تطوُّر الإنسان في أبعاده الثلاثة
بِمَ يختلف الإنسان عن غيره من الثدييات؟
عن هذا السؤال يجيبنا غوردون تشايلد في كتابه الممتع الإنسان يصنع نفسه – يجيبنا بما مفاده أن أدوات الإنسان ووسائله الدفاعية منفصلة عن بنيته العضوية، خارجة عن جسده، ليست أعضاء من أعضائه؛ يستطيع أن يطرحها جانبًا إذا شاء، وأن يستردَّها عند الحاجة، أو يستبدل بها أدواتٍ ووسائل خيرًا منها، إما بالاقتباس أو الاختراع. فهو لا يرث، بالمعنى العضوي للكلمة، استعمال هذه الأدوات، بل يتعلَّم ذلك من الجماعة التي يعيش بين ظهرانيها. أدوات الإنسان ووسائله لا تولد معه – كما هو الشأن عند الحيوان – بل تشكِّل موروثه الثقافي الذي يتعلَّمه بعد أن يخرج من بطن أمه.
هكذا حقَّق الإنسان تكيفًا مع البيئة أفضل من تكيُّف الحيوان: فالنعجة البرية تتكيف مع المناخ الجبلي البارد بواسطة معطفها السميك من الشَّعر والوَبَر، بينما يكيِّف الإنسان حياته، في نفس البيئة، بصنعه معاطف من جلد الغنم أو من صوفها. الأرانب، بواسطة مخالبها وخطمها، تستطيع أن تحفر لنفسها أوكارًا تحتمي فيها من البرد القارس والحيوانات المفترسة، بينما يستطيع الإنسان، بواسطة الرفش والمعول، أن يحفر لنفسه ملاجئ مماثلة، بل يستطيع أن يبني بيوتًا أحسن منها من القرميد والحجر والخشب. للآساد مخالب وأنياب تؤمِّن بواسطتها اللحوم التي تحتاج إليها، بينما يصنع الإنسان السهام والرماح يصطاد بها طرائده.
عيوب تكيُّف الحيوان أنه يتطلَّب أن تبقى البيئة التي تكيَّف معها بدون تغيير. لكن إذا تغيرت البيئةُ تغيرًا جذريًّا فغالبًا ما يكون متعذرًا على الحيوان التكيُّفُ مع الشروط الجديدة، فيؤدي به الأمر إلى الانقراض، خصوصًا إذا كان مفرطًا في التخصُّص overspecialized. ولنا في "الماموث" – وهو الفيل الأشْعَر – أوضح مثال يُؤتى به على عجز الحيوان عن التكيف. ويقول غوردون تشايلد ما مفاده إنه قبل حوالى نصف مليون سنة من الآن كانت قارتا أوروبا وآسيا واقعتين تحت تأثير برد شديد، عُرِفَ بالعصور الجليدية، دام ألوف الأعوام. في ذلك الزمان، كان في جماعة الفيلة عدة أنواع، نشأ منها أسلافُ الفيلة الحديثة في أفريقيا والهند. للردِّ على التحدي المتمثل في شدة البرد عمد بعض الفيلة إلى تطوير معطف سميك كثيفِ الشَّعر – هذا النوع من الفيلة هو ما عُرِفَ باسم الماموث. يقول غوردون تشايلد:
إن هذا لا يعني أن أحد الفيلة قال لنفسه يومًا: "شعرت بالبرد الشديد. لسوف أرتدي معطفًا سميكًا من الشعر"، ولا أنه استطاع أن يُنبِتَ شعرًا من جلده بفعل إرادة داخلية تتصف بالدأب والاستمرار. لا، فجرثومة البلازما قابلة للتغير، وهي في تغير متواصل. وُجِدَ في صغار الفيلة المولودة حديثًا مَن عنده ميلٌ إلى جلود شَعْراء نتيجة للتغير في جرثومة البلازما فيما كان العصر الجليدي يشتد بردًا. ولما كبرت أصبحت شَعْراء فعلاً. في المناطق الباردة تكاثرت الفيلة الشَّعْراء وأنشأتْ أسرًا كبيرة، هي بدورها شَعْراء أيضًا. تبعًا لذلك، زادت عددًا ورَبَتْ على حساب الفيلة التي لم تتلاءم مع الظرف البيئي الجديد، وأعني به شدة البرد. وبعد انقضاء عدد من الأجيال، ثبتتْ سلالةُ الفيلة الشَّعْراء أو الماموث نتيجة لتراكم التغيرات الوراثية المتعاقبة. وكان الماموث وحده القادر على تحمُّل الشروط الجليدية في أوروبا الشمالية وآسيا.
وفي العصور الجليدية، وُجِدَتْ عدة أنواع من البشر، عاصرت الماموث. كانت تصيد الحيوان وترسم له صورًا في الكهوف، لكنها لم ترث مثله معاطف شعثاء ولم تطوِّر ما يماثلها لكي تردَّ عنها غائلة البرد. بدلاً من أن يخضع الإنسان للتغيرات الفيزيائية التي مكًّنتْ الماموث من تحمُّل البرد القارس، عرف أسلافُنا كيف يتحكمون بالنار ويصنعون المعاطف السميكة من جلد الحيوان، وبذلك استطاعوا مواجهة البرد القارس ظافرين، كما استطاع الماموث.
نحن هنا أمام نوعين من الوراثة: وراثة عضوية ووراثة ثقافية. يولد عجل الماموث، ويولد معه ميلٌ إلى معطف أشْعَر يزداد كثافة كلما ربا ونما؛ على حين لا يولد طفل للإنسان وقَّادًا لنار أو صانعًا لمعطف. أبوا الماموث ينقلان معطفيهما إلى ذريتهما بالوراثة العضوية؛ أما الإنسان فيتعين على كلِّ جيل من أجياله أن يتعلم فنَّ إيقاد النار وأن يتعلم خياطة المعاطف من بداياتها الأولى. الصَّنعة تنتقل من الأبوين إلى الولد بالتعليم والتلقين، بالوراثة الثقافية، لا العضوية.
الإنسان و الماموث كلاهما تكيَّف أو تلاءم مع بيئة العصور الجليدية؛ كلاهما ازدهر وتكاثر في تلك الشروط المناخية القاسية. لكن تاريخهما النهائي افترق أحدهما عن الآخر. فالعصر الجليدي الأخير قد انقضى؛ ومع انقضائه انقرض الماموث. لكن الإنسان ظلَّ حيًّا، ظلَّ يزدهر ويتكاثر، بل ويرتقي. لماذا؟ يقول علماء الأحياء: لأن الماموث أفرط في التخصُّص overspecialized. فمع بداية اعتدال الطقس والشروط المناخية التي أعقبت العصر الجليدي الأخير، تغطَّت الفيافي القطبية الشاسعة التي كان يجوبها الماموث – تغطَّت بالغابات، وحلَّت النباتات المعتدلة محلَّ الشجيرات القطبية التي كان يقتات بها. حيال هذه الشروط الجديدة، وقف الماموث لا حول له ولا قوة. فقد كانت خصائصُه الجسمانية – ومنها معطفُه الأشْعَر وجهازه الهضمي الذي كان تكيَّف على ارتعاء أقزام الصفصاف والطحالب، وخرطومُهُ وأظلافُهُ التي جُعِلَتْ من أجل تثبيت قوائمه في الثلج – كانت تلك الخصائص قد مكَّنتْه من النموِّ والتكاثر في العصور الجليدية. لكن هذه الخصائص الملائمة لم تعد ملائمة بعد انقضاء هذه العصور؛ إذ غدت عوائق وقيودًا في الظروف المناخية المعتدلة. أما الإنسان فقد كان حرًّا في خلع معطفه إن اشتد حرُّ الصيف وأن يقتات على شرائح البقر بدلاً من شرائح الماموث.
انقرض الماموث لأنه تطور وفق سياق عُرِفَ باسم "الاصطفاء الطبيعي" natural selection؛ وبقي الإنسان لأنه يتطور وفق سياق عُرِفَ باسم التطور الواعي أو النفسي–الاجتماعي conscious or psycho-social evolution، كما يسمِّيه جوليان هكسلي.
هكذا ظهر، مع ظهور الإنسان، منحًى جديدٌ للتطور، إذ حلَّ الاختيار الواعي محلَّ الاختيار الطبيعي. فقد قام علماء أنثروبولوجيا ما قبل التاريخ بدرْس تطور جسم الإنسان وأجهزته الفسيولوجية، فاتضح أن التحسينات التي أصابت الأجهزة أو الأدوات التي صنعها الإنسان – وأعني بها الثقافة – قد حلَّتْ محلَّ التكيُّفات الجسمانية. وترجع أقدم الهياكل العظمية للنوع البشري الذي نحن ذرِّيته إلى المراحل الأخيرة من العصر الجليدي الأخير، وإلى الحقب الثقافية التي اصطُلِحَ على تسميتها في فرنسا بالحقب الأونياسية والسولترية والمجدلانية. وقد بلغ قربُ هذه الهياكل من هياكلنا العظمية حتى لا يستطيع أن يتبيَّن فروقاتها غير الخبيرين من علماء التشريح. ومنذ الظهور الأول لهياكل "الإنسان العاقل" Homo sapiens في السجلِّ الجيولوجي – وربما كان ذلك قبل 25000 سنة – لم يحصل تطور يُذكَر على الجسم البشري؛ بل واتَّسمتْ حركةُ تطوره بالسكون التام.
كيف تأتَّى للنوع البشري أن يتخذ هذا المنحى الفريد الذي منحه التفوق على سائر الثدييات؟
يقول علماء الأحياء: عقل ويدان.
انتصابُ قامة الإنسان جعل رأسه يتقاطع عموديًّا مع عموده الفقري – وبالتالي نخاعه الشوكي – مما أتاح نموًّا لدماغه الذي لا يضاهيه دماغُ أيٍّ من الثدييات القريبة منه؛ وبنفس الوقت، أتاح لجسمه حمل رأسه الثقيل الذي ما كان بوسعه حملُهُ لو كان جسمه بوضع أفقي. أما اليدان، فقد أتاح تقاطعُ الإبهام عموديًّا على راحة الكف وإمكانية تعاملها مع سائر الأصابع – أتاح له أن يمسك بالأشياء وأن يحوِّر أو يغيِّر فيها، بحيث يستطيع أن يتخذ من يديه آلةً تصنع آلة، بل آلات. من هنا جاء تعريفٌ آخر للإنسان بالقول إنه "حيوان يصنع آلة" Homo faber (من حيث إن التعريف الأول: "الإنسان حيوان عاقل"). وقد أتاح نموُّ دماغ الإنسان نموًّا لمراكز النطق؛ فأصبح الإنسان قادرًا على تسمية الأشياء، إما بالمحاكاة أو بالتواطؤ. وعن تسمية الأشياء نشأ "التفكير المجرد" abstract thinking – ويسميه جوليان هكسلي "الفكر التصوُّري" conceptual thought؛ ولعله امتياز للنوع البشري حصرًا. فالفرَس، إذ نسمِّيه بهذا الاسم، إنما ننتزعه من الواقع، من جملة الأشياء التي تحيط به؛ لكننا ما نلبث أن نعمِّمه، بحيث يندرج تحت هذه التسمية جميعُ أفراد الفرَس، غاضِّين النظر عن صفاتها الثانوية، كاللون والحجم والسرعة إلخ.
هكذا حلَّتْ صورةُ الشيء الذهنية، المتمثلة بالكلمة، محلَّ الشيء الموجود في العالم الخارجي، وأمكن التعاملُ مع الصور الذهنية وإيجاد علاقات فيما بينها، بمعزل عن نماذجها الحسية، مما أتاح التفكير والتأمل واختزان التجارب السابقة في معلومات ينقلها السلفُ إلى الخلف. وهو ما عُرِفَ باسم "المنقول" أو المأثور tradition.
مع ظهور الإنسان وعى الكونُ نفسَه، كما يقول جوليان هكسلي. وبوعيه لنفسه، انقسم إلى ذات وموضوع. وأصبح الإنسان هو موضوع التطور وهو أداته: هو المطوِّر وهو المطوَّر. أصبح قادرًا على التحكم بالطبيعة – وإنْ نسبيًّا – كما أصبح قادرًا على التحكم بطبيعته، لكن بدرجة أقل. ولقد تمثَّل تحكُّمُه بالطبيعة في استخراج الثروات من باطن الأرض ومن سطحها: استخرج المعادن: النحاس، الحديد، القصدير، الذهب، النفط، إلخ؛ زَرَعَ الأرض، وهجَّن البذور والحيوان، وبنى البيوت الزجاجية؛ روَّض الأنهار، ومخر عباب البحار؛ أقام الجسور وبنى السدود وشيَّد ناطحات السحاب؛ وركب متن الفضاء الخارجي، سعيًا إلى بلوغ المجرَّات. لكنه، من ناحية ثانية، فجَّر الذرة، وأطلق قوى العماء، التي أشارت إليها الكتبُ المقدسة باصطلاح "يأجوج ومأجوج"، وصنع القنبلة الذرية والهيدروجينية، ولوَّث البيئة وأوْجَدَ خرقًا في الطبقة الأوزونية. وسَبَبُ هذا التناقض فقدانُ التناسب بين قدرته على التحكم بالطبيعة وقدرته على التحكم بطبيعته.
وإذا كان الإنسان هو موضوع التطور، وهو أداته، غايته ووسيلته، فإلى أين يسير الإنسان، وماذا يريد أن يصير؟ هل يمكنه أن يصير أكثر من إنسان، أي إنسانًا يتجاوز نفسه؟ أقول، بكلِّ بساطة، إن فيه القدرة على بلوغ "ما بعد الإنسان" trans-human، كما عبَّر عن ذلك جوليان هكسلي. وإنه لا بدَّ بالغ هذه المرحلة لأنه كان قد حلم بها منذ أن صدمتْه حقيقةُ الموت. والحلم، في رأينا، سببٌ كافٍ لتحقيقه. فالإنسان ما حلم بشيء قط إلا حقَّقه. والإنسان، هنا أيضًا، أداةُ تحقيق الحلم وغايتُه، يتحقق به وفيه وله. ولئن كان الإنسان هو ما ينقل traditio – كما يقول لوك بنواست في كتابه الباطنية – (= ينقل المعرفة)، وليس يوجد إلا لأنه ينقل، وبمقدار ما ينقل، فإنه هو أيضًا ما يحلم، وليس يوجد إلا لأنه يحلم، وبمقدار ما يحلم. فالحلم هو مهماز الإرادة وحافزها. حسب الإنسان أن يحلم حتى يتحقَّق حلمُه، وتبقى المسألة عندئذٍ مسألة وقت لا أكثر. وإذا قلنا "يحلم" فمعنى ذلك أنه "يريد"؛ لأن الحلم ينطوي على إرادة؛ لا بل إن الحلم هو الإرادة.
قلت إن الإنسان ما حلم بشيء إلا حقَّقه: حلم بالطيران مُذْ رأى الطيور تحلق بأجنحتها في السماء ثم تحطُّ على الأرض، وتستطيع ما لا يستطيع. قال في نفسه: لماذا لا أفعل مثلها؟ قَبِلَ التحدي وطار. وهاهي ذي طائراته تدوِّي في أجواز الفضاء وتخترق جدار الصوت. حلم بالمرآة السحرية التي ترى الأشياء وهي في أقاصي الأرض، فكان أن اخترع الرائي أو التلفاز. كلُّ ما نصنعه وما نخترعه كان شيئًا حلمنا به وتطلَّعنا إلى تحقيقه. الحضارة البشرية، بكلِّ ما حفلت به من مخترعات وتقانيات، ما هي إلا تحقيق لأحلام راودتْ مخيلةَ البشرية واجترحها مبدعوها.
الحلم لا يصنعه الإنسان، بل هو يصنع الإنسان – أعني عالم الإنسان. أوليس الإنسان نفسه هو حلم الألوهة بالصيرورة؟ فلماذا لا تكون الألوهة هي حلم الإنسان بالصيرورة؟ ومن أجل هذا حلم الإنسان بقهر الموت. ولعل هذا الحلم أقدمُ حلم حَلُمَ به الإنسان. نجده ماثلاً في مخلَّفاته كلما أوغلنا في أعماق التاريخ، بل وما قبل التاريخ. كان الإنسان القديم يزوِّد موتاه بالطعام والشراب والحليِّ والمجوهرات، بل والأسلحة، اعتقادًا منه بأن ميتته ميتةٌ مؤقتة، لا يلبث بعدها أن يعود إلى الحياة ثانية لكي يستخدم فيها ما كان يستخدمه في حياته الأولى من هذه الأشياء والمتاع. إننا اليوم قد نضحك من سذاجته، لكنَّ هذه لغته في وصف حلمه!
من بعض الوجوه، إن مصدر حلم قهر الموت ليس هو الإنسان نفسه؛ لأن هذا حامل أو ناقل. فهذا الحلم ليس مِن صُنْع الإنسان، بل مِن صُنْع القدرة أو الإرادة الكلِّية التي تسير بالعالم إلى تحقيق نفسه. يبدو لي الحلم وكأنه مستقل عن إرادة الإنسان ووعيه؛ بل تبدو هذه الإرادة وكأنها موضوعة في خدمة تحقيقه، وهذا الوعي وكأنه صياغة من صياغته. وكأني بالحلم جهاز نفسي يعمل بمعزل عن إرادة الإنسان، تمامًا كما تعمل أجهزة الإنسان الفسيولوجية بمعزل عن إرادته.
من أهم وقائع حلم قهر الموت – إن لم يكن أهمها على الإطلاق – قيامة السيد المسيح – عليه الصلاة والسلام – من بين الأموات بعد صلبه وموته، بحسب الاعتقاد المسيحي، أو ارتفاعه، بحسب الاعتقاد الإسلامي، من غير ما صلب أو موت، وبقائه حيًّا حتى مجيئه الثاني. وسواء أكنَّا مؤمنين بصحة هذا الاعتقاد أو ذاك أم غير مؤمنين، فإن الحقيقة الثابتة هي أن هذا الاعتقاد يعبِّر – فيما يعبِّر – عن تطلُّع الإنسان إلى عهد يستطيع فيه قهرَ الموت، بإضفائه هذا التطلُّع على شخص السيد المسيح. وينبغي أن نؤكد هنا أيضًا أن هذا الإسقاط أو هذا التطلُّع ليس مِن صُنْع مَن أسْقَطَ أو مَن تطلَّع؛ بل إنه يطرأ عليه، أو "يحدث له"، كما يقول يونغ. ثم، إنك لا تُسقِط نفسك على شيء أو شخص إلا ويصير هذا الشيء أو الشخص أنت نفسَك، لكنْ في موضوع خارجي – أي ذاتك متمَوْضِعَةً في العالم الخارجي – أو تصير أنت هو!
ونحن نعلم من الميثولوجيا أن الآلهة كانت تُقتَل أو تموت، ثم تنتصر على الموت وتعود إلى الحياة مع تجدد الفصول، ولاسيما فصل الربيع. من هذه الآلهة: أوزيريس ودُموزي وأدونيس وديونيسوس ومِترا إلخ.
بمناسبة انتصار السيد المسيح على الموت، ثم ارتفاعه إلى السماء وجلوسه على يمين الآب، يؤكد المأثور المسيحي أن السيد المسيح ظهر لتلاميذه بعد موته. يقول الفيلسوف ميخائيل نعيمه في كتابه من وحي المسيح إن التسليم بذلك أقرب إلى الحقيقة من نفيه:
إذ ليس من الصعب أبدًا على من انفتحتْ له أبوابُ المعرفة كما انفتحتْ للمسيح أن يتصرف بذريرات المادة على هواه، فيخلق منها لنفسه جسدًا ساعة يشاء، ويمحو ذلك الجسد ساعة يشاء.
الرجل وما به يؤمن!
لكن ما هو عامل تطور الإنسان في الإنسان؟ الجواب: الفعل الإرادي.
ما أيسر على الإنسان – بل على الكائن الحيِّ عمومًا – أن يقوم بفعل من أفعال الغريزة لما يصحبه من لذة. فهو لا يتطلب جهدًا أو مشقة من فاعله. بل إن الغريزة نفسها تحضُّ الإنسان على إشباعها، وتسوقُهُ سَوْقًا إلى الفعل الذي تقوم بينه وبينها مناسبة. فلذَّة الجنس ولذة الطعام من الملاذ التي إذا أدمنها المرء فَقَدَ إنسانيته ونزل بها إلى مستوى الحيوان؛ إذ هي تبعده عن قطبه الروحي وتُفقِده ملَكاتِه الروحية. الغريزة تكفل للإنسان بقاءه وتضمن له التناسل والتعاقب، لكنها لا ترتقي به كائنًا روحيًّا. فالفعل الذي يرتقي بالإنسان إنما هو الفعل الإرادي الذي يضبط الفعل الغريزي ويكبح من جماحه، على الرغم مما قد يصاحبُ ذلك من ألم ابتداءً. وكلُّ نجاح يحرزه الإنسان فردًا في هذا الميدان فإنما يصبُّ في حوض الإنسان نوعًا، وينضاف قوةً جديدة، يرثها الخلفُ عن السَّلف، وتتبدَّى قدرةً خارقةً قد تبدو طفرةً في كثير من الأحيان.
الانقطاع عن الطعام – ولو يومًا واحدًا – إنما فَرَضَه الإنسانُ على نفسه لكي يشعر أنه كائن أعلى رتبة من الحيوان. وعلى هذا يكون الصيام تحقيقًا لإنسانية الإنسان، وتوكيدًا لِذَاته بما هو كذلك، يتقدم به – ولو خطوة واحدة، مهما تكن صغيرة – على طريق التحقيق الأمثل. ويصبُّ في نفس المجرى الامتناعُ عن الجنس في أزمنة أو أمكنة معينة، أو مع أشخاص معينين.
على هذا، يكون الفعل الإرادي الكابح أو المنظِّم للفعل الغريزي فعلاً أخلاقيًّا بامتياز؛ إذ يرتقي بالإنسان درجة إلى الأعلى أو خطوة إلى الأمام. وكلُّ انتصار يحقِّقه الإنسان على الفعل الغريزي إنما هو لمصلحة ارتقائه الروحي. ولذلك توجَّهتْ معظم الوصايا الدينية على النهي عن إتيان فعل (وهو غالبًا ما يكون فعلاً غريزيًّا) أكثر مما توجَّهتْ على الأمر بفعل، فقالت:"لا تقتل"، "لا تسرق"، "لا تزنِ"، "لا تشتهِ امرأة قريبك"، إلخ.[1]
ومن شيمة الفعل الإرادي تنميةُ ملَكات وقدرات تبدو معجزات وخوارق. وبهذا الصدد يقول ميخائيل نعيمه عن العجائب التي أتى بها السيد المسيح إننا
لا نستطيع تصديقها إلا إذا سلَّمنا بأن في الإنسان قوى خارقة مازالت عند السواد الأعظم من الناس في حالة الهجوع! وهذه القوى لا تخرج عن نظام الكون، بل هي ضمن ذلك النظام. أما الطريق إلى إيقاظها فهو أولاً الإيمان المطلق بوجودها ووجود النظام الكوني، ثم التجرد من كلِّ حاسة وفكرة وشهوة ونيَّة تعرقل خُطى الطالب وهو في سبيله إلى إيقاظها. على أن تكون غايتُه تحريرَ نفسه وتحريرَ إخوانه الناس من ربقة الغريزة التي تقف حاجزًا بين الإنسان والله. [...]
وقد كانت العوائق التي تخلَّص منها السيد المسيح خمسة هي: غريزة الجنس، غريزة التملُّك، غريزة السيطرة، غريزة الدفاع عن النفس مهما تكن الوسيلة، غريزة الخوف من الموت.
نعود فنؤكد قائلين إنه في كلِّ مرة تنتصر فيها الغريزةُ على القيمة أو على الفعل الإرادي، الذي هو، كما بيَّـنَّا، الفعلُ الأخلاقي بامتياز، "تنغلق المادة على الروح"، كما يعبِّر عن ذلك الثيوصوفي ندره اليازجي؛ وعندئذٍ يكون التطور هابطًا إلى أسفل involution، أو – بالمصطلح الديني – "سقوطًا". وفي كلِّ مرة تنتصر فيها القيمةُ على الغريزة "تنغلق الروح على المادة"؛ وعندئذٍ يكون التطور صاعدًا من أسفل إلى أعلى evolution، أو – بالمصطلح الديني – "نجاةً" أو "خلاصًا".
في التطور النازل أو الهابط، تكون الإرادة خاضعة للغريزة، مسوقَةً منها؛ إنْ هي إلا أداة تنفِّذ ما هي مجبرة على فعله. أما في التطور الصاعد فالإرادة سائقةٌ للغريزة، مهيمنةٌ عليها. لكنها، لكي تستطيع أن تفعل ذلك، لا بدَّ لها من الاستعانة بنقطة ارتكاز خارجية، أو إنْ شئت قلت: رافعة!
هذه "الرافعة" هي الدين، كما يرى ذلك إمام مدرسة علم النفس التحليلي كارل غ. يونغ. فما هو الدين؟
للدين تعريفات كثيرة، تخيَّرتُ منها هذا التعريف الذي يعرضه وليم كنغزلاند. يقول صاحب كتاب خريستوس أو دين المستقبل:
الدين هو الجهد الذي يبذله الإنسان من أجل تحقيق طبيعته وقدراته الروحية التي فُطِرَ عليها.
ويتابع:
[…] كلُّ ما يمكن له خدمةُ هذا الجهد يجب اعتباره شيئًا لاحقًا بالدين، وإنْ لم يكن هو الدين نفسه.
ثم يقول:
وربما كان هذا الجهد، في الدرجة الأولى، تلمُّس الطريق إلى الله feeling after God.
والدين، إن كان مسعى من الإنسان لتحقيق صلته بعالم ما فوق الفيزياء supra-physical، إلا أنه، في نفس الوقت، أعلى جهد إنساني وأعمق غرائز الإنسان تجذُّرًا. والدين، بما هو جهد يبذله الإنسان في سبيل تحقيق طبيعته وملَكاته الروحية، يقع في الخطِّ الطبيعي من تطوره، بما هو مرحلة متقدِّمة تتجاوز نموَّ عقله وذكائه. كذلك هو تطلُّع إلى بلوغ حقيقة خفية غير مرئية – سواء اتَّخذ هذا التطلُّع هيئة العلم أو الفلسفة، أم ما يحمل – بصورة أعم – اسم الدين في أشكاله المؤسَّسية. ثم إن الدين، من جانب آخر – يتابع كنغزلاند –
ليس مجرَّد مسألة خلاص فردي [...]. إنه سياق كوني لا يستطيع الإنسان بأيِّ طريقة من الطرق أن ينفصل عنه. إنه الجهد العظيم الذي يبذله "كلُّ الخلق" للعودة إلى منبعهم بعد دورة الصدور أو الذهاب.
"لسوف أقوم وأذهب إلى أبي" – هكذا قال السيد المسيح. وهو، في الأصل، سعيُ الإنسان إلى أن يجد نفسه، إلى أن يحقِّق نفسه.
لقد جاء الدين من كون الإنسان ذا طبيعة روحية – أي من كونه حيوانًا متدينًا Homo religiosus، لا من كونه حيوانًا عاقلاً أو ناطقًا، ولا من كونه حيوانًا يصنع آلة. فالدين، وإن بدا مرتديًا ثوب العقل، إلا أنه شأن غير عقلي في الأساس، من حيث إنه "تلمُّس الطريق إلى الله"، كما يقول كنغزلاند؛ ليس أقل من العقل، كما يتوهم البعض، بل أكثر منه. إن الروح تستخدم العقل لكي تُظهِر ذاتها وتعبِّر عن نفسها بلغة يتفاهم بها الناس. ونخطئ فهم الدين إذا وقفنا عند حدود اللغة، ورحنا نناقش طروحاته كما نناقش قضية فلسفية أو علمية. فاللغة الدينية لغة رمزية بامتياز؛ و"من طبيعة الرمز – يقول بنواست – ازدواجية المعنى، بل قابليته لأن يفسَّر تفسيرات كثيرة، كلها صحيح من مختلف وجهات النظر". وأدقُّ من هذا قولُ السهروردي إن الردَّ على الرمز متعذر "لتوقف الردِّ على فهم المُراد، وهو باطن غير مفهوم، والمفهوم منه ظاهر غير مراد".
في علم النفس الديني، النفس نفسان: سفلية وعلوية. السفلية مهمتُها تلبية احتياجات الإنسان الغريزية والدنيوية، وتتَّجه بالطاقة النفسية من محور المركز إلى المحيط، ومن الداخل إلى الخارج؛ والعلوية مهمتها تلبية احتياجات الإنسان الروحية (= تلمُّس الطريق إلى الله)، وتتَّجه بالطاقة النفسية من محور المحيط إلى المركز، ومن الخارج إلى الداخل.[2]
عندما أكل آدم من الشجرة المحرَّمة كان يعبِّر عن رغبته في الانفصال عن عالم الله والانتقال إلى عالم آخر يلبِّي فيه احتياجاته الغريزية وشهواته الدنيوية – وبمعنى آخر، عن حريته في اتخاذ القرار، ولو عصيانًا – أي ضم نفسه العلوية إلى نفسه السفلية، أو انحباس الروح في المادة – وهذا هو الموت. وما "السقوط" أو الهبوط إلا فقدان الوعي الكوني والنزول إلى مستوى وعي الأنيَّة ego منفصلةً عن جذرها ومنبعها.
في القرآن الكريم نجد الإنسان قد خُيِّر أن يبقى في رحاب الله تعالى – حيث لا مرض ولا شيخوخة ولا موت – وبين أن يستقلَّ بنفسه عن الله، فتخيَّر الاستقلال بإرادته عن إرادة الله. وكان هذا الانفصال خطيئتَه التي دفع ثمنها مرضًا وشيخوخة وموتًا. وهذا هو مؤدَّى قوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً." وليس كالإسلام لإرادة الله تعالى ما يرأب الصدع ويُرجِع "الخروف الضال"، بالمصطلح المسيحي، إلى حظيرة الراعي.
لكن، ماذا يعني الانتصار على الموت والجلوس عن يمين الآب؟ بكلِّ بساطة، يعني: اندراج النفس السفلية في النفس العلوية، حيث تتطهَّر الأولى وتصبح لائقة للجلوس إلى يمين الحضرة. وهو التقاء النهاية بالبداية، والألف بالياء. يقول محمود الشبستري: "فإن اتحدتْ نقطةُ ابتداء [الإنسان] مع نقطة انتهائه، لم يبقَ ثَمَّ مكانٌ لملَك أو نبي"، حيث "تسقط الأوامر والنواهي وتختفي كلُّ إشارة"، كما يقول السهروردي.
إذن، ما على الإنسان إلا أن يصل إرادتَه بالإرادة الكونية التي توجِّه مسيرة التطور صعودًا إلى حيث تتلاقى الألف والياء، أو النهاية بالبداية. في هذه الحالة لا يعتمد الإنسان على إرادته وحدها، بل على إرادة الله تعالى التي تضمن له الانتصار على الحيوان الذي فيه. وفي هذه الحالة أيضًا، يكون الإنسان منسجمًا مع حركة الكون التصاعدية، سائرًا والوجهةَ التي يسير إليها "كلُّ الخلق". وهذا هو "الإسلام"، بالمعنى الأوسع للكلمة – الإسلام الذي تندرج تحته جميع الأديان بلا استثناء.
في كتابه القيِّم رد على اليهودية واليهودية المسيحية يقول ندره اليازجي:
لما كان الإنسان الأول قد سقط من عليائه فإنه خضع لمملكته الجديدة، وهي مملكة المادة والموت. فلو أن آدم ظلَّ في عليائه ولم يسقط، لما مات ولظلَّ حيًّا. أي أن حياته كانت في الله، ولكنه سقط فخضع للموت. وخضوعه للموت يعني خضوعه لعالم المادة وقوانينها، أي الانحلال والفساد. والموت هو ثمن الخطيئة. إذًا مَن لا يخطئ لا يموت.
ونحن نرى أن استمرار مؤسَّسة الموت في الوجود علامةٌ على وجود النقص. فمادام هناك نقصٌ فهناك موت، لأن الموت ضرورة للتطور، وبالتالي لبلوغ الكمال. وبالكمال يموت الموت!
في المأثور الإسلامي: يؤتى بالموت يوم القيامة في هيئة كبش أملح، ويؤمَر جبريل بذبحه... فيذبحه!
*** *** ***
ساحة النقاش