فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم (16)

د. علي الصلابي

فقه التمكين عند سليمان (1)
تسلم سليمان عليه السلام قيادة الدولة القوية التي أسست على الإيمان والتوحيد وتقوى الله تعالى, لقد أوتي سليمان عليه السلام الملك الواسع والسلطان العظيم بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي, ولكنه أعطى قبل ذلك عطاء أعظم وأكرم, هيأه لأن يكون شخصية فريدة متميزة في التاريخ, لقد أعطي النبوة, ومُنح العلم وأوتي الحكمة, وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل, قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ  وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل: 16،15].

إن سليمان عليه السلام لم يرث عن أبيه مالاً أو دارًا أو عقارًا, وإنما ورث عنه العلم والحكمة وورث النبوة والحكم, وأعطاه الله تعالى نعمًا وهبات خاصة به لم يعطها أحدًا بعده فقد سأل الله عزَّ وجل أن يخصه بعطاء لا يصل إليه أحد, وقال: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ" [ص:35], يعني: أعطني ملكًا لا يكون لأحد من البشر من بعدي مثله(1)

وإننا ونحن نمضي مع ما يحكيه القرآن عن سليمان عليه السلام, فإننا نعيش مع أنصع الصفحات المشرقة من عصور بني إسرائيل الذهبية أيام كانوا على الدين الصحيح.

يحدثنا القرآن أنه عليه السلام أقام مملكته على أسس من الإيمان بالله والإسلام له, ولهذا اعتبر سليمان مُلكه مفخرة عن ملك بلقيس ليس لامتداده وسعته وتفوقه فحسب, ولكن لأن ملك سليمان قام على العلم وأسس على الإيمان فقال: "وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ  وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ"[النمل: 43،42].

وإننا لنلمح من خلال القرآن أن دولة سليمان عليه السلام كانت مفعمة بالحيوية, مائجة بالحركة, وكان عليه السلام قائمًا بواجب العبودية إلى جانب القيام بمهام الملك ومسئوليات الحكام وإعمار الدنيا بطاعة الله, حتى دانت له الأرض جميعًا, وجاء على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندٌّ منازع في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة.

لقد تحدثت الآيات الكريمة عن صفات وأحوال سليمان الحكيم, فهي صفات وأحوال تحكي مواقف حاكم مسئول عن إدارة شئون الأرض, لما عليها من مخلوقات, فهل كانت هذه المسئوليات الهائلة التي تكاد تتصور في عصرنا, هل كانت عقبة أمام سليمان في سلك المنهاج القيم للحكم, والطريق الناجح في الإدارة؟ بالقطع لا. بل كان عليه السلام يدير هذه المملكة الشاسعة أحسن ما يدير الفرد شئونه مع أسرته في بيته الصغير.

ومن خلال هذا السياق القرآني لسيرة سيدنا سليمان عليه السلام نستخلص دروسًا وعبرًا في كيفية المحافظة على دولة الإيمان, وما وظائفها في الحياة, وما هي وسائل قوتها.

إن قصة سليمان عليه السلام وردت في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع, في سورة النمل وص وسبأ, وكانت الآيات الكريمة في سورة النمل تتحدث عن حلقة من حلقات حياة سليمان عليه السلام؛ حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ, يمهد لها السياق القرآني بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير, وإعطائه من كل شيء, وشكره لله على فضله المبين, ثم مشهد موكبه مع الجن والإنس, والطير, وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب, وإدراك سليمان لمقالة النملة, وشكره لربه على فضله, وإدراكه أن النعمة ابتلاء, وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا الابتلاء, لقد أشارت الآيات الكريمة إلى بداية التمكين, ومظاهر التمكين, وكيفية المحافظة على التمكين, وصفات القيادة الربانية الممكن لها.

بداية التمكين

بدأ التمكين بتلك الإشارة: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً" وقبل أن تنتهي الآية يجئ شكر داود وسليمان على هذه النعمة, وإعلان قيمتها وقدرها العظيم, فتبرز قيمة العلم, وعظمة المنة به من الله على العباد, وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين, ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه؛ لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار, وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله, وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره, وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه, وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه, فلا يكون العلم مُبعدًا لصاحبه عن الله, ولا منسيًا له إياه, وهو بعض مننه وعطاياه وبعد الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان, وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل:16].

مظاهر التمكين في دولة سليمان عليه السلام

إن الله تعالى أنعم على عبده داود عليه السلام بالنبوة والملك, ثم ورثه ابنه سليمان عليه السلام, ومكن الله له من الملك والدولة, وأعطاه من النعائم ومظاهر الملك والعز والسلطة بحيث لا ينبغي لأحد من بعده أن يصل إلى ما وصل إليه, قال تعالى: "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ  يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ"[سبأ:13،12].

ومن خلال الآيات السابقة في سورة النمل وهذه الآيات التي في سورة سبأ يمكننا أن نلخص مظاهر التمكين لسليمان عليه السلام في الآتي:

1- ورثه الله الملك عن أبيه كما أعطاه النبوة, فكان ملكًا جمع الشرفين: النبوة والملك.

2- علمه الله منطق الطير وأعطاه قدرة التحدث مع مخلوقات الله مثل النمل, قال تعالى: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل:16] وقال تعالى: "حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ  فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" [النمل:19،18].


3- آتاه الله الحكمة على حداثة سنه, ويشهد لذلك ما أوردنا من بعض القصص التي حكم فيها بحكم أقره القرآن الكريم عليه, قال تعالى: "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ  فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء: 79،78].

4- سخر الله تعالى له الريح فكانت تنقله إلى أي أطراف الدنيا شاء, وتقطع به المسافات الشاسعة البعيدة في ساعات معدودات, قال تعالى: "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ" [سبأ:12]. (والمعنى أنها تقطع به من الصباح إلى الظهر مسيرة شهر, ومن الظهر إلى المساء مسيرة شهر, فتقطع به في النهار الواحد مسيرة شهرين, وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها, يدركها سليمان, ويحققها أمر الله..) (2)


5- سخر الله تعالى له من الجن ومردة الشياطين, يغوصون له في البحار لاستخراج الجواهر واللآلئ, ويعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر كبناء القصور العالية والمحاريب في أماكن العبادة, والتماثيل والصور من نحاس وخشب وغيره, والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي نجبي به الماء, وقد كانت الجن تصنع لسليمان جفانًا كبيرة للطعام تشبه الجوابي, وتصنع له قدورًا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها, قال تعالى: "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ  يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" [سبأ:13،12].

6- أسال الله له عين القطر -وهو النحاس المذاب- فكان النحاس يتدفق له مذابًا من عين خاصة كتدفق الماء, فيصنع منه ما شاء, قال تعالى: +وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ" [سبأ:12].وكان النحاس وقتها عنصر الحضارة ومادة التقدم ومظهر الأبهة والعظمة في الجيوش والحراسات والبنايات, وظل سليمان عليه السلام -الملك الجاد- يسعى في إعمار الدنيا بطاعة الله, حتى دانت له الأرض جميعًا, وجاء على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندُّ في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة(3).


7- كان جنده مؤلفًا من الإنس والجن والطير, وقد نظم لهم أعمالهم ورتب لهم شئونهم, فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل, يحيط به الجند والخدم من كل جانب, فالإنس والجن يسيرون معه في موكب حافل, والطير تظله بأجنحتها من الحر والشمس(4).

هذه هي أبرز مظاهر التمكين في زمن حكم سليمان عليه السلام, ويظهر إكرام الله له في قوله تعالى: "هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ص:39]. وذلك زيادة في الإكرام والمنة, ثم زاد على هذا كله أن له عند ربه قُربى في الدنيا وحسن مآب في الآخرة: "وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ" [ص:40].

ـــــــــــــــــــــــــــ


(1) تفسير ابن كثير (4/40).
(2) في ظلال القرآن (5/2898).
(3) انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/587).
(4) انظر: دعوة سليمان عليه السلام, ص56،55

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 62 مشاهدة
نشرت فى 9 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

315,474