وصيةٌ (قصةٌ قصيرةٌ)

من فوق المنبر كان صوته يجلجل، والكل ينصت في خشوع. يتوقف بين الفينة والفينة، يتصفح وجوه الجالسين؛ ليرى وقع كلامه عليهم. تعجبه دموع هذا الكهل الخمسيني؛ التي يحاول مسحها خفية من حين لآخر، لم يكن يدري أنه سيدفع ثمن هذه الدموع غاليًا.

 لم يكن أزهريًّا لكنه كان مفوَّهًا، ساعده حفظ القرآن، وكثرة الاطلاع، والتعود على مواجهة الجمهور مبكرًا، تولى إمامة المسجد الأهلي، والخطابة دون منازع، أتته فرصة عمره، في صورة عقد عمل بالمملكة السعودية، استودع الله زوجته، وأولاده، ووالديه المسنين، مرت الأيام بطيئة ثقيلة، يروي عطشها دموعهم هنا، وعرقه هناك، إلى أن أذن الله بلم الشمل، واجتماع الأشتات في أول أجازة سنوية.

 قابله على باب المسجد، تذاكرا الأيام الخالية، نعى إليه تدهور المسجد من بعده، أصبح المنبر يعلوه العالم والجاهل، لم يعد للصلاة إمام راتب، عرج فجأة على خطته في استثمار أمواله، باغته السؤال فلم يحر جوابًا، أسعفه تفكيره لاختلاق بعض المشروعات؛ التي طرأت على باله توًّا، كلما ذكر له مقترحًا فنده، (التاكسي) بالوعة مصاريف، وحصيلته للسائق، ولن يجني من ورائه إلا الخسارة: فالوقود في غلاء مستمر، والأعطال مكلفة، وقطع الغيار غالية وشحيحة، والغرامات والضرائب والرسوم والتراخيص ستستنفد كل الإيراد.

  أما الشريك الأمين فقد أصبح عملة نادرة، التجارة كاسدة، الزراعة في بوار، الصناعة لا ترحم من يجهل فنياتها، البنوك تعطي الفتات، والتضخم يفوق العائد ويأكل من رأس المال، النقود في البيت عرضة للإنفاق في كماليات، وسينفتح لها آبار صرف لم تكن في الحسبان.

 سأله ما المخرج؟ أجاب في نبرة الخبير: تعلم أنني من أوائل من سافروا للعمل في الخارج، وجنيت أموالًا تملأ الحقائب، وكان لي ورشة نجارة، وأسندت إليَّ مقاولات حكومية بمئات الألوف، ولا تزال لي مستخلصات لم أصرفها لليوم بسبب (الروتين)، وأنا رجل أخاف الله، ولا ألجأ للرشا، ولو جعت أنا وأولادي، لا أطيل عليك، أمامي مشروع ضخم واعد، أحب أن أشركك فيه، فأنا أحب الخير للناس جميعًا، لا سيما من تعلمت الدين على أيديهم.

 افترقا ولم يرو غليله، نسي صاحبنا أمره، وسافر بعد انتهاء أجازته، هاتفه يطمئن عليه، ويُطمئنه على أهله وولده، ويذكره بحديثهما الأخير. أردف المهاتفة بخطاب مفصل؛ يسيل رقة وعذوبة، ويحمل البشرى بافتتاح المشروع، واحتياجه إلى بضعة آلاف، للتوسع في إنتاج قواعد خشبية لحمل المصحف الشريف. وكيف أنه صمم نموذجًا حديثًا، أنتج منه عينات أرسلها للمحافظات وللخارج، وحصل على طلبيات كبيرة، لا يكاد يضمن  الانتهاء منها في الموعد المحدد، وقد أزف الموسم، واقترب شهر القرآن.

 

سال لعاب صاحبنا مع الوعد بضمان الأرباح، وسرعة دوران النقود، فهاتف زوجته؛ التي بادرت بالذهاب لمنزل النجار، وتسليمه المبلغ المطلوب؛ في حضور زوجته وأولاده، دون أن تحصل منهم على ورقة.

 

إظهارًا لحسن النية، في بداية الأجازة التالية، بادر النجار الطيب بتسليم صاحبنا أول دفعة من الأرباح، كانت عدة مئات، اعتذر عن قلتها واعدًا بأضعافها في السنة المقبلة؛ حيث ألغيت عدة أوامر توريد؛ بسبب ضيق الوقت، وتراكم الإنتاج في المخازن، غير أنه استطاع الحصول على عقد توريد ضخم من ليبيا، وبعض رجال الأعمال السعوديين، للتبرع بها للمساجد هناك؛ لذلك فالحاجة ماسة لشراء ماكينة جديدة؛ للوفاء بالكميات المطلوبة في موعدها.

 مرة أخرى يدفع صاحبنا، ويذهل عن أخذ ما يفيد الدفع، مرت الأعوام، وعاد الرجل ليستقر في بلده، يختفي النجار شهورًا، ثم يظهر في صلاة الجمعة في مكانه المعتاد تحت المنبر، بعد الصلاة يتعاتبان، فيشكو له ما لقي من التجار، والخسارة التي حاقت به، والأمراض التي أصابته وكلفته كثيرًا. عرض عليه محلًا آل إلى زوجته من ميراثها، سيبيعه ويدفع له مستحقاته، بيع المحل ولم يدفع، وجاء يسعى طالبًا معاينة أرض له بالساحل، تصلح لكافة الأغراض، ليساعده في بيعها، أو يشتريها ويخصم مستحقاته من ثمنها، بيعت الأرض ولم يسدد شيئًا.

 أرسل إليه وهو على فراش الموت، يسأله الصفح، ويعد بأنه أوصى بسداد ديونه. 

أحمد عبد السلام_مصر           

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 37 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2015 بواسطة ahmed1957eg

عدد زيارات الموقع

18,281