نتعرض فى هذه المسألة الى معالجة الاكتئاب من ناحية الاتجاه الدينى ذلك الاتجاه  الذى طالما أهملناه ردحا طويلاً من الزمن وبالذات فى علاقته بالعلوم الإنسانية ظنا واعتقادا من البعض بأن شيء والعلم شيء أخر  , وأن حرية الفكر تتطلب بالضرورة أن نكون بمنأى عن شعائر الدين وطقوسه , وكان غداة ان سمعنا النداء القائل :( أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) مرورا بحقب زمنية سحيقة عبر القرون الوسطى ووصولا إلى عصرنا الحديث .. عصر التقدم .. عصر رائد الفضاء السوفيتى الأول " يورى جاجارين " الذى قال عند دورانه حول الأرض لاول مرة :" فتشت عن الله كثيراً عند وصولى للسماء فلم أره " !! فإذا كان هذا الملحد المغرور ينكر وجود الله وان الدين عدو العلم اللدود ..إذا كان ذلك كذلك فى نظره .. فليس الإسلام مثلا ـ معاديا للعلم ولا للتجربة الحسية الآتية التى تقوم عليها وليس معاديا للصناعة ولا للتطور الاجتماعى أو الصناعى بل هو يدفع للأمرين دفعا قويا .. يقول الله تعالى : " قل سيروا فى الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين " .. ثم يقول عز من قائل : "  قل انظروا ماذا فى السموات والأرض"

 إلى أن يقول : " هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه والية النشور " .. هنا يحث القرآن الكريم على اجراء لاختبار ولامتحان للأحداث الماضية حتى يستخلصوا منها العبرة كما حثهم على النظر فى السماء والأرض حتى يقفوا على ما فيها من قوى وانسجام بينهما فيشهدوا بذلك على الخالق الذى خلقها وكما حثهم على السير فى الأرض والتنقيب عما فيها من مصادر الثروة ليضمنوا لأنفسهم الرزق بعد أن أخبرهم بأنهم ممكنون منها وأن السيادة عليها .

   عندما نتعامل مع الاكتئاب من المنظور الدينى , علينا أن نؤكد على السمات الأساسية لميكاليزمات التكيف لدى الانسان الفرد , بمعنى أن نلاحظ عينة من سلوك الشخص فى مواقف متعددة ونرى إلى أى مدى يتلاءم هذا السلوك مع النظام الدينى السائد فى المجتمع .. أليس الدين هو بلسم القلوب المكلومة وهو عزاء الانسان وسلواه فى المحن والأزمات , وهو العامل الملطف فى المحن والأزمات .. وحقا كما يقول الله عز وجل : " الا بذكر الله تطمئن القلوب " .

 كانت هذه رؤية للاكتئاب من المنظور الاسلامى , غير أن ثمة رؤية للاكتئاب من أكثر من منظور كمنظور التحليل النفسى , ومنظور المنهج الفنومنولوجى الوجودى والمنظور البيوكميائى . وقد تزعم هذا الاتجاه الجديد المتكامل الدكتور مصطفى زيور حيث يرى أن الاكتئاب :

 " حالة من الألم النفسى يصل فى الميلانخوليا إلى ضرب من جحيم العذاب مصحوبا بالاحساس بالذنب إحساسا شعوريا , وانخفاضا ملحوظا فى التقدير النفسى لذاتها , ونقصان فى النشاط العقلى والحركى والحشوى " .

    ويتضمن تعريف الدكتور زيور للإكتئاب عدة محاور أساسية منها على سبيل المثال :ـ

ـ آلام نفسية تؤدى إلى ادراك العالم بشكل قاتم سوداوى :

ـ عذاب الندم النفسى الذى يؤدى إلى القلق المقيم والهزال البدنى الواضح .

ـ تحقير الذات والشعور بتفاهتها والميل إلى الانطواء وتسلط النزعات الانتحارية .

ـ جمود فكرى وكف عن استخدام العقل وتبلد الوجدان .

ـ هدوء ظاهرى مؤقت كهدوء العاصفة الفجائية كمؤشر للغليان الداخلى المستمر .

ـ همود عام واحساس بالتعب لآقل مجهود يقوم به الفرد .

ـ اضطراب ملحوظ وهبوط فى الناحية الفسيولوجية لكل من الجهاز الهضمى والتنفسى .

 هذا ومن الممكن تجنب مثل هذا العذاب الأليم والهم القاتل لو أخذنا هذه الحياة الدنيا ببساطة وتفهم وتعقل وجعلناها سهلة هينة , بعيدا عن التعقيدات والمنغصات لكيلا تحبط علينا أعمالنا , وتطمس أهدافنا فى الحياة ان ركائز ودعامات الحياة والكون والتواصل الوجدانى لدى من يأخذون الحياة كما هى بدون تعقيد .. اقول ان هذه الركائز تكمن فى " حشرتين اثنتين " هما " النحلة .... والدودة " فكأن لسان حال هؤلاء الناس يقول : ميلوا عن الدنيا ولذاتها فإنها ليست بمحمودة واتبعوا الحق كما ينبغى فإنها الأنفاس معدودة فأطيب المأكول من نحلة وأفخر الملبوس من دودة بساطة وأى بساطة !! .. إيمان بالله زاخر وأى إيمان !! أهداف فى الحياة محددة مرسومة واضحة وضوح الشمس فى الأفق الشرقى .. حياة ملؤها التآلف والتعاطف والمودة وصلة الأرحام .. بشر فياض ... وسرور دائم مقيم .. فمن أى مصدر يأتى الاكتئاب ؟ انهم عنه بعيدون .. وبه لا يؤمنون .. " فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " .

 هذا ونرى أن الاكتئاب ما هو إلا " حاله اضطراب نفسى عام " وفى الولايات المتحدة الأمريكية ـ على سبيل المثال ـ يصيب الاكتئاب أكثر من عشرين شخصا من ألف شخص من السكان ومعنى ذلك أن هناك أكثر من أربعة ملايين من سكان الولايات المتحدة الامريكية يعانون من حالات الاكتئاب مرضية هذا وقد تم علاج حوالى مليون ونصف حالة فى العام الماضى فقط بلاضافة لذلك فهناك تقريبا 250 ألف حالة انتحار بسبب الاكتئاب لأفراد أصابهم هذا المرض فى الفترة السابقة على الانتحار مباشرة كما وجد أن الانتحار هو السبب الرابع للوفاة فى فترة العمر من 18 ـ 45 سنة وهى أكثر فترات حياة الانسان إنتاجا.

 ويمكن القول أن الاكتئاب اضطراب يسبق ادمان المخدرات أو المشروبات الكحولية كما يعتبر سببا من أسباب حوادث السيارات . وهناك علاقة بين تمثيل الأحماض بالأكتئاب , ومع أن هذه العلاقة لم يتم التعرف عليها تماما والتأكد من وجودها بصورة قاطعة إلا أنها اهتمام الباحثين .

ويرجع ذلك إلى أن مادة " الكاتيكول آمين " لها دخل كبير فى نقل المعلومات من خلية عصبية إلى أخرى فى بعض مناطق المخ والتى تختص بالسلوك العاطفى .

ومن علم تشريح وفسيولوجيا الأعصاب وكذلك العلوم السلوكية أمكننا الاستدلال على مناطق المخ المختصة بنقل الخبرات العاطفية والوجدانية وهذه المناطق هى :

منطقة قاعدة المخ والمعروفة باسم " الهيبوثالموس " والجهاز العصبى الذاتى . ومع التطور التكنولوجى فى علم الكيمياء الحيوية اتضح لنا أن مادة " النورادينالين " فى المخ تخص أيضا بالسلوك العاطفى والوجدانى .

     وهنا نتساءل : هل انخفاض مستوى نوع معين من الأحماض الأمينية فى المخ يؤدى إلى الاصابة بالاكتئاب ؟

ومن هذا المنطلق هذا المنطلق سارت الأبحاث وتعددت واُثبتت أن هناك مجموعة من العقاقير تبطل مفعول مادة " النوردارنالين " فى المخ فيتسم سلوك المرضى بالهدوء أو الاكتئاب وعلى العكس فقد تبين أن الأدوية التى تنشط مادة النورادرنالين تثير السلوك ولا تصيب بأى نوع من الاكتئاب .

ومن هنا فقد ثبت صحة الفرض القائل بأن مادة " الكاتيكول آمين " تؤثر على الاضطرابات العاطفية والوجدانية فنجد أن حالات الاكتئاب ترتبط بانخفاض مادة النور ادرينالين فى مناطق الاستقبال والعكس صحيح .

ومن الأمور ذات الأهمية أيضا نتيجة للأبحاث هى أثر مادة كوبونات الليثيوم فى علاج حالات الهوس والاكتئاب بالرغم من أننا لم نتوصل بعد للطريقة التى تؤثر بها .    

الاكتئـاب اضطراب قــد يؤدى إلـى ادمـان المخدرات

وفى ايامنا هذه نرى فى أمريكا كما فى كل دول العالم يجرى البحث عن العمليات الكميائية الحيوية التى تسبب أثرا سلوكيا واضحا عند استخدام أو تناول أدوية معينة .

خلاصة القول أن هناك عوامل فسيولوجية سيكولوجية كميائية يجب البحث فيها بشأن كل عامل على حدة ثم تفاعل هذه العوامل بقصد الحصول على معلومات عن مدى تأثيرها فى التركيب الكيميائى لمخ الانسان وبالتالى أثر هذا على سلوك الفرد .

    هناك دراسات تهتم أساسا بالعلاقة بين اصابة الانسان بالاكتئاب وفقده لإنسان عزيز عليه وذلك بملاحظة بعض مرضى الاكتئاب الذين يعالجون بعد حادثة فقدان هامة إما بفقد عزيز لديهم أو فقد ثروة أو جاه وفى هذه الحالة ظهر الاكتئاب كرد فعل لهذا الفقدان الفجائى .

     أن صورة المكتئب صورة شخص تبدو عليه أمارات الحزن الشديد فهو يشتهر  بجفاف فى الحلق واختناق وسرعة ضربات القلب وسرعة التنفس يتخللها زفرات وتنهدات عميقة ويصاحبه شعور بالخسارة والتدمير الذى لن يعوض وعادة ما يخلص الانسان تدريجا من هذه المظاهر خلال فترة الحداد والتى تتراوح ما بين عدة أسابيع إلى عدة أشهر وقد تطول هذه الفترة مع بعض الأشخاص لتصل إلى حالة من الاكتئاب المرضى ومن ثم يتبين لنا بوضوح أن هناك مستويات متابينة لتحمل الناس للأحزان .

    ويربط الأطباء النفسيون بين قيمة الفقد وسببه كأساس لحالة الاكتئاب مثل الفقد بالموت أو الطلاق مثلا .

وتجرى بعض الأبحاث ـ لاثبات العلاقات بين الغدد الصم والحالة العصبية تأكيدا لمفهوم قديم فحواه بأن الاكتئاب حالة من الهبوط تصيب الجسم ينتج عنها ارتفاع مستوى الهرمونات فقد لوحظ زيادة افرازات هورمون قشرة الغدة الأدرينالية " فوق الكلية " لدى مرضى الاكتئاب وكذلك زيادة افرازات هورمون الغدة الدرقية وهذا ما يجيب على سؤال الخاص باستعداد أو تحمل الشخص لحالات الحزن أو الفقدان

المصدر: دكتور عزت عبد العظيم الطويل أستاذ النفس ـ بآداب بنها جامعة الزقازيق

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,396,505