فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم (15)

د. علي الصلابي

استخلاف الله تعالى لداود عليه السلام

قال تعالى: "يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" [ص:26].

خاطب الله تعالى داود عليه السلام بأن جعله حاكمًا بين الناس في الأرض, فله الحكم والسلطة, وعليهم السمع والطاعة, ثم بين الله تعالى له قواعد الحكم تعليمًا لغيره من الناس.

"َاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ" أي فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات والأرض, وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.

"وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى" أي لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا, فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار, لذا قال: "فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ" أي أن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق, وعاقبته الخذلان, قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ".

أي أن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل, لهم عقاب شديد يوم القيامة والحساب الأخروي, بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم, وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنسان, وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم, ومنه القضاء بالعدل.

والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق, ولا يحيدوا عنه, فيضلوا عن سبيل الله, وقد توعد الله من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد(1)

إن الآية الكريمة تبين أن الحكم بين الناس, مرتبة دينية, تولاها رسل الله, وخواص خلقه, وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق, ومجانبة الهوى, فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية, والعلم بصورة القضية المحكوم بها, وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي, فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم, ولا يحل له الإقدام عليه, وتبين كذلك أن الحاكم ينبغي له أن يحذر الهوى, ويجعله منه على بال, فإن النفوس لا تخلو منه؛ بل يجاهد نفسه, بأن يكون الحق مقصوده(2)

هبة من الله تعالى مباركة وفتح وإلهام

إن داود عليه السلام كان له كثير من الأبناء والأولاد إلا أن الله خصه بالابن الصالح النبي الملك سليمان عليه السلام, وأثنى الله عليه في كتابه بكونه أوابًا إلى الله عزَّ وجلَّ, كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات, ومن مزيد فضل الله على عبده داود أن وهبه سليمان الذي ورث عنه الملك والنبوة.

قال تعالى: "وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [ص:30].

لقد أكرم الله تعالى سليمان عليه السلام بالملك والنبوة وأعطاه الفهم الثاقب, والرأي السديد, ورجاحة العقل.
ومما يدلنا على ذلك قوله تعالى: "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ  فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء: 78, 79].

إن الآيات الكريمة تبين قصة زرع رعته ليلاً غنم لآخرين, وكان الله عليمًا شاهدًا بما حكم به داود وسليمان, لا تخفى عليه خافية, ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكمة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب, مع أنه سبحانه آتى كلاً من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور, مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة, وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه, وإن كان الصواب واحدًا, وهو ما قضى به سليمان, ودل قوله: +فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره(3)

لقد استنبط العلماء من هذه الآيات كثيرًا من المسائل المهمة نذكر بعضها:
1- في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به, إذا تبين له أن الحق في غيره, فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام.
2- يرى كثير من الفقهاء أن الحق واحد في أقوال المجتهدين, وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم, بدليل قوله تعالى: "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" فخص سليمان بالفهم, ولو كان الكل مصيبًا لم يكون لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة(4)

ابتكار في صناعة الأسلحة

قال تعالى: "وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ" الأنبياء:80
كان داود عليه السلام أول من اتخذ الدروع وصنعها, وتعلمها الناس منه, وإنما كانت صفائح, فهو أول من سردها وحلقها, فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر, فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.

وذلك يقتضي الشكر, لذا قال تعالى: "فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ" أي على تيسير نعمة الدروع لكم, وأن تطيعوا رسول الله " فيما أمر به, والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه النعمة.

وهذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب, فالسبب سنة الله في خلقه, وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف, واتخاذ الحرفة كرامة, وهذه الآية فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع والأخذ بأسباب النصر على الأعداء, ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان وتعاليم الرحمن, وشريعة الديان.

قوله تعالى: "وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ  أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [سبأ: 11،10], وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان, مع النبوة والاستخلاص, إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع, ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش.

يقول الدكتور عماد الدين خليل: وفي سورة الحديد نقرأ هذه الآية: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحديد:25]. هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من تسمية سورة كاملة باسم خام من أهم وأخطر خاماتها؟ هل ثمة أكثر إقناعًا لنزعة التحضير والإبداع والبناء, التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءًا أساسيًا من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم, من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده, وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دومًا عن الحديد (البأس الشديد) متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري, و(المنافع) التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كل مجالات نشاطه وبنائه (السلمي)؟ وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن, في مسائل السلم والحرب, وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلمًا وحربًا؟

إن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل.. وتستطيع -أيضًا- أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها(5)

إن الله سبحانه وتعالى منح الحديد لداود عليه السلام, وعلمه كيف يلينه, لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله, ولا شك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي.. إلخ.

وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقًا وارتباطًا وثيقًا بين آية الحديد, وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم, وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس, وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته (البأس), ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجئ لكي يعلم الله "مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" و +"ِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".
إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية العقيدة والتقدم بهذا الدين, وتحقيق النصر للمؤمنين, وإقامة دولة تحكمها شريعة رب العالمين, إن قول الله تعالى: "وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه لخدمة الإسلام.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تفسير المنير (23/188).
(2) انظر: تفسير السعدي الذي جمع في مجلد واحد ص660.
(3) انظر: تفسير المنير (17/106).
(4) المصدر نفسه (17/105).
(5) التفسير الإسلامي للتاريخ, ص 222،221.

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 54 مشاهدة
نشرت فى 9 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

315,474