إصابةُ عملٍ (قصةٌ قصيرةٌ)
نجيب مرزوق، كفاءةٌ نادرةٌ؛ وعلَمٌ في مجالِ المحاسبةِ والتكاليفِ، دقيقٌ في العملِ، صارمٌ في التعاملِ؛ إلى حدِّ الجفاءِ، لا يُخطيءُ؛ ولا يتجاوزُ عن خطأٍ، يُديرُ مكتبَهُ الخاصَّ مساءً؛ ويرأسُ حساباتِ شركتِنا نهارًا، لم أتعرفْ عليْهِ؛ إلا بعدَ عودتِي من الخارجِ؛ ورجوعِي لِعملِي السابقِ؛ مديرًا للإعلاناتِ، كان ينظرُ إليَّ باعتبارِي مُستجَدًا؛ ويحتفظُ بينَنا بِالمساحةِ التي تقتضيِها الأقدميةُ، لم تفلحْ محاولاتِي العديدةُ؛ في إذابةِ جبلِ الجليدِ بينَنا؛ آثرْتُ السلامةَ، والتزمْتُ حدودَ اللياقةِ المهنيةِ؛ والتعاملِ الرسميِّ، في أضيقِ الحدودِ.
الرجلُ نحيفٌ؛ متوسطُ الطولِ؛ ضامرُ العضلاتِ؛ أسمرُ البشرةِ؛ أكرتُ الشعرِ؛ يهتمُّ بِأناقتِهِ، ويلبسُ نظارةً طبيةً؛ وساعةً ثمينةً؛ وربطةَ عنقٍ فخمةً؛ ذاتَ دبوسٍ مذهبٍ، وحذاءً لامعًا، ويطمئنُ من آنٍ لآخرَ؛ على سيارتِهِ الفارهةِ؛ الرابضةِ أسفلَ البنايةِ؛ من خلالِ نافذةِ مكتبِهِ.
عند استلامِي لِلمرتبِ؛ لاحظْتُ خصمَ مبلغٍ كبيرٍ، سألْتُ موظفَ الاستحقاقاتِ؛ فأفادَ بِأنَّ المبلغَ؛ كان سلفةً قديمةً؛ وتمَّ استردادُها؛ بِأمرٍ من الأستاذِ نجيب شخصيًّا. توجهْت إلى مكتبِهِ لِلاستفسارِ، تظاهرَ بِالانشغالِ بِالهاتفِ؛ مدةً طويلةً، وأشارَ إليَّ بالجلوسِ، كظمْتُ غيظِي؛ وجلسْتُ حتَّى فرغَ، رحبَّ بِاقتضابٍ، وأجابَ على سؤالِي؛ بِنفسِ إجابةِ المحاسبِ السابقِ، عبثًا حاولْتُ أنْ أُوضحَ؛ أنني لم ولن أتسلفَ من الشركةِ، وهذا مبدأٌ لا أحيدُ عنْهُ؛ كما أنني عائدٌ لِتوي من الخارجِ؛ ولديَّ بِحمدِ اللهِ ما يُغنينِي، هزَّ رأسَهُ الصغيرَ مُستنكِرًا؛ وبدأْتْ رعشةٌ عصبيةٌ خفيفةٌ؛ تعترِي أسفلَ جفنِهِ الأيسرِ، وقال في حدَّةٍ:
_يُمكنُك أنْ تقولَ ما تشاءُ؛ ولكنَّ الأرقامَ لا تكذبُ!
_ماذا تعنِي؟
_المبلغُ مسجَّلٌ عليْك منذُ سنواتٍ، وما منعَنا من استردادِهِ؛ إلا سفرُك المفاجيءُ لِلخارجِ، فلمَّا عُدتَ خصمْناهُ. لا أرَى وجهًا لَاعتراضِك!
_هل يمكنُني الاطلاعُ على تاريخِ السلفةِ؟
لم يتحرَّكْ من مكانِهِ، وأشارَ على مضضٍ؛ إلى سجِلٍّ ضخمٍ؛ على رفٍّ ورائِي، واصلْتُ كظمَ غيظِي، وتناولْتُ السجلَّ؛ ووضعتُهُ أمامَهُ؛ فقلَّبَ صفحاتِهِ؛ وهو يتمتمُ:
_السلفةُ حُلوةٌ عندَ استلامِها، وثقيلةٌ على النَّفسِ عندَ ردِّها!
_.................................
توقفَ عندَ إحدَى الصفحاتِ، وتهللَ وجهُهُ بِشرًا؛ وهو يشيرُ إلى سطرٍ فيها، ويقولُ:
_تفضلْ يا أستاذُ!
نظرْتُ،حيثَ أشارَ بإصبعِهِ، فوجدتُ المبلغَ والتاريخَ صحيحيْن.. بدتْ عليْهِ نشوةُ الانتصارِ..هممْتُ بِالكلامِ فأشارَ في تواضعٍ:
_ لا داعِيَ لِلاعتذارِ.. كلُّهم يفعلُ ما فعلتَهُ أنتَ، وهذا عينُ الصوابِ، ومن حقِّكم مراجعتُنا في أيِّ وقتٍ...الحقُّ أحقُّ أنْ يتبعَ، وجلَّ مَن لا يسهوَ!
بلعْتُ ريقِي، وعاودتُ النظرَ إلى الصفحةِ؛ في حنَقٍ. وفجأةً؛ سُرِّيَ عنِّي، وقلتُ بِهدوءٍ:
_ولكنْ هذِهِ ليستْ صفحتِي!
_ماذا؟
خطفَ السجلَّ من يدِي؛ وقرأَ الاسمَ مليًّا... غاضَ الدمُ من وجهِهِ، ثمَّ تمالَك نفسَهُ؛ وهزَّ كتفيْهِ:
_بسيطةٌ تشابُهُ أسماءٍ! وهل أخطأْنا في البخارِيِّ؟
علا صوتِي؛ واجتمعَ الزملاءُ؛ فحجزُونِي عنهُ، وأنا أتميزُ غيظًا، وهو في قمةِ البرودِ.
عدتُ إلى مكتبِي، وجاءَنِي الساعِي بِشرابِ الليمونِ، وكان رجلًا طيبًا كهلًا، وأخذ يربتُ على كتفِي؛ ويهدئُني؛ ويذكرُني بفضيلةِ الصبرِ؛ ووصية النبيِّ الكريمِ: لا تغضبْ!
انهمكْتُ في العملِ، وبعدَ ساعةٍ؛ سمعْتُ لغطًا وصياحًا؛ من مكتبِ رئيسِ الحساباتِ؛ فهرعْتُ معَ بعضِ الزملاءِ؛ نستطلِعُ الأمرَ؛ لِنجدَ عميلةً مشهورةً من أهمِّ عملاءِ الشركةِ؛ وبيدِها فردةُ حذاءٍ نسائِيٍّ أنيقٍ؛ تلوحُ به في وجهِ الأستاذِ نجيب؛ وقد خنسَ الأخيرُ وراءَ مكتبِهِ، بعدَ أن أصابتْهُ الفردةُ الأخرَى!