يروي الأديب الفلسطيني الراحل جبرا ابراهيم جبرا كيف انه قام بترجمة الجزء المتعلق بأسطورة أدونيس من كتاب "الغصن الذهبي"، حين أقام، للمرة الأولى في بغداد للتدريس في كلياتها في خريف عام 1948، مفصّلاً كيف أن الكتاب لم يلق أي ترحيب من الناشرين أول الأمر، سواء أكانوا من القطاع الخاص، أو من المؤسسات الرسمية في بغداد أو القاهرة وغيرها.
وبعد ذلك، كما يروي جبرا، طبع الكتاب بالفعل في بيروت بمبادرة خاصة من صديقه الكاتب - الراحل بدوره - الياس مقدسي الياس. وكان الاثنان يتوقعان للكتاب أن يروج وينفد بسرعة طالما ان موضوعه علمي ويتناول واحدة من أساطير المنطقة عبر "عرضه الممتع للمعتقدات والعادات التي كان الناس قديماً يمارسونها في مراسم الخصب وطقوس العبادة، ما يفسر، بحسب جبرا "الكثير من المعتقدات والعادات الشائعة بين الناس حتى اليوم". ويزيد جبرا على هذا كله ان "هذا الجزء (من كتاب الغصن الذهبي) كان له، فضلاً عن خطورته الانثروبولوجية الظاهرة، أثر عميق في الابداع الأوروبي في السنين الخمسين الأخيرة، بما هيأه للشعراء والكتاب من ثروة رمزية وأسطورية". لكن الذي حدث يومها هو أن الكتاب لم يرج وظلت نسخه المطبوعة - من ترجمته العربية - مكدسة في المطبعة. "غير ان الكتاب، في ما يبدو - كما يخلص جبرا -، بعد سنتين أو ثلاث، قذف به الى السوق مرة أخرى، وكان استخدام أسطورة تموز في الشعر الجديد لفت أنظار القراء على نطاق واسع في الوطن العربي، وإذا الكتاب ينفد حقاً".
والحقيقة ان مصير الترجمة العربية لهذا الجزء من الكتاب "الغصن الذهبي" لم يكن أسوأ كثيراً من مصير بقية ترجمات الكتاب، أو أجزاء منه الى لغات أخرى، حتى ولو لم نكن نتحدث هنا عن الرواج. فالكتاب راج وبيعت من ترجماته عشرات ألوف النسخ ويطبع دائماً من جديد... لكن المشكلة أن أحداً لا يأخذه، علمياً، مأخذ الجدية. كل ما في الأمر ان الأدباء وجمهور الأدب يرحبون به، أما العلماء فإن لهم فيه رأياً آخر تماماً: بالنسبة إليهم "يتمتع" الكتاب بضحالة علمية أثبتتها الأيام أكثر وأكثر، إذ ان معظم طروحاته الفكرية تجاوزتها علوم الانثروبولوجيا كما علوم الأساطير واللغات وما شابه. وهكذا بمقدار ما كان "الغصن الذهبي" يحظى بمكانة أدبية، راح يفقد أية مكانة علمية شاءها له مؤلفه، أو أسبغت عليه، سذاجة، أول الأمر.
ومؤلف "الغصن الذهبي" هو جيمس فريزر، الذي يعد في الأوساط الشعبية ولدى أنصاف المثقفين، ممن صنع "الغصن الذهبي" ثقافتهم، "أهم عالم انثروبولوجيا وباحث في أساطير الخلق والخصب في التاريخ الحديث". أما الكتاب فقد أنجز بين العامين 1890 و1915 على فترات متقطعة... وعمد الكاتب الذي كان يعد نفسه، أيضاً عالماً في الأعراق، الى إحداث تعديلات و"تصويبات" وتبديلات في الكتاب على مدى كل تلك الفترة الزمنية، بحيث أن طبعته الثالثة - في ذلك الحين - والنهائية صارت تتألف من سبعة أقسام وزعت على 12 مجلداً. أما أقسام الكتاب المتتالية فهي: "الجذور السحرية للملكية"، "المحظور ومخاطر الروح"، "الإله الذي يموت"، "أوزيريس، آتيس وأدونيس"، "أرواح القمح والغابات"، "كبش المحرقة" و"بالدر الرائع"، إضافة الى قسم خاص يحتوي على المراجع والفهارس.
لقد كان هدف جيمس فريزر، في عمله، أن يبحث في أصول الكثير من العادات والمعتقدات والطقوس، في الكثير من المجتمعات القديمة، ولكن أيضاً في فولكلور الكثير من المجتمعات الحديثة والمعاصرة. وهو بعدما عرض كل هذا رأى أنه تمكن من "رسم صورة لتاريخ الفكر الإنساني" وبالتالي، والى حد ما، "صورة لتاريخ الأديان البدائية والطقوس التي تحافظ على ذكراها عبر العصور". وانطلق فريزر في بحثه كله، وبحسب ما يفيدنا هو، من "دهشتي إذ وجدت أن حضارة روما التي كانت شديدة التقدم والتطور، قد ظلت تحتوي على تلك العادات الهمجية المتعلقة بالملك آريسي". أما "الملك آريسي" - ودائماً بحسب ما يشرح لنا فريزر - فهو في شكل عام "هارب، أو عبد أو مصارع ناله الحرم وفقد مكانته" كما انه كاهن معبد "ديانا آريسي" الواقع في غابة لا تبعد كثيراً عن روما... وظلت حاله هكذا حتى قتله هارب آخر ذات يوم انتزع بعد ارتكابه جريمته غصناً من شجرة مقدسة كان الاهتمام بها في عهدة آريسي. ما يعني أن لحظة وسن قد تتسبب في هلاك الكاهن الحارس. ويقول لنا فريزر هنا ان لا شيء في العالم القديم كله يشبه هذا العرف أو يمكنه تفسيره... غير أن فريزر، إذ وسّع من دائرة بحثه، تمكن أخيراً من العثور على وقائع مشابهة حدثت في مواقع وأزمان شديدة البعد والتنوع... وهو انطلاقاً من هذا، وسع أكثر وأكثر دائرة تقصيه ودراسته، واصفاً تلك الدراسة التي يحلو لبعض المفكرين والمؤرخين أن يعتبروها العمل الذي يعارض، في شكل أو في آخر نصاً لداروين عنوانه "جذور الإنسان والانتخاب الجنسي" يرد في "أصل الأنواع" والحال ان هذه المعارضة التي جرى التركيز عليها حين صدور الكتاب، راقت كثيراً لمناوئي داروين ونظريته، وربما كانوا هم في خلفية الشهرة الواسعة التي حظي بها هذا الكتاب.
وهذه الشهرة هي شهرة شعبية على أية حال، تتضاءل أبعادها العلمية أكثر وأكثر... غير أن قولنا هذا لا ينفي عن "الغصن الذهبي" متعته كمادة حية للقراءة. كما ان الشعراء التموزيين العرب، سائرين في هذا على خطى "آبائهم" و"جدودهم" الانكليز والأوروبيين عموماً، من أمثال ت. اس. اليوت ود. هـ. لورانس وإزرا باوند، أولعوا بما وصل أيديهم من فصول "الغصن الذهبي" وفقراته، دونما أدنى اهتمام بقيمته العلمية، يشهد على هذا - طبعاً - القسم الذي يتحدث فيه المؤلف عن أدونيس والذي ترجمه جبرا بعنوان "أدونيس أو تموز"...
والطريف هنا ان شهرة الكتاب طغت على شهرة مؤلفه السير جيمس فريزر (1854 - 1941) الذي كان أول من عين أستاذاً للانثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة ليفربول، مع انه أمضى القسم الأكبر من حياته في جامعة كامبردج. ولقد أتت مؤلفات فريزر المتعاقبة لتجعله في الأوساط الأدبية "واحداً من مؤسسي علم الانثروبولوجيا الحديث"... وهو سعى كثيراً، على أية حال، من أجل تبسيط هذا العلم واعطائه طابعاً شعبياً، من دون أن يدري أن القرن العشري. سينقض معظم طروحاته ويرفض استنتاجاته التي أعطت نفسها الحق في القول إنها انما ترسم صورة لـ"تطور الفكر الإنساني من الحقبة السحرية، الى الحقبة الدينية وصولاً الى الحقبة العلمية". و"الغصن الذهبي" على رغم ضخامته، لم يكن الكتاب الوحيد الذي ألفه جيمس فريزر. ذلك أن الرجل كان واسع المخيلة غزير الانتاج، متفرغاً تماماً لعمله العلمي والأدبي. وله من الكتب أعمال مرّ بعضها مرور الكرام لا يلفت نظر أحد، بينما نظر الى بعضها الآخر على أنه فائق الأهمية في مجاله. ومن كتب فريزر، غير "الغصن الذهبي"، "الفولكلور في العهد القديم" المترجم الى العربية، كما انه ترجم الكثير من الكتب اللاتينية الى الانكليزية، من بينها أعمال لأوفيد.
المصدر: نادي الفكر العربي - قــــــرأت لـك
نشرت فى 20 ديسمبر 2012
بواسطة ahmedsalahkhtab
أحمد صلاح خطاب
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
636,844