سيد بيلَّا  

اعتدتُ قضاءَ الأجازةِ الصيفيةِ؛ في التهامِ القصصِ، ورحلاتِ صيدِ السمكِ؛ في ترعِ قُرَى أبيسٍ المتاخمةِ لِلإسكندريةِ، ومبارياتِ كرةِ القدمِ، والهروبِ إلى الشاطيءِ؛ التماسًا لِنسماتٍ نديةٍ؛ ونجاةً من بطشِ القيظِ القاتلِ، كنتُ طالبًا مُتفوقًا في الثانويةِ، وكان حُلمِي أنْ أصبحَ طبيبًا؛ لِأخففَ آلام أمِّيَ؛ التي أنهكَتْها أمراضُ الكبدِ والكُلَى، وأبِي المتقاعدِ الذي يعانِي من الربوِ؛ بعدَ أن قضَى عمرَهُ في العملِ بِمصانعِ النسيجِ. أخي الأكبرُ صحفيٌّ نابِهٌ، يراسلُ مجموعةَ صحفٍ محليةٍ ودوليةٍ، ولهُ العديدُ من المؤلفاتِ الاقتصاديةِ؛ والاجتماعيةِ. وكثيرًا ما كنتُ ألتمسُ مشورتَهُ، وأستمتعُ بِأمسياتٍ ثقافيةٍ معَهُ؛ كلمَا سمحَ وقتُهُ بِذلكَ. جمعَتْنا إحدَى الأمسياتِ؛ حولَ روايةٍ حديثةٍ لهُ؛ عن رجلٍ عصامِيٍّ جاءَ مِن أقصَى البلادِ يسعَى؛ لا يملكُ شروَى نقيرٍ، وبذلَ العرقَ والجهدَ، وبدأَ حمَّالًا في الميناءِ، وواصلَ الليلَ بِالنهارِ، لِيصبحَ أحدَ المعلمينَ الكبارِ، يملكُ أسطولًا لِلنقلِ؛ وعدةَ مخازنٍ لِلبضائعِ. ولمَّا رأي انبهارِي بِالقصةِ وإعجابِي بِالبطلِ قالَ: _أتحبُّ أنْ تسمعَ قصةَ عِصامِيٍّ حقيقِيٍّ؟ تعالَ معِي ولكنْ استمعْ فقطْ ولا تتكلمْ كثيرًا ... انطلقْنا بِمحاذاةِ ترعةِ المحموديةِ؛ إلى عامودِ الصوارِي؛ فالجبانةِ؛ فمسجدِ العطارينَ، اخترقْنا شارعًا؛ يحتلُّ فيه بائعُو الأقمشةِ حرمَ الترامِ القديمِ؛ حتَّى إذا وصلَ الترامُ؛ استأذنَهم السائقُ؛ بِدقِّ جرسٍ متواصلٍ، ويتمهلُ، فينحيَ كلٌّ منهم بسطتَهُ؛ فإذا مرَّ الترامُ؛ عادُوا لِافتراشِ القضبانِ. توقفْنا أمامَ محلٍ كبيرٍ؛ تتلألأُ أنوارُهُ؛ وتنبعثُ منه الضوضاءُ، تحملُ لافتتُهُ اسمَ (سيد بيلَّا)، استقبلَنا شابٌّ ثلاثينيٌّ؛ وسيمٌ؛ فارعُ الطولِ؛ يرتدِي زيًّا رياضيًا؛ يبرزُ عضلاتِهِ المفتولةَ، عرفْتُ أنَّهُ أحدَ أبناءِ المعلمِ سيد. رحبَّ بِنا؛ وقادَنا إلى مكتبٍ فخمٍ بِالدورِ العُلويِّ؛ وأتَانا بِمشروبٍ مُثلجٍ؛ خففَ من عناءِ الحرِّ. ولما لاحظَ استغرابِي من الاسمِ قالَ: _ كان الوالدُ -رحمَهُ اللهُ-؛ يتيمًا، واضطُرَ للعملِ؛ صبيًّا في مقهَى السائقينَ؛ المقابلِ لِمحلِ الخواجةِ أنطونيُو؛ والمقاهِي هنا مشهورَةٌ بِالطائفةِ التي ترتادُها؛ فهُناكَ مقهَى البنائينَ؛ ومقهَى الصحفيينَ؛ ومقهَى المعلمينَ... وبينَما هو يمشِي في يومٍ ممطرٍ، عثرَتْ قدمُهُ بِطوقٍ جلديٍّ، فأخذَهُ، وغسلَهُ، وسألَ أحدَ السائقينَ عنْهُ، فأخبرَهُ أنَّهُ (سيرُ تقسيمةٍ)، وابتاعَهُ منْهُ بِقرشِ صاغٍ كاملٍ. ثمَّ راحَ يسألُ عن أسماءِ قطعِ الغيارِ؛ حتَّى أتقنَها، وذهبَ إلى الخواجةِ أنطونيُو، يطلبُ العملَ عندَهُ، اختبرَهُ الخواجةُ، وأعجِبَ بِمعرفتِهِ بِقطعِ الغيارِ، فألحقَهُ بِالعملِ، وأطلقَ عليْهِ (سيد بيلَّا) وتعني: الجميلَ بِاللغةِ الإيطاليةِ. نسيتُ تحذيرَ أخِي فقلتُ: _أليسَ تحريفًا للقبِ "بلية"؛ الذي يُطلَقُ على الصبيةِ؟ _ ههههههههههههه!! لا، بلْ لأنَّهُ كان وسيمًا، وأحبَّهُ هو وزوجتُهُ؛ لِأمانتِهِ؛ وحسنِ خُلقِهِ، وعاملَاهُ معاملةَ الابنِ؛ حيثُ لم يُرزقَا ابنًا. _........................؟ _كبرَ سيدُ، واشتُهِرَ المحلُّ، الذي أصرَّ الخواجةُ على وضعِ لافتةٍ عليْهِ؛ بِاسمِ (سيد بيلَّا). وجاءَتْ قوانينُ التأميمِ، فوهبَ الخواجةُ المحلَّ لِسيِّد؛ وصفَّى باقيَ أملاكِهِ؛ ورحلَ وزوجتَهُ، وظلَّا يُراسلانِهِ، حتَّى إنَّهما دعوَاهُ لِزيارتِهما في إيطاليَا؛ حيثُ أكرمَا وِفادتَهُ. ولما ماتَ رحمَهُ اللهُ؛ أورثَنا المحلَّ. قالَ ذلكَ؛ وهو يمسحُ دمعةً أفلتَتْ مِن عينِهِ، فترحمْنا جميعُنا عليْهِ. لاحظْتُ أنَّ المكانَ يزدحمُ بِشاشاتِ (الكمبيوترِ)؛ وألعابِ (الفيديو جيم)، فسألْتُ: _ولماذا غيَّرْتُم النشاطَ؟ هل اختلفْتم كورثةٍ؟ أم أنَّ تجارةَ قطعِ الغيارِ لم تعدْ مُربحةً؟ أم للتمتع بإعفاء ضريبي جديد...؟ تبادلَ هو وأخِي ضحكةً غيرَ مفهومةٍ. ثمَّ شدَّ أخِي على يديْهِ مُودِّعًا، وجرَّنِي معَهُ لِلخارجِ. 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 58 مشاهدة
نشرت فى 25 يوليو 2015 بواسطة ahmed1957eg

عدد زيارات الموقع

25,112