<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

الفاصل بين العلمانيين والعصرانيين إن وجد رقيق جدًا فهو فاصل درجي، وكأنهما وجهان لعملةُ واحدة، واسمان لمسمى واحد، ومصطلحان لمعنى واحد.

من أهم الشعارات والدعاوى التي رفعها العصرانيون- الأموات والأحياء منهم – والتي كادت تلغي الفاصل بينهم وبين إخوانهم العلمانيين شعارات (الثابت والمتغير في الإسلام) أو (المصلحة مقدمة على النص) أو (فقه المرحلة) وما إلى ذلك. فتلاعبهم بالألفاظ كتلاعبهم بالدين أو أشد، وقد استفاد العصرانيون مما واجهه العلمانيون من استنكار فراحوا يغيرون ويبدلون في المسميات، ويتلاعبون بالألفاظ، والمصطلحات ويبحثون عن الشبه والهفوات والزلات، ليلبسوا العلمانية ثوبًا إسلاميًا مزوراً، ويضفوا عليها صفة الشرعية، ويتمكنوا من التمويه على العوام والتلبيس على أهل الإسلام ولو إلى حين، وإلا فقل لي بربك- أيها القارئ الكريم، والمسلم الأمين- ما الفرق بين قول العصراني: (إن الثابت في الإسلام هو العبادات فقط، وهي التي يلتزم فيها بالنصوص القرآنية والحديثية، أما فيما سوى ذلك فالمجال مفتوح لتغيير النصوص وحسب ورد بعضها، حسب معطيات العصر، ومقتضيات المصلحة في كل زمان ومكان). وبين ما يدعو إليه العلمانيون من فصل الدين عن الحياة وحصره في دائرة العبادات، فمال الدين والحياة، ويتعجبون من الذين يريدون أن يحشروا أنف الدين في كل شئ: في الحكم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وآداب الأكل والشرب واللباس، والزواج، ونحو ذلك.

لا فرق إلا المكر، والخداع، والمراوغة، التي ينتهجها العصرانيون في العرض، وما مثلهما إلا كمثل لصين أتى أحدهما أهل بيت طيبين غافلين نائمين فنقب دارهم من الخلف وأخذ ما أخذ من متاعهم ولم يشعروا به إلا ساعة الخروج والهرب، أما الثاني فجاء في صورة زائر محتال، فسرق أشياء خفيفة المحمل، غالية الثمن، ولم يشعر به أحد إلا بعد أن اختفى من الأنظار.

ومما يؤسف له أن جل رموز العصرانية (1) اليوم كانوا من أعضاء الحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون) وغيرهم، بل إن بعضهم كان في المقدمة ولا يزال البعض منهم يتولى قيادتها (2).

وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي في حدوث ذلك هو التسيب الفكري، والعقدي، وعدم وضوح المنهج، وتحديد الهوية، لدى هذه الحركات. فالمنهج القويم السليم- لا نقول يعصم عن الوقوع في الانحراف والابتداع إذ لا عاصم إلا الله، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء- ولكنه يقلل من حدوث ذلك.

يقول الدكتور النويهي في مقالة بعنوان: «نحو ثورة الفكر الديني» (3): (إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي، والعلاقات الاجتماعية بين الناس، والتي يحتويها القرآن والسنة، لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا خطوة مؤقتة احتاج لها المسلمون الأوائل. وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه).

وبقول د. معروف الدواليبي في مقال بعنوان «النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان»: (إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع  نفسه، فهل يصح في الاجتهاد تغيير لما لم ينسخه الشارع من الأحكام وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟

1- إن جميع الشرائع قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ النسخ لما في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان. غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغيير حكم من الأحكام ما دام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة ولم ينسخ من قبل من له سلطة الاشتراع.

2- ولقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من  قديمة وحديثة بالتمييز ما بين المبدأين أولاً وبالأخذ بهما ثانياً.

فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضاً، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درساّ بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) (4).

وهذه الدعوة – الثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية – تعرض تحت شعارات مختلفة، مثل شعار المصلحة، أو أن المصلحة مقدمة على النص، أو تحت شعار فقه المرحلة كما هو الحال عندنا في السودان وهكذا.

والذي ندين به ويدين به كل مسلم أن المصلحة كل المصلحة هي في الالتزام بالنصوص القرآنية والحديثية، وأنه لا اجتهاد مع نص، حتى قال الأئمة الأعلام: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» و«إذا خالف قولي الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط» و«كل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول ×».

وكل أمر ورد فيه نص قرآني أو سنة صحيحة صريحة فهو ثابت لا يتغير ولا يتبدل سواء كان في العبادات أو المعاملات أو الأمور المعايشة فلا فرق، ومن الذي يستطيع أن يفرق بين شرع الله فيقبل بعضه ويرد البعض الآخر؟

أما المسائل التي ليس فيها نص صحيح صريح فللعلماء أن يجتهدوا فيها، وللعامة أن يقلدوا أقربهم في رأيهم إلى السنة، وهذه هي المسائل التي يمكن أن يتغير الاجتهاد فيها حسب الظروف الزمانية والمكانية.

وقد نهى الأئمة الأعلام أن يقلد المرء دينه الرجال، فقد روي عن إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله قوله: «لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، ولكن خذ من حيث أخذوا».

أما النصوص الصحيحة الصريحة فالمصلحة في الالتزام والتمسك بها كما تمسك بها أسلافنا الصالحون، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

ثم من الذي يحدد هذه المصلحة؟ فالمصلحة أمر تقديري، وما تراه أنت مصلحة قد يراه غيرك عين المفسدة، وليس هناك أضر على الإسلام من التحسين والتقبيح العقليين، ورحم الله الخليفة الراشد الملهم عمر حين قال: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهرة». وما فسدت أحوال المسلمين وانحطت مكانتهم إلا عندما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، استبدلوا الآراء والأفكار بالتمسك بالقرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة.

شبه القائلين بتقسيم الدين إلى ثابت ومتغير ودحضها :

يتشبث هؤلاء الأدعياء في دعواهم الكاذبة هذه بشبه باطلة، يرمون من ورائها إلى ترسم خطى أسيادهم من المستشرقين الماكرين أعداء الملة والدِّين:

يقول الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه القيم «الإسلام والحضارة الغربية » (5) في الفصل السادس منه تحت عنوان «التغريب في دراسات المستشرقين» موضحًا لخطورة البحث الذي كتبه المستشرق ولفرد سميث بعنوان «مجلة الأزهر: عرض ونقد» ومنبهًا لأمرين مهمين: (أن الخطط التي يقترحها المؤلف على المسلمين موجهة إلى محو ما استقر في نفوسهم، من أن للإسلام طبعًا ثابتاُ صلباً، وقيمًا محدودة مرسومة، يجتمع عليها المسلمون من ناحية، ويتميزون بها عن غيرهم من ناحية أخرى. فالخطط المقترحة في الكتاب موجهة نحو تطوير المسلمين عن طريق تطوير الإسلام نفسه، وإفقاده طابعه المحدد الثابت الذي يحول دون تحقيق التفاهم المنشود، الذي يرسي دعائم الاستعمار ويثبت أقدامه).

وعلق الأستاذ محمد محمد حسين كذلك على البحث الذي قدمه الدكتور مصطفي الزرقا – في مؤتمر عقد بجامعة برنستون بأميركا 1953 والذي اشترك فيه عدد من القسس المبشرين الأمريكان كما قدمت الدعوة إلى شخصيات معينة في العالم الإسلامي- معلقًا على ما في بحثه من روح انهزامية أمام هؤلاء القسس المبشرين تتضح في تسويغ الأساليب العصرية السائدة التي تخالف الإسلام مخالفة صريحة وانتحال الأعذار لها مثل قوله (6) : (فالصفة الدينية في الفقه الإسلامي لا تنافي أنه مؤسس على قواعد مدنية (7) بحتة، منتجة لفقه متطور كفيل بوفاء الحاجات العصرية وحل المشكلات النابتة في الطريق ص157).

يعلق أستاذ حسين فيقول: (وما يسميه هو بالحاجات العصرية نابع في أكثر الأحيان من تقليد نظم حضارية غربية عن الإسلام ومخالفة لأصوله، وليس مطلوبًا من المسلمين أن يكونوا على صورة غيرهم، يتبعون سننهم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلوا فيه، بل إن مخالفة المسلمين لغير المسلمين هي شئ مقصود لذاته، صونًا للشخصية الإسلامية، وتمييزًا لها عن غيرها، ومن أجل ذلك كان المسلمون منهيين عن تقليد غير المسلمين في زيهم وعاداتهم.

وهذا المنهج الفاسد الذي التزمه الزرقا بنية تزيين الشريعة الإسلامية عند أعدائها، وعند من يجهلونها قد أوقعه في أخطاء فاحشة فهو عند كلامه عن عقوبة الزنى بالجلد- وقد أهمل (8) الرجم وتجاهله- وعقوبة السارق بقطع اليد، وبقية الحدود الأربعة يقول: (فإذا لوحظ أن تطبيق بعض عقوبات الحدود الأربعة أصبح متعذراً (9) في زمان أو مكان، فمن الممكن تطبيق عقوبة أخرى ولا يوجب هذا ترك الشريعة أجمع ص158) !!

يقول الأستاذ حسين معلقاً: (فمن الواضح أن كلامه هذا تسويغ لإسقاط الحدود الإسلامية، سعيًا لإرضاء النظم المعاصرة، غير الإسلامية، التي تعتبرها ضربًا من القسوة والوحشية، وهو يفعل مثل ذلك في كلامه عن المعاملات التجارية العصرية التي تقوم كلها على أساس الربا، فيقول: (إن هذه المشكلة يمكن حلها في مبادئ الشريعة الإسلامية بطرق عديدة ص159) ويذكر فيما يذكره من الحلول: (الرجوع إلى تحديد الحالة الربوية التي كان عليها العرب وجاءت الشريعة بمنعها، إذ كان المرابون يتحكمون (10) كما يشاؤون بالفقير المحتاج للقرض الاستهلاكي الاستثماري ص 159). ويذكر فيما يذكره كذلك من مسوغات وحلول: (تأميم المصارف لحساب الدولة، فينتفي عندئذ معنى الربا من الفائدة الجزئية التي تؤخذ عن القرض، إذ تعود عندئذ إلى خزينة الدولة لمصلحة المجموع ص159).

عذرًا للإطالة، وإنما كان غرضي بيان أن السبب الحقيقي لرفع مثل هذه الشعارات ليس دليلاً نقليًا ولا عقلياً، وإنما هو تقليد الكفار وتنفيذ مخططاتهم، فما العصرانيون إلا ممثلون يقومون بأدوار مرسومة لا يستطيعون التخلي عنها منهم من يحسن التمثيل، ومنهم من لا يحسنه، وما رفعهم لهذه الشبه إلا من باب التدليس وذر الرماد على العيون.

نعود إلى تلك الشبه الممجوجة المكررة التي يتشبث بها هؤلاء، فنقول:

الشبهة الأولى : التشبث بقوله صلى الله عليه وسلم :«لا ضرر ولا ضرار» (11) :

نعم، لا ضرر ولا ضرار، ولكن هل هناك ضرر وضرار أكبر من رد النصوص الصحيحة الصريحة؟ وهل هناك أرحم من رب العالمين الذي شرع ذلك وأمر بالتزامه؟ وأي ضرر في الالتزام بمنهج الله الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (واختلفوا هل بين اللفظين أعني الضرر والضرار فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهور أن بينهما فرقاً. ثم قيل إن الضرر هو الاسم، والضرار: الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتفٍ في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك.

وقيل الضرر أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضرارًا بما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع، ورجح هذا القول طائفة منهم ابن عبد البر وابن الصلاح.

وقيل الضرر: أن يضر بمن لا يضره، والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز.

وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى الضرر والضرار بغير حق.

فأما إدخال الضرر على أحد بحق. إما لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهو غير مراد قطعاً، وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق وهذا على نوعين:

أحدهما: ألا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه...

والنوع الثاني: أن يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرًا له، فيتضرر الممنوع بذلك) (12) .

هذا هو مراد الحديث كما بينه هذا العالم الرباني رحمه الله، أما استدلالهم به على عدم إقامة حد الرجم على الزاني المحصن، أو حد القطع على السارق بعد إقامة البينة، واستيفاء الشروط، فهذا هو عين الضرر على الفرد نفسه وعلى المجتمع بأسره، فما هذه الرحمة التي فاقت رحمة رب العالمين ولكنها على العصاة والزناة والمجرمين؟ تبًا لهم وتبًا لمقالتهم هذه، وخاب فألهم وفأل أسيادهم من أعداء الملة والدين.

ألم أقل لكم إن القوم ناكثون للعهد، جاهلون بالشرع، ليس عندهم مسحة من فقه؟

الشبهة الثانية : التشبث بالقاعدة الأصولية: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان » (13):

هذه القاعدة كذلك لا تدل أدنى دلالة على ما ذهبوا إليه من التلاعب بالنصوص الشرعية، إذ لا اجتهاد مع النص، إنما تتناول هذه القاعدة المسائل الاجتهادية والفرعية التي ليس فيها نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع فهذه هي التي لا ينكر تغير الاجتهاد فيها حسب الظروف والملابسات والمستجدات.

فما لهؤلاء والقواعد الأصولية البالية؟! هل هناك خيار وفقوس، فما كان موافقًا للهوى من كلام الأصوليين قُبل وتلقف وما لم يوافق الهوى ويسبب الحرج مع الكفار رُد؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟

{ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (14) .

نعم، القلوب مريضة ومرتابة، نسأل الله لنا ولهم الهداية والرشاد.

تشبثهم باجتهادات عمر رضي الله عنه:

ما لهؤلاء القوم واجتهادات عمر؟ وما لهم ولعمر ولمنهج عمر؟ إنهم مخالفون له مخالفة كاملة، إنهم يريدون أن يبنوا منهجهم على أنقاض ما بناه عمر وغيره من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وحاشا عمر أن يسن سنة يقتدي بها مبتدع.

1- يقولون أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة، ويعتقدون أنه عطل هذا المصرف لمصلحة رآها بعد تغير الظروف. وليس الأمر كما زعموا، ولكن الإسلام في عهد عمر عز بأهله ولم يعد بحاجة إلى من يتألفهم. وعمر رضي الله عنه لم يعطل نصًا فالنص باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يستطيع عمر ولا غير عمر أن يفعل ذلك أو يتجزأ عليه إلا شقيًا تعيسًا، ولكن لعدم وجود هذا الصنف من مستحقي الزكاة صرف عمر الزكاة في المصارف الأخرى، حيث يجوز صرف الزكاة في مصرف واحد أو مصرفين أو أكثر.

2- يقولون: لم ينفذ عمر حد السرقة عام الرمادة... وفي تغيير لحكم السارق الثابت بنص القرآن بعد تغير الظروف. هذا ما يدعونه بل هو ما يتمنونه، فهم لا يقولون على تنفيذ الحدود الشرعية خوفًا من حماة الحقوق الإنسانية.

فهل عطل عمر حقًا حد السرقة عام الرمادة لتغير الظروف؟ لا، فحد السرقة لا ينفذ إلا إذا توفرت شروط تنفيذه وانتفت موانعه، ومن شروط القطع في السرقة ألا يسرق السارق ما يسد به رمقه، وقد روي أن عمر رضي الله عنه لم يقطع غلمان (حاطب بن أبي بلتعة) رضي الله عنه لأنهم كانوا في حالة خصاصة، وهذا لا يعني أنه عطل الحد ولكن لم تتوفر الشروط، ومن المعلوم أن الحدود تُدرأ بالشبهات.

وكيف يظن بعمر- ذلك العبقري الملهم المحدث- أن يفعل ذلك؟ إن هذا لا يليق إلا بمتخلف عن متابعة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل يعقل أن يعطل عمر حدًا من حدود الله، وهو الذي أقام الحد على أخي زوجه وخال أبنائه قدامة بن مظعون رضي الله عنه وقد شرب الخمر متأولا أنها حلال عليه وهو مريض خشية أن يقبض عمر قبل تنفيذ الحد عليه؟

إن استدلالات هؤلاء مصدرها عقولهم الباطنة، فهم يستدلون بما يتمنونه ليس إلا.

 تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان :

 

تشبثهم بما قاله العالم الرباني ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين (15) عن تغير الفتوى واختلافها بتغير الزمان والمكان والعادات والنيات.

وما قاله ابن القيم رحمه الله وبينه بالأمثلة، ليس فيه هو الآخر دليل على ما ذهبوا إليه في وادٍ آخر.

قال في (فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات: بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد):

(هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهو قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح،  فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا، وطي العالم رفع إليه من بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وخطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل- بـحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة).

وسنأتي ببعض الأمثلة التي جاء بها ابن القيم للتدليل على ما قال ليتبين لك أيها القارئ اللبيب الفَطن أنه لا علاقة البتة بين ما رمى إليه ابن القيم رحمه الله وبين ما يهدف إليه هؤلاء من تطوير الدين وتطويعه حتى يُجاري العصر ويوافق ما توصلت إليه الحضارة الغربية... وحاشا ابن القيم أن يكون منطلقه وغرضه ومنهجه موافقًا لمنهج العصرانيين الذي رسمه لهم المستشرقون ومن لف لفهم من المشبوهين ومرضى القلوب.

المثال الأول : ترك إنكار المنكر مخافة حدوث ما هو أنكر، وقد اعتمد ابن القيم رحمه الله على قواعد فقهية وهي ارتكاب أخف الضررين، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكل هذه أصول مستقاة من أدلة شرعية، وليس في كلام ابن القيم إذن أدنى تلميح لتعطيل النصوص وردها، وهو لم يأت بشئ مخالف لما كان عليه السلف الصالح، وإنما هو سائر على منهاجهم ملتزم بما كان عليه الصحابة والتابعون، وهذا هو الظن به وبأمثاله من العلماء الربانيين، فما للعصرانيين ولابن  القيم ولمنهجه القويم؟

قال رحمه الله تحت عنوان: «الإنكار له شروط»: (المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله. فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا الإنكار على الملوك والولاة بالخروج (16) عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة» وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعته». ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل (17) وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَم على تغيير البيت ورَده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم، من عدم احتمال قريش لذلك لقُرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.

أربع درجات للإنكار:

فإنكار المنكر أربع درجات، الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يَزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.

فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك. وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو  ولعب أو سماع مكاء (18) وتصدية (19) ، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع (20) والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم) (21).

المثال الثاني : النهي عن قطع الأيدي في الغزو، وهو من باب الخاص والعام.

فالأمر بقطع يد السارق مشروط بشروط، وهو أمر عام استثنيت منه حالات خاصة، نهي فيها عن القطع أو أمر بتأخيره، قال ابن القيم: (المثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تقطع الأيدي في الغزو» رواه أبو داود. فهذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى (22) عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من  علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكر أبو القاسم الخرقي في مختصره ، فقال : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو، وقد أتى بشر بن أرطأة برجل من الغزاة قد سرق مجنَّة (23) فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول «لا تقطع الأيدي في الغزو» لقطعت يدك، رواه أبو داود، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة.

روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس ألا يجلدنَّ أمير جيش ولا سرية، ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء مثل ذلك.

وقال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عقبة- رضي الله عنه – فشرب الخمر. فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم (24) ؟!

وأُتي سعد بن أبي وقاص بأبي محجَن يوم القادسية وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجَن:

كفى حزنًا أن تطرد الخيل بالقنا                    وأتركُ مشدودًا علـي وثاقــيا

 فقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولك- والله عليَّ- إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحتم مني. قال: فحلته حتى التقى الناس، وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال وصعدوا به فوق العُذَيْب (25) ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فوثب أبو محجَن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحًا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، جعل الناس يقولون: الصبر صبر البلقاء، والظفر ظفر أبي محجَن، وأبو محجَن في القيد، فلما هزم العدو. رجع أبو محجَن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنه حفصة سعدًا بما كان من أمره. فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاه، فخلى سبيله، فقال أبو محجَن: قد كنت أشربها إذ يُقام عليَّ الحدُّ وأطهر منها، فأما إذ بَهْرَجْتَنى والله، لا أشربها أبداً، وقوله: «إذا بَهْرَجْتَنى» أهدرتني بإسقاط الحد عني، ومنه «بهرج الدمَ ابنُ الحارث» أي أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصًا ولا قياسًا، ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصواب.

قال الشيخ في المغني: وهذا اتفاق لم يظهر خلافه.

قلت: أكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة (26) راجحة. إما لحاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يُؤخر (27) عن الحامل والمرضع عن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود. فتأخير لمصلحة الإسلام أولى.

فإن قيل: فما تصنعون بقول سعد: «والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهما» فأسقط عنه الحد؟ قيل: قد يتمسك بهذا من يقول: «لا حد على مسلم في دار الحرب» كما يقوله أبو حنيفة. ولا حجة فيه، والظاهر أن سعدًا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى، فإنه لما رأى من تأثير أبي محجَن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأَ عنه الحد، لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقطرة نجسة وقعت في بَحر، ولاسيما قد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال) (28).

قلت : لعل سعدًا فهم من الحديث أن الحد يسقط في دار الحرب وليس يؤجل ويؤخر إلى حين رجوع الجيش، وربما كان هذا اجتهادًا من سعد، وقول الصحابي إذا خالف غيره ليس حجة، والمهم أن الحد إذا وصل إلى الحاكم فلا مجال لإسقاطه أبدًا، أما قبل ذلك فهو غير مسؤول عما لم يحط به علمًا. ولذلك عندما أراد صفوان بن أمية أن يعفو عن سارق ردائه بعد أن وصل أمره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد قطع يده فقال: «قد وهبته له» لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال ما معناه: هلا كان هذا العفو قبل ذلك؟ أما الآن فلا.

وكذلك عندما جاء أسامة بن زيد يشفع للمرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده بعد أن وصل أمرها إليه قال له: «أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أو كما قال.

أما قياس ابن القيم رحمه الله ما قاله سعد بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد عندما قتل النفر من بني خزيمة عام الفتح «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ولم يبرأ من خالد (29)- فهو قياس مع الفارق، لأن خالدًا رضي الله عنه كان متأولاً وظانًا أنهم كفار لأنهم قالوا «صبأنا» ولم يعرفوا أن يقولوا «أسلمنا» فظن أنهم على الشرك، أما أبو محجَن فلم يكن متأولاً.

وكذلك التوبة لا تسقط الحد، ولو كانت التوبة تسقط الحد لأسقطه صلى الله عليه وسلم عن تلك الصحابية التي اعترفت بزناها دون أن يراها أو يعلم بها أحد، فأقام عليها الحد وقد قال عنها: لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لو سعتهم.

فالتوبة النصوح تفيد في الآخرة ولكنها لا تسقط حدًا أبدًا، وقد قلت هذا ردًا على ما قاله ابن القيم رحمه الله في هذا الموضوع من أن التائب يمكن أن يسقط عنه الحد معللاً لمقولة سعد.

المثال الثالث: هو عبارة عن قياس وإلحاق لبعض النظائر ببعض، وهذا لا غبار عليه ولا معارضة فيه لنص كما يقول العصرانيون.

قال ابن القيم تحت عنوان «فصل: صدقة الفطر حسب قوت المخرجين». 

المثال الرابع (30) : أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كالبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال غيره، إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد، ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه حديث، وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وأن كان أنفع للمساكين لقلة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه مالا يتأتى من الخبز والطعام) (31) .

المثال الخامس: ويعتمد على أن الضرورات تبيح المحظورات، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الشرع مفادها رفع الحرج عن عباد الله لأن الله ما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد مثل به ابن القيم لبيان مراده. فقال:

(إن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر، وقال: «اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت» فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال (32) والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك. وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاة للصلاة والصيام، وأن نهي الحائض عن الجميع سواء، ونازعهم في ذلك فريقان: أحدهما صحح الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعًا من صحته، بل جعلوا  الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه...

والفريق الثاني: جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها، بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز.

إلى أن قال :

قالوا: وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صفية وقد حاضت: «أحابستنا هي؟» قالوا: «إنها قد أفاضت، قال: «فلتنفر إذاً» وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها. فأما في الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيَّض فلا تخلو من ثمانية أقسام (33)» (34).

وهكذا نرى أنه لا علاقة البتة بين ما ذهب إليه ابن القيم وما ذهب إليه هؤلاء من جعل المصلحة هي الحاكمة على النصوص، هذه المصلحة المزعومة التي لم يلتفت إليها أحد من علماء الأمة طيلة هذه المدة ثم جاء ليكشفها سيد أحمد خان صاحب اللسان الأعجمي والقلب المفتون.

الشبهة الخامسة (35) : رأي شاذ مهجور لرجل نكرة مبتدع يُدعى الطوفي :

يقول الأستاذ بسطامي: (أسلفنا القول أن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه ولا يعرف (36) أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة المنار في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو نجم الدين الطوفي ذكرت المجلة أنه تحدث عن المصلحة بما لم تر مثله لغيره من الفقهاء (37) .

فمن هو الطوفي هذا؟ وما رأيه الذي شذ به عن بقية الفقهاء؟ تذكر المصادر  التي ترجمت لحياة الطوفي أنه كان من فقهاء الحنابلة وتصفه بالعلم والصلاح والفضل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلالاً على انحراف منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشيع والرفض وسب الصحابة (38) . وتجعل ذلك سببًا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة فانتقل منها إلى بلدة صغيرة.

وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأي شاذ لم يعرف قبله، ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (39) . وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا.

إلى أن قال:

أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث «لا ضرر ولا  ضرار»، وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى من مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع إذا عارضتها.

يقول: «اعلم أن هذه الطريقة إذا ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور – حديث لا ضرر ولا ضرار- ليست هي القول بالمصالح المرسلة (40) على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام... فالمصلحة وباقي أدلة الشرع، إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت، وإن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة عليها... وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له... وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسة شرعية، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول... ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته، لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها، فلنقدمها في تحصيل المنافع) (41) .

قلت: هذا القول الشاذ والرأي الساقط، لو كان صادرًا من أحد الأئمة المعتبرين – وحاشاهم أن يصدر منهم مثل هذا الهراء- لما كان فيه حجة لأن الله لم يتعبدنا بسقطات وهفوات العلماء الأخيار، دعك من هؤلاء الأغمار المبتدعين، دعك عن رجل شيعي.

والعجب كل العجب من صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا -سامحه الله- حيث اعتبر أن هذا القول الشاذ سبق تحمد على نشره مجلته، وما علم أن ذلك وزر عظيم، إذ ليس هناك ذنب أكبر بعد الإشراك بالله من نشر البدع وإشاعتها، خاصة بين الجهلة الذين لا يميزون بين الحق والباطل، والغث والسمين، والبدعة والسنة.

وقد أتي الشيخ محمد رشيد من قبل مداخلته لمحمد عبده وتتلمذة على يديه وهو الذي أفسد عقول الكثيرين، ولا تزال آراؤه تفسد وتخرب، وأي علم يمكن أن يستفاد من أمثال هؤلاء سوى التحلل من أواصر الدين والتمكين لشبه المستشرقين؟ ورحمة الله على من قال: «إن هذا العلم دين، فلينظر أحدكم ممن يتلقى دينه».

دينك هو رأس مالك أيها الأخ الكريم فلا تتلاعب به، ولا تأخذ عن هؤلاء الأغرار فإنهم والله أجهل الناس بالدين مع سوء قصدهم وقلة أدبهم.

وما قول الطوفي هذا، وقول خان، والدواليبي، وكل من لفَّ لفهم إلا سواء، لا ميزة لسابقهم على لاحقهم إلا أن السابق منهم يتحمل من الوزر والإثم مثل أوزار من أضلهم بهذه الأقوال وأزاغ قلوبهم بتلك الشبه، دون أن ينقص من أوزارهم شيئًا.

فهنيئًا للطوفي بهذا، وليعلم الجميع أن الله حافظ لدينه ومبلغ لأمره، وستظل النصوص هي الحكم لأنها هي عين المصلحة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. 

 

( المرجع : مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور الترابي ، الأمين الحاج محمد أحمد ،ص 103-122).

 

وقال الأستاذ سعيد الزهراني ردًا على هذه الشبهة :

(القول بالدوران مع المصلحة لم يُبق شيئًا من أحكام الشرع غير خاضع للاجتهاد، حتى ولو كان ثابتًا بالنص القطعي الدلالة والثبوت، ومجمع عليه كما سيتبين بعد قليل .

والقول بتخطي النص والإجماع، من أجل تحقيق المصلحة بدعة، أظهرها نجم الدين الطوفي (42) المتوفى سنة 716هـ، الذي يقول بعد أن عدد أدلة الشرع: (وهذه الأدلة ... وأقواها النص والإجماع. ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نزع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم: النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله – عليه السلام -: « لا ضرر ولا ضرار » وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما ... ) (43).

هذا هو رأي الطوفي في المصلحة، والعلماء قديمًا وحديثًا على أن هذا الرأي قول شاذ. ومع هذا فقد قال به بعض المفكرين المعاصرين، وأصبح مبررًا لهم لإخضاع الأحكام التشريعية للاجتهاد، حتى لو كانت ثابتة بالنصوص، والإجماع منعقد عليها .

وهذه بعض الأمثلة من أقوالهم توضح ذلك :

فالدكتور عبدالمنعم النمر يبدأ بتقرير أن أحاديث المعاملات كالبيع والشراء والإجارة، التي صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن عن وحي، وإنما كانت بناء على نظرة الرسول لتحقيق مصالح الناس، ثم يقول: (ولذلك لم يكن الرسول يتردد في تغيير حكمه الأول، إذا ظهر أنه لم يحقق مصالح الناس، ولم يقطع النزاع، ويحكم بحكم جديد يوفر المصلحة على ضوء الواقع والتجربة...) (44) .

فبإخراجه أحاديث المعاملات من أن تكون عن وحي، والسعي للدوران مع المصلحة، لا مانع عنده من الاجتهاد، ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول باجتهاده على ضوء الواقع أمامه وبعيدًا عن الوحي، حكما ثابتا للأبد، لا يجوز لأحد بعده أن يتصرف فيه، حتى ولو كانت الظروف الجديدة ومصلحة الناس في ظلها، تحتم هذا التغيير ؟

إن العقل المجرد في هذه الحالة يقول: إن التغيير ممكن، بل قد يكون لازمًا حين تقتضيه المصلحة ... ) (45).

وقاعدته هنا فيما يرى له حق الاجتهاد فيه، ألا يعارض لنص قرآني، أو قاعدة شرعية، يقول: (إن الإطار العلمي الديني للاجتهاد، هو عدم معارضته لنص قرآني، أو قاعدة شرعية مع تحقيقه المصلحة العامة) (46) .

وعلى هذا فتحقيق المصلحة عنده مقدمة على نصوص السنة، حيث لم يأت لها بذكر هنا في شروطه .

وفي موضع آخر يؤكد ضرورة مراعاة المصلحة، فيقول: (وقد بلغت ضرورة مراعاة مصلحة المجتمع إلى حد أن إمامين كبيرين من أئمة الفقه والفكر الإسلامي، وهو الإمام الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716هـ، وحجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ- 1111م، يقرران: أنه إذا عارضت مصلحة حكمًا ثبت بالنص والإجماع، فإن هذا في الحقيقة تعارض بين مصلحتين: مصلحة حكم النص والإجماع، والمصلحة العارضة، فإذا ترجحت المصلحة العارضة بمرجحاته المعتبرة، روعيت المصلحة المعارضة، وعدل عن النص والإجماع) (47).

وينتصر لما ذهب إليه الطوفي من رأي شاذ فيقول: (لكن الذي جر على الطوفي بعض المتاعب، وأثار الاعتراضات، هو قوله: بأن النص والإجماع إذا عارضتهما المصلحة الراجحة، قدمت رعاية المصلحة على طريق البيان أو التخصيص للنص .

مع أن الطوفي بهذا لم يأت بجديد. لأنها قضية معمول بها منذ عهد الصحابة، لكن التصريح بهذا ربما يكون هو الجديد .. والعادة جرت على أن الناس ترى أو تعمل الشيء أحيانًا، لكنها تكره التصريح به .. ) (48).

ثم يقول: (وهذا الذي صرح به الطوفي، قد مارسه الصحابة والتابعون عمليًا في حياتهم، وكل الفقهاء يُقِرُّون هذا، ويقررونه في كتبهم، عند الكلام عن اجتهاد الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم.. فكانت الغرابة أن ينزعج بعضهم مما قرره الطوفي !!

فما وجه الإنكار – إذن – على الطوفي والتنديد به. وهو لم يزد على أن استخلص قضية من أعمال واجتهادات الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ وأسمعها الآذان ووضعها أمام الأنظار؟) (49).

وهذا كلام صريح من عبدالمنعم النمر على موافقة الطوفي في قوله الشاذ، ولو كان صحيحًا أنها قضية معمول بها في اجتهادات الصحابة والتابعين لما عَدَّها أهل العلم رأيًا شاذًا.

وممن قالوا بتقديم المصلحة على النص والإجماع محمد عمارة، وهذا قوله: (فالحكم المجمع عليه، والمؤسس إجماعه على نص قطعي الدلالة والثبوت، إذا كان متعلقًا بعلة غائبة تبدلت أو بعادة تغيرت أو بعرف تطور – أي إذا لم يعد محققًا للمقصد منه، وهو المصلحة – فلابد من الاجتهاد فيه ومعه، اجتهادًا يثمر حكمًا جديدًا، يحقق «المقصد – المصلحة ») (50)، وهذا هو الدوران مع المصلحة .

وفي مقال بعنوان « وثنيون هم عبدة النصوص

akramalsayed

مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 85 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2011 بواسطة akramalsayed

ساحة النقاش

اكرم السيد بخيت (الطهطاوي)

akramalsayed
ثقافي اجتماعي ديني »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

861,922