النفس المطمئنة وسط دوائر الخير

فى إحدى جلسات العلاج النفسى الجمعى بادر أحد المرض بالسؤال التالى متوجها به نحو المعالج:

 ـ  مشكلتى الأساسية التى  جئت للعلاج منها هى علاقتى بالناس فرغم ان عمرى الآن يصل الى 25 عاما الإ اننى أجد صعوبة شديدة فى فهم الناس والتعامل معهم .. فإذا تعاملت معهم بطيبة خدعونى .. وإذا تعاملت معهم بقسوة وشدة كرهونى وكرهتهم .. فماذا افعل ؟ لقد فكرت أن ابتعد عنهم وأستريح .. ولكن كيف يتسنى لى ذلك وهم حولى فى كل مكان ؟

واستطرد مريض آخر مؤيدا رأى زميله ومضيفا عليه :

ـ وأنا أيضا أعانى من نفس المشكلة فانا لا استطيع أن أضع ثقتى فى أحد من الناس .. فهم جميعا ليسوا أهلا لهذه الثقة ..ولكن شكى هذا يعذبنى ويجعلنى دائما بعيدا عن الناس .

وأضاف مريض ثالث :

 

ـ وأنا لا أحتمل العلاقة بالناس .. وأعتبر أى مقابلة لشخص آخر عبئا ثقيلا على صدرى لدرجة أننى إذا رأيت شخصا أعرفه أو يعرفنى قادما من طريق فإننى أسارع بالدخول فى طريق جانبى حتى لا ألتقى به أو أبادله الحديث واذا اذهب الى عملى وتوافد الناس لقضاء مصالحهم من مكتبى  فإننى أحاول التخلص منهم بأسرع ما يمكن وغالبا ما أحيلهم الى موظف آخر لكى أستريح من تساؤلاتهم التى أحس انها تضغط على أعصابى .

وتناول الحديث مريض رابع فقال :

ـ أنا أعتقد ان أفضل أسلوب للتعامل مع الناس هو القوة فنحن نعيش فى غابة ولا فوز فيها إلا لمن يستأسد

وأضاف مريض خامس :

ـ إن أفضل طريقة للحياة فى هدوء هو البعد عن الناس وإهمالهم .

ولاحظ المعالج اضطراب  تصور العلاقات بالناس ولدى معظم المرضى الموجودين لذلك اقترح أن يجيب كل فرد من أفراد المجموعة على السؤالين التاليين :

1 ـ ماذا استفد من علاقاتك بالناس ؟

2 ـ ماذا خسرت فى علاقاتك  بالناس ؟

ولاحظ المعالج أيضا تعميم الأحكام ( بالسلب أو الايجاب ) لدى معظم المرضى فاقترح أن يكرر كل فرد العبارات الثلاثة التالية ثم يقول فى النهاية أيها أقرب الى الحقيقة :

1ـ الناس كلهم طيبون .

2ـ الناس كلهم أشرار .

3ـ الناس بعضهم طيبون وبعضهم أشرار .

واتضح من خلال هذه الألعاب العلاجية والمناقشات والتفاعلات أن كثيرا من الاضطرابات النفسية على اختلاف أنواعها تنشأ ( أو تزداد حدتها ) بسبب اضطراب علاقة الفرد بمن حوله وهذا الاضطراب غالبا ما يبدأ فى الأسرة حيث تكون العلاقات السائدة فى الأسرة لا توحى بالأمان والثقة فيتعلم الطفل منذ البداية ان سيئون وأن الحياة قاسية ويفقد القدرة على تبادل المشاعر الصحية مع الآخر ( داخل وخارج نطاق الأسرة ) وفى بعض الأحيان تكون العلاقات داخل الأسرة طيبة ولكن هذه الأسرة تكون منغلقة على نفسها وتنظر بشك وتوجس نحو المجتمع المحيط بها فينشأ الطفل محدود العلاقات بأفراد الأسرة أو من يعرفهم معرفة لصيقة على حين يعجز فى اقامة علاقات عميقة خارج هذا النطاق .

وفى بعض الأحيان يضطرب تصور الانسان للعلاقة بالناس بسبب مواقف تعرض فيها للظلم أو القهر أو الخداع ثم محكمة على كل الناس فتراه يصف الناس كلهم بأنهم ظالمون أو مخادعون لمجرد انه قد تعامل مع بعضهم ووجد فيهم الظلم أو الخداع .

وقد حاول المعالج طوال الجلسة أن يزيد بصيرة المرضى بهذه العيوب التربوية وهذه التعميمات التى أدت الى تشوه علاقتهم بالناس وبالتالى الى معاناتهم النفسية , ثم حاول قرب نهاية الجلسة أن يأخذ الحوار مسارا إيجابيا بناء فاشتراك مع المرشد الدينى ( الذى يحضر الجلسة) فى وضع التصور الصحيح للعلاقة بالناس وكانت منها ( المعالج والمرشد الدينى ) العبارات التالية :

إن الله قد خلق الانسان ليعيش وسط الناس ويقوم بوظيفته فى عبادة الله وعمارة الأرض , وهو لا يستطيع أن يقوم بهذه الوظيفة بمعزل عن الناس .

والناس ليسوا سواء فمنهم الخيرون ومنهم الأشرار وأكثرهم بين هذا وذاك , بل ان الشخص الواحد تختلف أخلاقه من وقت لآخر ومن موقف لآخر , فكأنه مجموعة أوتار بعضها خير وبعضها شرير والإنسان العاقل هو الذى يعرف كيف يضرب على أوتار الخير فى الشخص الذى يتعامل معه ,وأن يتجنب أوتار الشر ولذلك فالتعميم فى الحكم على الناس أو فى الحكم على الشخص يوقعنا فى أخطاء كبيرة تؤثر فى علاقاتنا بالناس .

وبعض الناس يكرهون المجتمع وينفرون منه بسبب كثرة تعرضهم للنماذج السيئة فيه فهم لا يتعاملون إلا مع المدمنين والمجرمين والمحتالين والجهال لذلك يغلب على نظرتهم للمجتمع طابع التشاؤم والشك والكراهية وتنطبع فى نفوسهم صورة للحياة أغلبها سوداء فتلقى على النفس ظلالا كئيبة .

أما العقلاء من البشر الذين هداهم الله الى خير فإنهم يحيطون أنفسهم بدوائر كثيرة من الخير فهم لا يسمعون إلا الكلمة الطيبة الداعية الى الخير ولا يقرءون إلا الكلمة الطيبة الداعية الى المحبة ولا يتعودون إلا على الأماكن الطاهرة ( كالمسجد وأماكن العمل المثمر ) ولا يصاحبون إلا الأتقياء الأخيار الذين تغلب عليهم نوازع الخير والصلاح . وكأن الإنسان من هؤلاء يحيط نفسه بباقة من كل أنواع الخير والمحبة والسلام ولذلك فحرى بهذا الإنسان أن تنطبع فى نفسه صور للحياة وللناس أغلبها مضيئة فتنفتح أمام هذه النفس الطيبة آفاق من الاطمئنان والتفاؤل وهذه الآفاق لا يعكرها بعض النماذج السيئة التى يضطر هذا الإنسان الطيب الى التعامل معها بحكم العمل أو الجوار لأن صور الخير وطاقاته تكون غالبة على صور الشر وطاقاته ولهذا يقول رسولنا الكريم :

" مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ...." الحديث .

ويقول :

" المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ".

ومن هنا نجد ان الانسان مسئول عما ينطبع فى نفسه من صور طيبة أو صور سيئة حيث انه هو الذى يعرض نفسه للنماذج الطيبة أو يعرضها للنماذج السيئة ( من كلمة مسموعة أو مقروءة أو صداقة أو صحبة أو جوار ) ويمكن أن نمثل لذلك بشخص أن يرى فى هذا البلد كل الأماكن الجميلة من حدائق وأنهار الى غير ذلك فإنه فى النهاية زيارته لهذا البلد يخرج وفى ذهنه صور تبعث البهجة فى نفسه , أما إذا اختار هذا الشخص أن يزور فقط الأماكن السيئة فى هذا البلد كشبكات المجارى وأماكن تجميع القمامة فانه يخرج وفى ذهنه صور تبعث الاشتمئزاز والانقباض فى نفسه .

إذن فالنفس المطمئنة هى تلك النفس التى تجمع حولها أكثر ما تسطيع من دوائر الخير وتنقى من خليط البشر خير من فيهم وخير ما فيهم مصداقا لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : " لا تصاحب الإ مؤمنا ولا يأكل طعامك الإتقى "

المصدر: أ . د محمد المهدى أخصائى الطب النفسى السعودية

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,285,579