الكاتب : حسين المناصرة - الرياض
العنوان بالنسبة إلى المتلقي هو عتبة النص الأولى أو بابه الحقيقي، وكثيراً ما كان العنوان مجالاً للدراسات السيميائية والدلالية والتأويلية في النقد الحديث. ومما يعاب على النصوص الأدبية القديمة -الشعرية بالذات- أنها لم تكن معنونة.تشكلت العناوين الأدبية في العصر الحديث في سياقات مجازية، وعبارات دالة موحية، ورمزية أيضاً. وغالباً ما تختزل هذه العناوين جلَّ متن النص أو الكتاب، بحيث تبدو العنونة بؤرة نصوصها؛ ولهذا يهتم المبدع أو المؤلف بإنتاج العنوان قبل كتابة النص أو في أثناء الكتابة، أو في آخر لمساتها، كما يفهم من شهادات كثير من الكتاب والمؤلفين. وأحياناً يولد العنوان بصفته حالة إبداع أو إلهام. ومن الممكن أيضاً أن يُغيَّر العنوان –قبل النشر- ويُبَدل من خلال إعادة النظر فيه ذاتياً أو نتيجة مشاورة آخرين، أو اقتراح من دار النشر، وهذا الشأن لا يعيب الأديب أو المبدع في كل الأحوال، لأن العنوان –كما ذكرت- مثار للرأي والاختلاف قبل أن يصاغ نهائياً، وبعد أن يسمى به النص أو الكتاب، بل إن بعض المبدعين قد غيروا عناوين كتبهم وإبداعاتهم في الطبعة الثانية أو الثالثة، لأسباب عدة تخصهم أو بسبب ما اقترحه آخرون عليهم.واليوم مع انتشار الرقمية، وتوسع دائرة الحوار والمشاركة والتعليق، بدا العنوان مثاراً للتغيير قبل النشر وبعد النشر إلكترونياً ، ثم ورقياً!! ومع انتشار وسائل الدعاية والإعلان، والانفتاح على النشر وسهولته، أضحت بعض العناوين في مستوى متدنٍ من الإبداع والمجاز والجمالية؛ لتغدو عناوين كثيرة مصوغة في أسلوب (الفخ للقارئ) على حد تعبير تساؤلكم؟! وهو فخ مفضوح -وربما مبتذل- عندما نكتشف من بدايات النص أو من الصفحات الأولى للكتاب أن هذا العنوان لا علاقة له بهذا المتن؛ لأنه عنوان إعلامي تجاري فضائحي. وغالباً ما يَلجأ إلى هذا الأسلوب بعض الكتاب المبتدئين أو الهواة الذين يشعرون بأن ما يكتبونه أو يبدعونه لا يتجاوز ما ينتج في العنوان؛ على الرغم من كونه عنواناً في واد والنص أو المتن في واد آخر – بحسب التعبير الشعبي!.إذن، هناك نهج لدى كثير من الكتاب الجدد وهو تعمد اختيار العناوين المثيرة أو الفضائحية من خلال كسر التابو (السياسة، الدين، الجنس، والعرف...). وفي ضوء الإعلام الجديد والحراك الاجتماعي الرقمي التواصلي، تغدو عناوين كثيرة إشكالية؛ ليس لأنها تفضي إلى نصوص أو كتب، بقدر كونها في ذاتها عناوين استفزازية؛ تستفز الذائقة الاجتماعية، أو بعض الشرائح الاجتماعية، بل إنها تستفز الثقافة والمثقفين، عندما تستجلب هذه العناوين المبتذلة ما يحوطها من إعلام الرأي العام، ومن ثمّ تغيب الكتابة الأدبية الجادة العميقة في عناوينها عن المشهد الأدبي أو الإبداعي؛ لتغدو الثقافة الإعلامية أو الرقمية مسطحة أو هامشية، وهي تهتم باسم رواية (بنات الرياض) -على سبيل المثال- أكثر من اهتمامها بنص الرواية أو فكرتها، أو وهي تهتم بعنوان (كيف تكسب المال بأقل مجهود؟) لكتاب نُشر صفحات بيضاء؟! وقد تصل العناوين في بعض المقالات والخواطر إلى درجة الابتذال، عندما نكتشف أن العنوان مجرد لافتة (بورنوية) فضائحية، والقصد منه إثارة الغرائز نحو القراءة السطحية التي يبحث عنها المراهقون عموماً!!إن أخطر ما يواجه الثقافة العربية المعاصرة في عصر الإعلام التجاري، والتسويق الإثاري يكمن في تحول ثقافي مريب، يكاد يهاجم كل المبدعين والمثقفين، وهم يتخلون عن عناوينهم الإبداعية لمصلحة مواكبة العصر أو الموضة، والميل نحو تلك العناوين المفرغة من مضامينها، والمتشكلة في سياق الانفصام عن رؤاها ودلالاتها. ليس القصد من هذه الملحوظات تجاه إفراغ كثير من العناوين المعاصرة -وبالذات لدى الكتاب الشباب- من مضامينها الإيجابية وصياغاتها المنطقية؛ فمن حق كل كاتب أو مبدع أن يختار العنوان المناسب لنصه أو كتابه، ومن حقه أيضاً أن يجعل عنوانه مثاراً للتساؤل والإثارة، ولكن بأساليب جمالية، تكشف عن عمق ترسيخ العنوان في متن النص، ومن ثمّ من حق العنوان أن يثير المفارقة والتساؤل والتأويل والتحليل في ضوء النص نفسه، لا خارجاً عن سياقه!! لهذا على المبدعين والكتاب أن يدركوا أهمية العنوان، بصفته قيمة جمالية ودلالية وفنية، بجانب عتبات أخرى، تُشَرّع أبوابها ونوافذها نحو النص أو الكتابة في المتن!!من حق الناشرين أن يتدخلوا في صياغة العنوان لا تغييره، بل يمكن التغيير إن بدا العنوان مثيراً أو منسلخاً عن نصه، لكن بعض دور النشر غدت تحرص على أن تكون العناوين على إصداراتها مثيرة ولافتة، وربما صادمة، من أجل التسويق والربح المالي، وهذه هي الكارثة التي صارت تصوغ عناوين كثير من الروايات -على سبيل المثال- من أجل تسويقها في سوق الرواية الرائج. بل إن بعض العناوين قد غُيِّرت بدون استشارة المؤلفين والكتاب، ومنهم من تنكر لكتابه بعد ما حصل فيه من تغيير في العنوان أو في العنوان والمتن معاً!.لا يقتصر عنوان الكتاب أو النص على الاسم، بل يصاحب ذلك صياغة اسم الكاتب، واللوحة الفنية التي تنشر على الغلاف، والألوان والخطوط المستخدمة، والنصوص التي تنشر على الغلاف الخلفي، وحجم الكتاب، ودار النشر، وتاريخ النشر، والمساحات الفارغة...إلخ. هذه كلها تُدْرج في سياق العنوان، عندما يتحول هذا العنوان إلى مجموعة من العتبات التي تتشكل على الغلاف وما يفضي إليه هذا الغلاف من دلالات فنية، وإيحاءات رمزية، وقيمة أدبية تشكلية، تكمن في (شعرية الغلاف) في أسسها الجمالية السيميائية المتنوعة.في ضوء ما سبق، تتضح –في منظوري، وربما منظور المتلقي عموماً- إشكالية هذه المداخلة في التفريق بين شعرية العنوان؛ وهي تتشكل في جماليات الإبداع والفن، وفضائحية العنوان؛ وهي تتشكل في سطحية الإعلام، وتجارية الثقافة، وتهميش الإبداع.