<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

لا تزالُ حملاتُ المتعصِّبين من غيرِ المسلمين متوالِيةً على الإسلامِ وأهله، ولقد وَجّهوا سهامَهم في الآونةِ الأخيرةِ إلى منهجِ الإسلام في التربية والتعليم، زاعمين بأنّ الإسلامَ بسياستِه التربويّة التعليميّة يصوغ جِيلاً يبغِض الآخرَ ويحقِد عليه ويضطهِده ويعتدِي عليه، مستغلِّين في ذلك بمكرٍ ودهاء تصرّفاتِ بعضِ المسلمين التي لا تُعَدّ شيئًا أمامَ الأصلِ العامّ والقاعدة الكلّيّة. وسبحانَ الحكيم العليم؛ كلّما ازدادت هذه الحملاتُ شراسةً ازداد بروز محاسِن الإسلام واتّضح جماله وكماله وبان عدله ورحمته.

وَإِذا أَرادَ اللّـهُ نَشـرَ فَضيـلَـةٍ طُوِيَت أَتاحَ لَها لِسـانَ حَسودِ

لَولا اِشتِعالُ النارِ فيمـا جـاوَرَت ما كانَ يُعرَفُ طيبُ عَرفِ العودِ

ومع أنّه يكفِي العقلاءَ في ردِّ هذه الفريةِ ما تواتر من شهاداتِ المنصِفين من غير المسلمين وما تقرّر من شهادةِ التاريخ على حُسن تعامُل المسلمين مع غيرهم في السّلم والحرب، وفي حال انتصارهم وحال هزيمتهم، إلاّ أنه ينبغي تجليةُ براءةِ الإسلام من الحقدِ الديني من خلالِ نصوصه الشرعية وأقوال أئمته وعلمائه المعتبَرين.

2- تلبيس مكشوف:

لقد اعترى مصطلحَ التعصُّب والتسامُح الدينيّ خلطٌ كبير وتدليسٌ وتلبيس؛ عن قصدٍ لدى المتعصّبين الحاقدين، وعن غير قصدٍ لدى الجاهلين المقلّدين. والغرضُ من هذا الخلط والتلبيس والتدليس هو سَلخ المسلمين عن دينهم باسمِ التسامُح وقَبول الآخر.

ألا فليُعلَم أنه ليس مِنَ الحِقد الدينيّ أن لا يتنازلَ الشخصُ عن قناعاته الدينيّة، كما أنه ليس من التسامُح الديني أن يفرِض قناعاتِه على غيره بقوّةِ الحديد والنار. فهنا أمران اثنان:

الأمر الأوّل: قناعاتُ الإنسان التي يؤمِن بها.

والأمر الثاني: تعامُل الإنسان مع من يخالفه في قناعاته التي يعتقدها.

وقاعدةُ الإسلام في هذين الأمرين أن يتمسّكَ المسلمُ بدينه ويعتزَّ به ويعتقدَ أنّه الدين الحقّ وأنّ غيره من الأديان باطل، وأن يرحمَ الغيرَ ويحسِنَ إليهم ويعدِل معهم ويعملَ على نجاتهم لوجه الله تعالى. فلا اضطهادَ للغير باسم التمسّك بالحقّ، ولا تنازلَ عن الحقّ باسم قَبول الغير.

قال الله تعالى:  وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ  [العنكبوت:46]. فانظر كيف جمعت هذه الآية الكريمة بين أمرِ المسلمين بالتمسّكِ بالحقّ وهو توحيدُ الله تعالى والإسلامُ له وبالدعوةِ إلى ذلك وبين حُسن معاملة أهل الكتاب. ومِن بلاغةِ هذه الآية وجمالها أنه لم يأمر تعالى بالجدال بالتي هي أحسن فلم يقل: وجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وإنما نهى عن كلّ جدالٍ إلا الجدال بالتي هي أحسن، وهذا أبلغ في الأمر بمراعاة الأدب في النقاش والحوار والمناظرة، مما يدلّ على براءة الإسلام من التعصّب والحقد الدينيّ، وأنه ليس عنده إلا مقارعةُ الحجّة بالحجّة.

3- إن الدينَ عند الله الإسلام:

دندَن بعضُ المتعصِّبين والحاقدين على الإسلام وأهلِه حولَ قول الله تعالى:  إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ  [آل عمران:19]، زاعمين أنّ هذه الآيةَ الكريمة تربِّي المسلمين على التعصُّب الدينيّ وكُره الآخَر، وهذا كلّه تشويه مكشوف واتِّهام مفضوح وبُعدٌ سحيق عن الموضوعية العلمية والتجرّد في النقد الذي يتغنّى به أمثال هؤلاء الحاقدين.

فليس في الآيةِ تعرّضٌ لموقفِ المسلم من غيرِ المسلمين وطريقةِ التعامُل معهم، وإنما فيها تقريرُ عقيدة المسلم التي يعتقِدها ولا يرى الحقَّ إلا فيها، وهي أنّ الدينَ الحقَّ هو الإسلام، وأنّ هذا الإسلام هو دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وليس عيبًا ولا منقصةً أن يتمسّكَ الإنسان بما يراه حقًّا ويعتزَّ به ويتمدّح بالانتماء إليه ويقيم البراهين على أن لا حقَّ ولا نجاةَ إلا به، فمثلُ هذا الصنيع لا ينكره أحد، فكلّ صاحب مبدأ يعتزّ بمبدئه ويفتخر به ويقيم الأدلّة عليه ويدافع عنه، وهل أرسِلَت الرسل وأنزلت الكتب إلا لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل؟! فليس من الحقِّ ولا مِن العَقل أن يطالَبَ الإنسان باسمِ التسامُح ومحاربة التعصّب والحِقد الدينيّ أن يتنازلَ عن قناعاتِه التي يَرَاها حقًّا بل ويرَى نجاتَه فيها، وأن يعتقدَ أنّ الحقَّ الذي معه باطل، وأنّ الباطل الذي مع غيره حقّ؛ ولذا جاءت قاعدة الإسلام الخالدة تقرِّر ذلك بنصّ واضحٍ جليّ:  لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .

ومن تأمّل الآيةَ الكريمة بتجرُّدٍ وموضوعيّة أدرك أنها الحقّ الذي ليس وراءه إلا الباطل، وذلك أنّ الرسلَ والأنبياءَ كلَّهم لإلهٍ واحد، وهذه المقدّمة صحيحةٌ عند جميع أهل الأديان السماوية، وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحيل أن يكونَ أصلُ دينهم مختلِفًا متباينًا، ولزمَ أن يكون دينهم متّفقًا في الأصل وهو توحيد الله تعالى والإسلامُ له وإن اختلفت الشرائع، ومن هنا يُعلَم صِدقُ قول الله تعالى:  إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ .

قال ابن تيمية: "ولفظ الإسلام يتضمّن الاستسلام والانقياد، ويتضمّن الإخلاص، مأخوذ من قوله تعالى:  ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَـٰكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ  [الزمر:29]، فلا بدّ في الإسلام من الاستسلام لله وحدَه، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا: لا إله إلا الله، فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك... ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته"[1].

وقال: "وأما الإخلاص فهو حقيقةُ الإسلام؛ إذِ الإسلام هو الاستسلام لله لا لغيره... فمن لم يستسلِم له فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره فقد أشرك، وكلٌّ من الكبر والشرك ضدُّ الإسلام، والإسلام ضدُّ الشرك والكبر، وذلك في القرآن كثير؛ ولهذا كان الإسلام شهادةَ أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة عبادةَ الله وحدَه وتركَ عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحدٍ من الأوّلين والآخرين دينًا سواه"[2].

قال الله تعالى:  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ  [آل عمران:85]، وقال تعالى:  مَا كَانَ إِبْرٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ  [آل عمران:67]، وقال:  وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَـٰهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ  إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ  وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرٰهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـٰبَنِىَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ  أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ  [البقرة:130-133]، في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

قال ابن تيمية: "وهذا الإسلام هو دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم، كما وصف الله به في كتابه نوحًا وإبراهيم وموسى ويوسفَ وسليمان وغيرهم من النبيين"[3].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوةٌ لعلاّت؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد))[4].

قال ابن القيم: "شبّه دين الأنبياء الذي اتّفقوا عليه من التوحيد وهو عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه بالأب الواحد لاشتراك جميعهم فيه، وهو الدين الذي شرعه الله لأنبيائه كلهم... وهذا هو دين الإسلام الذي أخبر الله أنه دين أنبيائه ورسله من أولهم نوحٍ إلى خاتمهم محمّد، فهو بمنزلة الأب الواحد، وأما شرائع الأعمال والمأمورات فقد تختلف، فهي بمنزلة الأمّهات الشتَّى التي كان لِقاح تلك الأمهات من أبٍ واحد، كما أن مادّةَ تلك الشرائع المختلفة من دينٍ واحد متّفَق عليه"[5].

وقال ابن تيمية: "فدينهم واحدٌ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يُعبَد في كلِّ وقتٍ بما أمَر به في ذلك الوقت، وذلك هو دينُ الإسلام في ذلك الوقت"[6].

4- قضيّة الولاء والبراء والحبّ والبغض:

إن أوّلَ غريزة في الإنسان هي حبُّه لذاته، وجديرةٌ هذه بأن تكونَ الأولى لأنّ بها حفظَ دينه وبقاءَ حياته، وهو بهذه الغريزةِ يحبّ من أحسن إليه ويبغض من أساء إليه بالجِبِلّة والخِلقة.

والمسلمون كأناسي لا يخرجون عن هذا القانون، فهم يحبّون من أحسنَ إليهم بل ومن يتوهّمون فيه الإحسان، ولا يبغضون إلا من يسيء إليهم وتدوم إساءته[7].

فليس من الإنصاف أن تُلزِمَ الإنسانَ بحبِّ من يبغِضه ويؤذيه ويضرّه ويعاديه، بل أقلُّ درجات العدل أن تبغِض من يبغضك وتعاديَ من يعاديك، وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله:  هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ  [آل عمران:119، 120]، وفي قوله سبحانه:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ  إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ  [الممتحنة:1، 2]، وقول الله تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ  وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ  [التوبة:57-59]، وقول الله تعالى:  إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ  [الممتحنة:9].

والمسلمون أيضًا بمقتضى الشّرع الذي يدِينون به يحبّون الحقَّ وأهلَه ويكرَهون الباطلَ وأهلَه. وهذا الحبّ الشرعيّ والبغض الشرعيّ ليس للذوات والأشخاص، وإنما لما يحملونه من خير وشرّ، ألا ترى أنّ ألدَّ الأعداء للإسلام والمسلمين ينقلِب أخًا محبوبًا إذا ترك ما كان عليه من الباطل والتزمَ الدينَ الحقّ؟!

إنّ المتعصّبين والحاقدين يسعونَ لتشويه مبدأ البراء والبغض للباطل وأهله، وذلك بتفسيرهم هذا المبدأَ بكلّ تصرّفٍ غير شرعيٍّ يصدر من بعضِ المسلمين، موهمين أنّ البراءَ من أهل الباطل هو اضطهادُهم والاعتداء عليهم وتخويفهم وترويعهم، وأن هذا هو مفهوم البراء في الإسلام، وما هذا في الحقيقة إلا توظيفٌ ماكر للتطبيقاتِ الخاطئة للإسلام من بعض أفراده، ومكمَن الخلل في هذا التفسير هو عدم الرجوع إلى الأصل الذي هو النصوص الشرعية التي هي العمدة في تقرير نظام الإسلام، وكذا عدم الرجوع إلى التطبيقات الشرعية النيِّرة التي سجّلها التاريخ بمداد من ذهب وسطّرها المنصفون من غير المسلمين، وما أكثرها منذ قيام دولة الإسلام إلى عصرنا الحاضر.

أما النصوص الشرعية فيقول الله تعالى:  لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ  [الممتحنة:8].

قال القرافي شارحًا معنى البر والقسط المأمور بهما: "الرفق بضعيفهم، وسدّ خلّة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذِّلّة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالَتِه لُطفًا منّا بهم لا خوفًا ولا تطيُّعًا، والدعاء لهم بالهداية وأن يُجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرّض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يُعانوا على رفع الظلم عنهم وإيصالهم إلى جميع حقوقهم"[8]. وقال الله تعالى:  وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  [المائدة:2]، وقال عز وجل:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  [المائدة:8]، وقال تعالى:  وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا  [الإنسان:8]، وقال تعالى:  الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ  [المائدة:5]، فأباح الله تعالى للمسلم الزواجَ من الكتابية المحصنَة، ولا يخفى ما يحصل بين الزوجين من المودّة والرحمةِ والألفة، وهذا لا يناقِضُ البُغضَ الشرعيّ لما تعتقده هذه الكتابية من المعتقدات الباطلة المحرَّفَة.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلّفه فوقَ طاقته أو أخَذ منه شيئا بغير طيبِ نفس فأنا حجيجه يوم القيامة))[9]، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: وهي راغبة أفأصِل أمي؟ قال: ((نعم صِلِي أمَّك))[10]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما))[11].

وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة أن امنَع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكلِ أموالهم إلا بحلِّها.

والنماذج من حسن معاملة النبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده لأهل الكتاب كثيرة وكثيرة جدا، وهذا ما جرّ العالم الفرنسي غوستاف لوبون إلى القول: "رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفا أن مسامحةَ محمّد لليهود والنصارى كانت عظيمةً إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسّسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب... قال روبرستن في كتابه (تاريخ شارلكن): إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروحِ التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسّك بتعاليمهم الدينية"[12].

ومن أقوال فقهاء الإسلام في ذلك ما جاء في مطالب أولي النهى من تقرير حماية أهل الذمة من العدوان الخارجي وهذا نصه: "يجب على الإمام حِفظ أهل الذمة ومنعُ من يؤذيهم وفكُّ أسرهم ودفعُ من قصدهم بأذى"[13]، وقال ابن حزم: "إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صونًا لمن هو في ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمَه دون ذلك إهمالٌ لعقد الذمة"، وحكى في ذلك إجماع الأمة[14]. فأيّ دين غير الإسلام يأمر أتباعَه بأن يفتَدوا أهلَ ذمّتهم بأرواحهم؟!

وقال القرافي: "فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فقد ضيّع ذمةَ الله وذمةَ رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام"[15].

وأما التطبيقات التي خلّدها التاريخ والتي تشهد بروح التسامح لدى المسلمين مع أتباع الأديان الأخرى فكثيرة جدا، نكتفي بإيراد قول سيرت. و. أرنولد حيث قال: "ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة واستمر في الأجيال المتعاقبة نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"[16].

ويقول أيضا: "ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكفُّ عن ظلمنا وأحسن ولايةً علينا"[17].

5- خاتمة:

الحديث في هذا الموضوع في الحقيقة ذو تشعّباتٍ وفروع متعدّدة، والأدلة والشواهد من النصوص الشرعية والتطبيقات لها عبر التاريخ الإسلامي على براءةِ الإسلام من الحقد الديني كثيرة وكثيرة جدًّا، وكذا اعترافاتُ المنصفين من غير المسلمين الذين أمعنوا النظرَ في تاريخ الإسلام والمسلمين وتجرّدوا للحقّ وأدلَوا بشهاداتهم الصادقة للتاريخ، لا يرجون حفاوةً من المسلمين ولا مالاً، ولا يخافون منهم اضطهادًا ولا إذلالاً.

وفي مقابل ذلك لو استعرضَ المنصفُ المتجرّد اضطهادَ غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم لأتباع الأديان الأخرى تحت أيّ مبرّر من المبرّرات لرأى العجبَ العجاب من الوقائع التي اسودّت بها صفحاتُ التاريخ والتي ما يزال المسلمون يصطلون بنارها، وما فلسطين والعراق ولبنان عنا ببعيد.

حقًّا لا يصدق على هؤلاء المتعصّبين الحاقدين إلا المثل العربي المشهور: رمتني بدائها وانسلّت.

ويا عجبًا من زمنٍ ينقلِب فيه الضعيفُ الأعزل المعتدَى عليه مجرِمًا يشكّل خطرًا على الإنسانية، بينما المعتدِي المتفنِّن في أساليبِ القتلِ والدّمار يعتبرُ حاميًا للحرية والإنسانية!! وعزاؤنا أنّ الله سبحانه يعلم المفسد من المصلح.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

-----------------

[1] اقتضاء الصراط المستقيم (ص454).

[2] التحفة العراقية (ص41).

[3] رسالة في التوبة (ص234).

[4] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3443)، ومسلم في الفضائل (2365).

[5] بدائع الفوائد (3/719-720).

[6] اقتضاء الصراط المستقيم (ص455).

[7] آثار الإمام عبد الحميد بن باديس (5/43).

[8] الفروق (3/15).

[9] رواه أبو داود في الخراج (3052)، وهو في السلسلة الصحيحة (445).

[10] رواه البخاري في الهبة (2620)، ومسلم في الزكاة (1003).

[11] رواه البخاري في الجزية (3166).

[12] حاشية من ص128 من كتاب حضارة العرب. ترجمة عادل.

[13] مطالب أولي النهى (2/602-603).

[14] مراتب الإجماع.

[15] الفروق (3/14).

[16] الدعوة إلى الله (ص51) ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوي، وانظر: شبهات حول الإسلام (ص195).

[17] المراجع السابقة (ص53).

=========================

akramalsayed

مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 155 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2011 بواسطة akramalsayed

ساحة النقاش

اكرم السيد بخيت (الطهطاوي)

akramalsayed
ثقافي اجتماعي ديني »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

912,469