها، فتعرف خالقها، وتقدِّر حقيقة التطابق بين الخالق وبين الذات[11].
ثم يتابع في هذا الخصوص موضحًا فيقول:
هذا هو الدين (بمعنى الدهارما) الموافق للكتب المقدسة، والمتّبع من قبل الحكماء، والمفسَّر من قبل المعلّمين، والذي يدعو إليه القلب. لأن الشروط الثلاثة الأولى يجب أن تتحقق قبل أن يتجاوب الشرط الرابع. لذا فهو ليس في متناول أحد من أتباع وصايا رجل جاهل أو وضيع، وإن كان يدعو للشيء ذاته. لأن اتِّباع نظام "عدم الأذى" الصارم، وعدم النزاع ونكران الذات، يعدُّ من أول المتطلبات التي تؤهل الشخص بأن يبشّر بالشرع (بمعنى الدهارما)[12].
لأنه...
لدي قناعة مطلقة بأنّ أي دين ليس بوسعه الاستمرار عن طريق القوة الغاشمة. بل بالعكس، من يرفع السيف بالسيف يُقتل[13].
وأخيرًا...
يواجه اللاعنفي في المدينة مشاكل سياسية هي في الحقيقة وفي نهاية المطاف صراعات مريرة على السلطة بين أحزاب وفئات قد لا يتورع بعضها عن استخدام الأيديولوجيات الدينية و/أو القومية و/أو الطبقية لتحقيق مآربٍ لا تتجاوز في نهاية المطاف مسألة التوصل إلى تلك السلطة والتشبث بها إلى ما لا نهاية. وكل هذه المشاكل لا يمكن مواجهتها ومقاربتها من قبل اللاعنفي إلاّ عن طريق الوعي والثقافة وقوة المثال. حول هذا الموضوع يقول غاندي متحدثًا عن مفهومه للدولة اللاعنفية:
لقد أصبحت مقتنعًا تمامًا بأنّ الدولة، إن هي ألغت الرأسمالية عن طريق العنف، ستصبح أسيرة ذلك العنف، وستفشل دائمًا في تطوير حالة من اللاعنف. فالدولة تمثل العنف بشكله المركز والمنظم، ولمّا كان للإنسان روح، بينما الدولة آلة لا روح لها، فإنه ليس من الممكن أبدًا تجريدها من العنف الذي هو مبرر وجودها. من هذا المنظور تراني أُفضِّل عقيدة الوصاية. ويبقى الخوف دائمًا من أنّ بوسع الدولة استخدام الكثير من العنف تجاه الذين يخالفونها، لذلك سأكون سعيدًا جدًا لو كان بوسع الناس التصرف كمؤتمنين. وإن فشلوا في ذلك، فإني أعتقد أنّ على الدولة تجريدهم من ممتلكاتهم بأقل قدر ممكن من العنف. لهذا قلت في مؤتمر المائدة المستديرة إنّه يجب تقصّي كل فائدة منوطة بعناية، وأنه يجب الأمر بالمصادرة حين تقتضي الضروة ذلك، مع أو بلا تعويض، حسب الحالة[14].
وأخيرًا فإن من أهم ما يواجه اللاعنفي في مدينته بعيد استقلالها هو علاقتها بالمدن الأخرى. من هذا المنطلق، ومن منظور غاندي، أرى أنه لا بد للاعنفي أن يكون داعية سلام ومحبة. وهو قد لا يتفق بهذه الخصوص مع الكثير من القيم السائدة فيها أو قد يكون معها في موقع خلاف من منطلق ما قد يعتقده من أن هذه المدينة أو تلك إنما قامت على الظلم والاغتصاب لحقوق الآخرين. ونجدنا هنا تحديدًا أمام معضلة ضميرية تضعنا مباشرة على المحك في من خلال سعينا إلى العدالة: أي هل يكون ذلك عن طريق الحرب (أي العنف) أم عن طريق التفاوض واستعمال كل الوسائل الشرعية والإنسانية الممكنة من أجل ذلك؟
3
أجدني في النهاية كما هي حالي دائمًا أعود إلى البداية متسائلاً: أين نحن اليوم من كل هذا؟ أين هو اليوم موقعنا كلاعنفيين في مدننا؟ وأجدني للحظات متشائمًا حيث ما زال أمامنا طريق طويل من العمل والتوعية. وأجدني في الوقت نفسه...
... متفائلاً، ليس لأنّه بوسعي تقديم أي دليل على أن الحقّ سيزدهر، إنما بسبب إيماني الذي لا يتزعزع بأن الحقّ سينتصر في نهاية المطاف.... لأن أساس وحينا هو فقط الإيمان بأن الحق سينتصر حتمًا[15].
ساحة النقاش