<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

الجواب : للأدلة التالية :

1- قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[ التوبة : 100].

قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فوجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على من اتبعهم؛ فإذا قالوا قولاً فاتبعهم متبع قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محموداً على ذلك، وأن يستحق الرضوان.

ولو كان اتباعهم تقليداً محضاً كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عامياً، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم إتباعهم حينئذ".

قلت: دلت الآية على حجية منهج الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه دليل فاستحق متبعهم الرضوان فلا يمدح إلا من اتبع الدليل، ولذلك وجب إتباعهم على العالم والعامي سواءً؛ لأن فرض العالم إتباع الدليل؛ كما قال تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [الأعراف: 3] ولو لم يكن كذلك لاستحق العقوبة، ولم يستحق الرضوان؛ فتدبر.

2- قال تعالى:  {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [يس: 21].

قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: "هذا ما قصّه الله - سبحانه وتعالى - عن صاحب يس على سبيل الرضا بهذه المقالة، والثناء على قائلها، والإقرار له عليها.

وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجراً وهم مهتدون بدليل قوله تعالى: خطاباً لهم: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

ولعل من الله واجب .

وقوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 16 ، 17].

وقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [محمد : 4 ، 5].

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

وكل منهم قاتل في سبيل الله، وجاهد إما بيده أو بلسانه؛ فيكون الله قد هداهم، وكل من هداه الله فهو مهتد؛ فيجب إتباعهم بالآية".

3- قال تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 15].

قال ابن قيم الجوزية: " وكل من الصحابة منيب إلى الله ؛ فيجب اتباع سبيله ، وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله .

والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى : أن الله قد هداهم ، وقد قال تعالى { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [ الشورى : 13].

4- قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [ سورة يوسف : 108 ] .

قال ابن القيم : ( فأخبر تعالى أن مَن اتبع الرسول يدعو إلى الله، ومن دعي إلى الله على بصيرة وجب إتباعه؛ لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } [الأحقاف: 31].

ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالماً به، والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله، لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى، وإذاً فالصحابة رضوان الله عليهم قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب إتباعهم إذا دعوا إلى الله".

5- قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110].

قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "شهد الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يُفتِ فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد قد أمر فيها بمعروف، ولا نهى فيها عن منكر، إذ الصواب معروف بلا شك، والمنكر خطأ من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلاً علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قولهم حجة".

6- قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

قال ابن قيم الجوزية: "ولا ريب أنهم أئمة الصادقين، وكل صادق بعدهم فبهم يأتم في صدقه، بل حقيقة صدقه إتباعه لهم وكونه معهم.

ومعلوم أن من خالفهم في شيء، وإن وافقهم في غيره، لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم، فتنتفي عنه المعية المطلقة، وإذا ثبت له قسط من المعية فيما وافقهم فيه، فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط.

وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب، بحيث لا يستحق اسم المؤمن، وإن لم ينتفِ عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال: معه شيء من الإيمان.

وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال له لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم، وإن قيل: معه شيء من العلم.

ففرق بين المعية المطلقة ومطلق المعية، ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني، فإن الله تعالى لم يرد منا أن نكون معهم في شيء من الأشياء، وأن نحصل من المعية ما يطلق عليه الاسم، وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب تعالى من أوامره.

فإذا أمرنا بالتقوى والبر، والصدق، والعفة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، ونحو ذلك؛ لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم، وهو مطلق الماهية المأمور بها، بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك، وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء".

7- قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].

قال ابن قيم الجوزية: "ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلكم أمة خياراً عدولاً، هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلمَ خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر الملائكة أن تصلي عليهم، وتدعو لهم، وتستغفر لهم.

والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدق، فيخبر بالحق مستنداً إلى علمه به؛ كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقاً من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به؛ فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم.

فلو كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالفة لحكم الله ورسوله، ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله، إما مع اشتهار فتوى الأول أو بدون اشتهارها؛ كانت تلك الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق، بل انقسموا قسمين: قسماً أفتى بالباطل، وقسماً سكت عن الحق، وهذا من المستحيل، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم: لو كان خيراً ما سبقونا إليه".

8- قال تعالى:  { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].

قال ابن قيم الجوزية: "فأخبر تعالى أنه اجتباهم، فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه، وجعلهم أهله وخاصته، وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده، فيبذلوا له أنفسهم، ويفردوه بالمحبة والعبودية، ويختاروه وحده إلهاً معبوداً محبوباً على كل ما سواه، كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم، وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم، فيؤثرونه في كل حال على من سواه، كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءه، وآثرهم بذلك على من سواهم.

ثم أخبرهم تعالى أنه يسَّر عليهم دينه غاية التيسير، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتة؛ لكمال محبته لهم، ورأفته ورحمته، وحنانه بهم، ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم، وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام، فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره، ثم أخبر تعالى أنه نوَّه بهم، وسمّاهم كذلك بعد أن أوجدهم، اعتناءً بهم، ورفعةً لشأنهم، وإعلاءً لقدرهم.

ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله، ويشهدوا هم على الناس، فيكونوا مشهوداً لهم بشهادة الرسول، شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم، فكان هذا التنويه؛ وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين؛ ولهاتين الحكمتين العظيمتين.

والمقصود: أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى؛ فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة؛ فيفتي فيها بعضهم بالخطأ، ولا يفتي غيره بالصواب، ويظفر فيها بالهدى من بعدهم، والله المستعان".

9- قال تعالى: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران : 101].

قال ابن قيم الجوزية: "ووجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى أخبر عن المعتصمين به بأنهم هدوا إلى الحق.

فنقول: الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله فهم مهتدون؛ فإتباعهم واجب.

أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوهن :

أحدها: قوله تعالى:  {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] ومعلوم كمال تولي الله ونصره إياهم أتم نصرة، وهذا يدل على أنهم اعتصموا به أتم اعتصام، فهم مهديين بشهادة الرب لهم بلا شك، وإتباع المهدي واجب شرعاً وعقلاً وفطرةً بلا شك".

10- قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24].

قال ابن قيم الجوزية: " فأخبر تعالى أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم، إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإن الداعي إلى الله لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه، وبصيرته به، وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاق الدعوة، وكف النفس عمّا يُوهن عزمه ويضعف إرادته، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى.

ومن المعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى عليه السلام، فهم أكمل يقيناً وأعظم صبراً من جميع الأمم، فهم أولى بمنصب هذه الإمامة، وهذا أمر ثابت بلا شك بشهادة الله لهم، وثنائه عليهم، وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم خير القرون، وأنهم خيرة الله وصفوته.

ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق، ويظفر به المتأخرون، ولو كان هذا ممكناً لانقلبت الحقائق، وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم، وهذا كما أنه محال حسًّا وعقلاً فهو محال شرعاً، وبالله التوفيق".

11- قال تعالى:  { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }[الفرقان: 74].

قال ابن قيم الجوزية: "فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم به، والتقوى واجبة، والائتمام بهم واجب، ومخالفتهم فيما أفتوا فيه مخالف للائتمام بهم".

12- قال الله تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }  [البقرة: 136، 137].

قال ابن قيم الجوزية: "فالآية جعلت إيمان الصحابة ميزاناً للتفريق بين الهداية والشقاق، والحق والباطل.

فإن آمن أهل الكتاب بما آمن به الصحابة فقد اهتدوا هدايةً مطلقة تامة، وإن تولوا عن الإيمان بما آمن به الصحابة كمثل إيمانهم فقد سقطوا في شقاق كلي بعيد.

وعلى قدر مطابقة إيمانهم إيمان الصحابة يتحقق لهم من الهداية، وبمقدار بُعدهم عن إيمان الصحابة يكون فيهم من الشقاق.

ووجه الدلالة: أن إتباع الصحابة في الإيمان هو مناط الهداية، والعاصم من الشقاق والضلال، وهو يشمل إتباعهم في اعتقادهم وأقوالهم وأعمالهم، فكلها داخلة في مسمى الإيمان عند إتباع السلف.

وطلب الهداية والإيمان أعظم الفرائض، واجتناب الشقاق والضلال من كليات الواجبات؛ فدلَّ على أن إتباع الصحابة من أوجب الواجبات".

13- قال الله تعالى:  { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115].

قال ابن قيم الجوزية: "والآية قرنت بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإتباع غير سبيل المؤمنين في استحقاق الإضلال وصلي جهنم.

ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمة مع إتباع غير سبيل المؤمنين، كما أن إتباع سبيل المؤمنين متلازم مع إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا كثير من علماء السلف، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو أمر ظاهر؛ لأن إتباع سبيل المؤمنين ممتنع دون إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن إتباع سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم متعذر بمخالفة ما سلكه المؤمنون في تأويل الكتاب والسنة والتحليل والتحريم والإيجاب.

والآية مما احتج به الإمام الشافعي على الإجماع اليقيني المتحقق، وقد علمت قوله فيه، وسبيل المؤمنين أوسع من المعلوم من الدين ضرورة، مثل كون الخمر حرام، والظهر أربع، وهو يشمل كل ما كان عليه سلف هذه الأمة.

 

ووجه الدلالة: أن الآية جعلت مخالفة سبيل المؤمنين هو أقوال وأفعال الصحابة رضي الله عنه دلّ على هذا قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } [البقرة: 285]، والمؤمنون آنئذٍ هم الصحابة ليس إلا ".

قلت : فدلّ على أن إتباع سبيلهم في فهم شرع الله واجب، ومخالفته ضلال.

فإن قيل : هذا استدلال بدليل الخطاب، وليس حجة.

قلت : هو دليل، ودونك الدليل:

أ- عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ } [النساء: 101] فقد أمن الناس؟

 قال عمر: عجبت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال: "صَدَقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته".

لقد فهم هذان الصحابيان: يعلى بن أمية، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - من هذه الآية: أن قصر الصلاة مقيد بشرط الخوف، فإذا أمن الناس فلا بد من الإتمام، وهذا هو دليل الخطاب المسمى بـ "مفهوم المخالفة".

وسأل عمر - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرّه على فهمه، ولكنه بيَّن له أن ذلك غير معتبر هنا لأن الله تصدق عليكم؛ فاقبلوا صدقته.

ولو كان فهم عمر لا يصح لما أقرّه الرسول ابتداءً ثم وجهه هذا التوجيه، ولقد قيل: التوجيه فرع القبول.

ب- عن جابر عن أم مبشر - رضي الله عنهما -: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "إني لأرجو أن لا يدخل الناس أحد إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها"؛ فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } [مريم: 71].

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 72] ".

لقد فهمت أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها - أن الورود لجميع الناس، وأنه بمعنى الدخول؛ فأزال رسول الله × إشكالها بتمام الآية { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } [مريم: 72].

فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّها على فهمها ابتداءً ثم وضَّح لها أن الدخول المنفي غير الورود المثبت، وأن الأول خاص بالصالحين المتقين، والمراد به نفي العذاب فهم يمرون منها إلى الجنة دون أن يمسهم سوء وعذاب، وباقي الناس على خلاف ذلك.

فثبت ولله الحمد والمنة: أن دليل الخطاب حجة يعتمد عليه، ويعول في الفهم إليه.

ناهيك أن قوله تعالى:  { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } ليس دليل خطاب، وإنما هو احتجاج بتقسيم عقلي؛ لأنه ليس بين إتباع سبيل المؤمنين وإتباع غير سبيلهم قسم ثالث، فإذا حرم الله جل جلاله إتباع غير سبيلهم، وجب إتباع سبيلهم، وهذا واضح لا يشتبه.

فإن قيل: فإن بين القسمين ثالثاً وهو عدم الإتباع أصلاً.

قلت : هذا من أوهى ما نطقت به العقول؛ لأن عدم الإتباع أصلاً هو إتباع لسبيل غيرهم قولاً واحداً؛ لقوله تعالى: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]؛ فثبت أنهما قسمان لا ثالث لهما.

فإن قيل: لا نسلم أن إتباع غير سبيل المؤمنين موجب لهذا الوعيد بل هو مع مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يلزم حرمة إتباع غير سبيل المؤمنين مطلقاً بل إذا كانت مع المشاقة.

قلت : معلوم أن المشاقة محرمة بانفرادها، مستقلة بنفسها لإيجاب الوعيد عليها؛ كما قال تعالى: {  وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 13]؛ فدلّ أن الوعيد على كل منهما بانفراده، وأن هذا الوصف يوجب الوعيد بمفرده، ويدل على ذلك أمور منها:

أ‌-   أن إتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرماً بانفراده لم يحرم مع المشاقة.

ب‌- أن إتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن يدخل بانفراده في الوعيد لكان لغواً لا فائدة من ذكره؛ فثبت أن عطفه علة مستقلة كالأول.

فإن قيل : لا نسلم أن الوعيد لمن اتبع غير سبيل المؤمنين مطلقاً، بل بعد ما تبين له الهدى، لأنه ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرط فيها تبين الهدى، ثم عطف عليه إتباع غير سبيل المؤمنين، فيجب أن يكون تبين الهدي شرطاً في الوعيد على إتباع غير سبيل المؤمنين.

قلت: قوله تعالى: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }معطوف على قوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } فلا يكون قيد الأول شرطاً للثاني، وإنما العطف لمطلق الجمع والمشاركة في الحكم، وهو قوله تعالى: ]  نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}؛ فدل على أن كلا الوصفين يوجب الوعيد بانفراده.

ويدل عليه ما يأتي:

أ‌- أن تبين الهدى شرط في مشاقة الرسول ×؛ لأنه من جهل هدى رسول الله × لا يوصف بالمشاقة، أما إتباع سبيل المؤمنين فهو هدى في نفسه.

ب‌- أن الآية خرجت مخرج التعظيم والتبجيل للمؤمنين فلو كان إتباع سبيلهم مشروطاً بتبين الهدى لم يكن إتباع سبيلهم لأجل أنه سبيلهم بل لتبين الهدى، وعندئذ فإن إتباع سبيلهم لا فائدة منه.

وبهذا تبين: أن إتباع سبيل المؤمنين منجاةً؛ فثبت أن فهم الصحابة للدين حجة على غيرهم فمن حاد عنه فقد ابتغى عوجاً، وسلك مكاناً حرجاً؛ فحسبه جهنم وساءت مستقراً، ومصيراً، ومقاماً، ومقيلاً.

14- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

قال ابن قيم الجوزية: "فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث مُربياً ومُعلماً للكتاب وللسنة، وهذا من أعظم مقاصد الرسالة والنبوة، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما علّم جيل الصحابة، ومن بعدهم تلقي العلم عن طريقهم.

وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكتاب بنصوصه ومعانيه، وقواعده وضوابطه، كما علّمهم السنة أتم تعليم وأكمله، ولم يشاركهم أحد في التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ فلا يماثلهم أحد في كمال علمهم وفهمهم؛ لأن من تلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَعَلّم على يديه ليس كمثل من تلقى عن غيره، إذ لا يمكن لأحد أن يماثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان والتعليم.

ووجه الدلالة: أن أولى الناس بالإتباع هو أتمّهم علماً وأكملهم فهماً، والصحابة هم أكمل الناس علماً، وأتمهم فهماً، فينبغي إتباعهم وتقديمهم عند الاختلاف وتعارض الفهم والحكم، قال إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43] ".

15- قال الله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] .

قال ابن قيم الجوزية: "والرشد ضد الغي والضلال، ويأتي بمعنى الهداية، والصحابة هم الراشدون المهتدون، الذين تمت هدايتهم ورشدهم، وكمال رشدهم يتضمن تمام الهداية في القول والفعل، ومعرفة الخطأ والصواب، والحق والباطل، وهذا يقتضي أنهم أولى بالهداية إلى الحق من غيرهم.

ووجه الدلالة : أن من كان راشداً مهتدياً كان قوله وفتياه أقرب إلى الحق والصواب ممن لم يكن كذلك، وهذا يقتضي إتباعه، وتقديم قوله وفهمه لكما هدايته، والصحابة كذلك بنص الآية، فاقتضت الآية تقديم أقوالهم وفتاويهم، والله أعلم".

16- قال الله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم َ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 6، 7].

قال ابن القيم الجوزية: "والصراط المستقيم هو صراط الأنبياء قبل هذه الأمة، وصراط الصديقين والشهداء والصالحين منها؛ كما قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69]، فأولئك هم أهل النعمة والفضل، وصراطهم بمعزل عن أسباب الغضب وموجبات الضلال، إذ هو تام الاستقامة لا عوج فيه ولا انحراف .

وسلوك الصراط المستقيم فريضة واجبة على كل مسلم، قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

وإنما يكون سلوك هذا الصراط بأتباعه السابقين عليه في التحليل والتحريم والإيجاب، فيتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في هديه وسننه، ويتبع الصحابة فيما اختلف فيه الناس، وتشابه عليهم، لأنهم المبرءون من الانحراف القائمون المستقيمون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ووجه الدلالة : أن البراءة من سبل المغضوب عليهم والضالين، في الاعتقاد والعبادة والسياسة والأخلاق والعبادات شرط للبراءة من العذاب والغضب والضلال.

وأن هذه البراءة تكون بإتباع صراط السابقين الأدلاء على الطريق، وهم من هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي إتباعهم، واقتفاء آثارهم، ولزوم هديهم".

17- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7].

قال ابن قيم الجوزية : " والآية بينت أن القرآن منه آيات محكمة ظاهرة الدلالة، وهي الأصل الذي يتبع ويهتدي به، ومنه آيات متشابهة في دلالتها، تحتاج إلى بيان وتفسير من بينات القرآن والسنة.

وأن أصحاب القلوب المريضة الزائغة عن الاستقامة يتبعون الدلالات المتشابهة قبل إحكامها طلباً لتحريفه عن معناه، وتفسيره وفق أهوائهم، وهم لا يعلمون جلية بيانه وتفسيره.

وأن الراسخين في العلم هم الذين يعرفون تفسيره وبيانه المحكم.

وهذا يقتضي : أن الواجب على كل أحد طلب تأويل المتشابهة من أهل العلم به من الراسخين في العلم، وأن تأويله دون الرجوع إليهم إنما هو فتنة وإتباع للأهواء.

والراسخون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً، ويكفي في ذلك ما سبق من الأدلة والبراهين في مباحث هذه الرسالة، فاقتضى ذلك أن إتباع الصحابة في تأويل المتشابه فريضة تقتضيها البراءة من الفتن والأهواء، وأن مخالفتهم فيه من علامات الفتنة وإتباع الأهواء، والله الموفق".

18- قال صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ".

قال ابن قيم الجوزية: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه فلا يكونوا خير القرون مطلقاً.

فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم، وسائرهم لم يُفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم، وأخطأوا هم؛ لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه، لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن.

ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة، لأن من يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة؛ يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولاً ولم يخالفه صحابي آخر، وفات هذا الصواب الصحابة، ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة، تفوق العد والإحصاء، فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطأوا فيه؟

ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها، فيا سبحان الله! أية وصمة أعظم من أن يكون الصدّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم - رضي الله عنهم - قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة؛ وأخطأ في ذلك؛ ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم".

قلت: هل الخيرية المثبتة لجيل الصحابة في ألوانهم أو أجسامهم أو أموالهم؟ لا يشك عاقل عَقِل الكتاب والسنة أن شيئاً من ذلك غير مقصود؛ لأن الخيرية في الإسلام مقياسها تقوى القلوب والعمل الصالح؛ كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".

ولقد نظر الله إلى قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها خير قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فآتاهم فهماً لا يدركه اللاحقون، ولذلك فما رآه الصحابة حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه الصحابة سيئاً فهو عند الله سيء.

قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه؛ فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء".

عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟

قال : " لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ".

قلت : فما في هذه الصحيفة؟

قال : " العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".

وبذلك يكون فهم الصحابة للكتاب والسنة حجة على من بعدهم إلى أخر هذه الأمة، ولذلك فهم شهداء الله في الأرض.

19- عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، فجلسنا، فخرج علينا فقال: "ما زلتم هنا؟".

قلنا : يا رسول الله! صلينا معك ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء.

قال : " أحسنتم أو أصبتم".

قال : ثم رفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء.

فقال : " النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء أمرها، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".

لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة أصحابه - رضي الله عنهم - إلى من بعدهم في الأمة الإسلامية كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء.

ومن المعلوم: أن هذا التشبيه النبوي يعطي في وجوب إتباع فهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم للدين نظير رجوع الأمة إلى نبيها صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم المُبيِّن للقرآن، وأصحابه - رضوان الله عليهم - ناقلو بيانه للأمة.

وكذلك رسول الله معصوم لا ينطق عن الهوى، وإنما يصدر عنه الرشاد والهدى، وأصحابه عدول لا ينطقون إلا صدقاً، ولا يعملون إلا حقًّا.

وكذلك النجوم جعلها الله رجوماً للشياطين في استراق السمع؛ فقال تعالى: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * )وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات:6 – 10].

وقال سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } [الملك: 5].

وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - زينة هذه الأمة كانوا رصداً لتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالِين الذين جعلوا القرآن عضين، واتبعوا أهواءهم؛ فتفرقوا ذات اليمين وذات الشمال؛ فكانوا عزين.

وكذلك فإن النجوم منار لأهل الأرض ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر؛ كما قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].

وقال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97].

وكذلك الصحابة يُقتدى بهم للنجاة من ظلمات الشهوات والشبهات، ومن أعرض عن فهمهم فهو في غية يتردى في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.

وبفهم الصحابة نحصن الكتاب والسنة من بدع شياطين الإنس والجن الذين يبتغون الفتنة ويبتغون تأويلها ليفسدوا مراد الله ورسوله فيهما، فكان فهم الصحابة - رضي الله عنهم - حرزاً من الشر وأسبابه، ولو كان فهمهم لا يحتج به لكان فهم من بعدهم أمنة للصحابة وحرزاً لهم، وهذا محال.

20- عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله × موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب؛ فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

قال ابن قيم الجوزية: "وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أصحابه بسنته، وأمر بإتباعها، كما أمر بإتباع سنته، وبالغ في الأمر بها، حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفتوا به، وسنّوه للأمة، وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء، وإلا كان ذلك سنته.

ويتناول ما أفتى به جميعهم، أو أكثرهم، أو بعضهم، لأنه علَّق ذلك بما سنَّه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد، فعلم أن سنَّة كل واحد منهم في وقته من سنة الخلفاء الراشدين".

قلت : هذا الحديث صاعقة على رؤوس المبتدعة المخالفين لمنهج السلف، لأنه يدل على حجيته من وجوه:

أ‌-  قَرَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الخلفاء الراشدين وهي فهم السلف، مع سنته؛ فدلّ على أن الإسلام لا يفهم إلا بمنهج السلف.

 

ب‌-  أنه جعل سنة الخلفاء الراشدين سنته؛ فقال: "عضوا عليها" ولم يقل: "عضوا عليهما"؛ فتبين أن سنة الخلفاء الراشدين من سنته.

ت‌-  أنه قابل ذلك كله بالتحذير من البدع؛ فدل على أن كل مخالف لمنهج السلف واقع في البدع وإن لم يشعر.

ث‌-  أنه جعل ذلك مخرج من الاختلاف والابتداع؛ فمن تمسك بسنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين كان من الفرقة الناجية يوم القيامة؛ كما صرّح ابن حبان عقب حديث العرباض - رضي الله عنه - فقال: "في قوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي" عند ذلك الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنة، ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنّه".

ج‌-   أنه لم يدخل سنته وسنة الخلفاء الراشدين في الاختلاف الكثير؛ فدل على أنها جميعاً من عند الله؛ لأن الاختلاف الكثير ليس من عند الله؛ كما قال تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82].

من هذه الوجوه مجتمعة يتبين: أن سبيل النجاة من الاختلاف والافتراق وطوق الحياة من مضلات الهوى ومعضلات الشبهات والشهوات – التي تحيل من اتبعها عن المحجة البيضاء – ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من فهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أخذوا منها بحظ وافر، وحازوا قصبات السابق، واستولوا على الأمد، فلا مطمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق بهم فإنهم على هدى وقفوا، وبعلم قد كفوا، وببصر ثاقب نظروا، والسعيد من اتبع صراطهم السوي، والشقي من زاغ ذات اليمين وذات الشمال وسلك سبل الغي، والتائه الحائر في ميدان المهالك والضلال يظن سراب الأهواء ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الشيطان عنده فاستحوذ عليه، نعوذ بالله من الخذلان.

فقل لي بربك : أي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؛ والذي نفسي بيده لقد نهلوا الحق من معينه عذباً زلالاً؛ فأيدوا قواعد الإسلام فلم يتركوا لأحد مقالاً، وألقوا إلى التابعين بإحسان ما ورثوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه: نبيهم صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة سنداً عالياً.

لقد كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلّ في صدورهم، وأعظم في نفوسهم أن يقدموا عليها هوى، أو أن يخلطوها برأي مشوب، كيف وقد عادوا ووالوا عليها؟

فإذا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر طاروا إليه زرافات ووحداناً، وحملوا أنفسهم عليها فلا يسألوه عما قال برهاناً.

لذلك فهم أولى الناس برسولهم صلى الله عليه وسلم وسنته فهماً وعملاً ودعوةً، وأن على من بعدهم: أن يتمسك بمنهجهم؛ ليكون موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله، وإلا فهو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

21- عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني؛ فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين؛ فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر..." الحديث.

ووجه الدلالة : أن هؤلاء التابعين رجعوا في معرفة حقيقة مقالة معبد الجهني وأصحابه إلى فهم الصحابة ومنهجهم؛ فدلّ على أن التابعين يرون حجية منهج الصحابة، وأن المحدثات بعدهم يجب عن تعرض على منهجهم وفهمهم؛ لأنه المعيار في قبول ذلك أو ردّه.

22- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

ووجه الدلالة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أصحاب النبي بأنهم يقتدون بأمره ويأخذون بسنته، ومن كان كذلك فوجب الإقتداء به؛ لأنه السبيل إلى الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما الخلوف فهي مخالفة للأمر والسنة فلا يُقتدى بها ولا يعول عليها؛ لأنها خالفة مخالفة، فتبين أن فهم الصحابة الأبرار والتابعين الأخيار هو المعيار.

23- ورد في أحاديث الخوارج قوله صلى الله عليه وسلم: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم".

ووجه الدلالة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قارن صلاة الخوارج وصيامهم مع صلاة الصحابة وصيامهم، ولما كان الخوارج على غير منهج الصحابة وقد تواترت الأحاديث بذمهم والتحذير منهم تبين أن منهج الصحابة هو الحق الذي لا مرية فيه؛ فمن تمسك به كان على صراط مستقيم ومن خالفه تفرقت به السبل عن البيضاء النقي�

akramalsayed

مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 83 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2011 بواسطة akramalsayed

ساحة النقاش

اكرم السيد بخيت (الطهطاوي)

akramalsayed
ثقافي اجتماعي ديني »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

861,297