أسئلة تلح على كل إنسان من يوم خلقه
إن في أعماق كل إنسان أصواتا خفية تناديه، وأسئلة تلح عليه منتظرة الجواب الذي يذهب به القلق، وتطمئن به النفس. ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟
هذه الأسئلة التي ألحت على الإنسان من يوم خلق، وستظل تلح عليه إلى أن تطوى صفحة الحياة، لم تجد -ولن تجد- لها أجوبة شافية إلا في الدين.

إلى أعلى

الإسلام خير مجيب
الدين وحده هو الذي يحل عقدة الوجود الكبرى، وهو المرجع الوحيد الذي يستطيع أن يجيبنا عن تلك الأسئلة بما يرضي الفطرة، ويشفي الصدور.
والإسلام -خاصة- خير دين أجاب عن هذه الأسئلة إجابة شافية، ترضي الفطرة النيرة، والعقل السليم، بل إجابة تنبع من أعماقهما، بل أعلن القرآن أن هذا الدين هو الفطرة الأصيلة نفسها: (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها) (الروم: 30) فلو تركت الفطرة الإنسانية ونفسها بلا مؤثر خارجي، لانتهت إلى الإسلام نفسه. في هذا جاء الحديث الصحيح عن رسول الإسلام "كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
تقول الفطرة والعقل: إن الناس لم يخلقوا من غير شيء، ولم يخلقوا هم أنفسهم، ولم يخلقوا مما حولهم: ذرة في الأرض أو السماء، ويقول القرآن: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض) (الطور: 35، 36).
وتقول الفطرة والعقل: لابد -إذن- من خالق لهذا الإنسان العجيب ولهذا الكون العريض، ولابد أن يكون هذا الخالق واسع العلم، بالغ الحكمة، نافذ المشيئة، عظيم القدرة. ويقول القرآن: (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون * كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون * الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فاحسن صوركم ورزقكم من الطيبات، ذلكم الله ربكم، فتبارك الله رب العالمين) (غافر: 62 - 64).
وتقول الفطرة والعقل: إن هذا الخالق الحكيم لابد أن يكون وراء تنظيمه لهذا الكون، ووضع الإنسان فيه غاية وحكمة، وتعالت حكمته أن يكون خلق هذا كله عبثاً. ويقول القرآن: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الدخان: 38، 39).
وهذا الحق الذي به خلقت السموات والأرض هو ما يستشفه العقل، وتحس به الفطرة -وإن يكن إحساساً غامضاً- أن لهذا الإنسان في الوجود رسالة، وأن وراء هذه الحياة -حياة الابتلاء والفناء- حياة أخرى، هي الغاية وإليها المنتهى، يجزى فيها المحسن بإحسانه؛ والمسيء بإساءته، حتى لا يستوي الخبيث والطيب؛ والبر والفاجر، وهذا ما تقتضيه الحكمة. ويقول القرآن: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار؟) (سورة ص: 27، 28). (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) (المؤمنون: 115).
وتشعر الفطرة والعقل أن لهذا الخالق العظيم -بحكم خلقه لعباده، وإمدادهم بنعم لا تحصى- حقاً عليهم: أن يعرف فلا يجحد، ويشكر فلا يكفر، ويطاع فلا يعصى، ويفرد بالعبادة فلا يشرك به. وينادى القرآن الناس جميعاً: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) (البقرة: 21، 22).
ويبين القرآن الغاية من خلق السموات والأرض عامة، ومن خلق الجن والأنس خاصة، فيقول: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنـزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) (الطلاق: 12). (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) (الذاريات: 56، 57).
بهذه الأجوبة القرآنية اهتدى المؤمن إلى سر وجوده، ووجود العالم كله. لقد عرف الله فعرف به كل شيء، وحل به كل لغز، واهتدى به إلى كل خير. فالعالم مملكة الله، وكل ما فيه من آثار رحمة الله، والإنسان خليفة الله، خلق لعبادة الله، وتحمل أمانة الله، والحياة هبة من الله، والموت قدر من الله، والدنيا مزرعة لطاعة الله، والآخرة موعد الحصاد والجزاء من الله. والسعيد من اهتدى بهدى الله، والشقي من أعرض عن ذكر الله.
والإنسان مبتلى ومسئول في هذه الدار الفانية، ليصقل ويعد للخلود في تلك الدار الباقية، والموت هو القنطرة التي تصل ما بين الدارين.
إن الذي أفنى الفلاسفة فيه أعمارهم، وأذابوا فيه شموع حياتهم، دون إن يجنوا ثمرة تشبع جوعهم الفكري، قد حصله المؤمن في دعة وهدوء. فعرف: من أين جاء؟ ولم جاء؟ والى أين يذهب؟ ولم يحيا؟ ولم يموت؟ وماذا ينتظره هناك؟ عرف ذلك من مصدره الذي لا يضل ولا ينسى، من وحي الله عز وجل. ومن عرف حقيقة الوجود من رب الوجود، فقد هدي إلى صراط مستقيم.
حضرت الوفاة بعض الملاحدة من الفلاسفة المتشككين، فهاله الموت وما بعده. فأنشد يقول:

لعمرك ما أدري -وقد أذن البلى

 بعـاجل ترحالي- إلى أين ترحالي؟
 وأين محل الروح بعد خروجـه

عن الهيكل المنحل، والجسد البالي؟

وبلغ ذلك بعض الصالحين، فقال:
وما علينا من جهله؟ إذا كان لا يدري إلى أين ترحاله؟ فنحن ندري إلى أين ترحالنا وترحاله، قال تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم) (الانفطار: 13، 14)
.

إلى أعلى

الوحي سبيل للوصول إلى اليقين
لقد جاء الدين بما يكمل الفطرة، ويأخذ بيد العقل، ولم يجيء بما يصادم الفطرة أو يناقض العقل.
ما أحست به الفطرة في غموض، جاء الدين فبينه أحسن بيان وأتمه، وما اهتدى إليه من العقل في إجمال واشتباه جاء الدين ففصله أحسن التفصيل، ومحا عنه الاشتباه، ونفي أوهام العقل، وأغاليط الحس، ووضح الغاية ورسم الطريق.
والفطرة ليست تفكيراً خالصاً، ولا شعوراً محضاً، إنها مزيج من التفكير والشعور، والدين قد جاء يخاطب الفطرة كلها. يخاطب التفكير والشعور معاً. يخاطب العقل والقلب جميعاً. والذين يعتمدون على سلطان العقل وحده في الوصول إلى عقيدة سليمة راسخة، وفكرة كلية واضحة تفسر هذا الوجود، وتحل ألغازه، قد جاوزوا بالعقل حدوده واختصاصه، وأهملوا جانباً هاماً في الفطرة الإنسانية هو جانب الشعور والوجدان، جانب القلب كما أغلقوا على أنفسهم باباً واسعاً ما كان أحوجهم إليه، وما أضل سعيهم بغيره. هو باب الوحي.
إن العقل -مهما أوتى من الذكاء والقدرة على التجربة والقياس والاستنتاج- محدود بحدود الطاقة البشرية، مقيد بقيود المكان والزمان والوراثة والبيئة، فلا غنى له أبداً عن سند ومعين، يسدده إذا أخطأ، ويهديه إذا ضل، ويرده إلى الصواب إذا شرد، وهذا السند هو الوحي، الذي هو أساس الدين.
إن الوحي قد أراح الإنسان من عناء البحث فيما يبدد طاقته دون الظفر بما يشبع ويغني، وأعفاه من تجشم رحلات طويلة وشاقة، والسير في دروب معتمة وملتوية، لا يدرى إلام تنتهي به؟ وقدم له ما ينبغي أن يعلمه -وما يستطيعه- عن مبدأ الوجود ومنتهاه، وعلته وأسراره، قدمها إليه خالصة سائغة، سالمة من جدل المجادلين، وتعمقات المتفلسفين، وتخرصات المتكلفين.
وليت شعري ما الذي يستطيع أن يعلمه الإنسان عن وجوده هو، وعن وجود العالم الكبير من حوله، وعن صاحب هذا الملك الكبير -سبحانه- لو مشى في الطريق وحده، دون دليل من وحي الله؟
إنه سيضرب في بيداء لا يعرف فيها طريقاً، ولا يجد فيها غير السراب يحسبه ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ويسبح في بحار من الظلمات لا يهتدي فيها إلى بر ولا قرار، كالتي حدثنا الله عنها في كتابه: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) (النور: 40)
.
أجل حاول كثير من المفكرين في القديم والحديث أن يحلوا ألغاز الوجود، ويظفروا بطمأنينة النفس عن طريق الفلسفة البشرية بعيداً عن هدى الله، ووحي السماء، فأفلسوا وعجزوا.
قال الفخر الرازي (في كتابه "أقسام اللذات") بعد أن حصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، وطاف بدائرة المعارف الفلسفية والكلامية لعصره: "لقد تأملت الكتب الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تروي غليلاً. ولا تشفي عليلاً. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن .. ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي".
وعبر بعضهم عن صرعى الفلسفة والتفلسف فقال:

لقد طفت في تلك المعاهد كلها

وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر واضعاً كف حائـــر

على ذقن أو قارعاً سن نـادم

وتمنى أحدهم في آخر عمره: لو رزق إيماناً كإيمان العجائز! حتى إيمان العجائز لم يظفر به المتفلسفون.
وهكذا أفلست الفلسفات البشرية أن تمنح القلب الإنساني طمأنينته التي هي أول عنصر لسعادته، ومحال أن يسعد إنسان يؤرق الشك ليله، ويكدر القلق نهاره.
وعرف المنصفون أن أهدى السبل وأقربها وآمنها للظفر بالطمأنينة إنما هو سبل الوحي الإلهي المعصوم. إنه «المصل الواقي» من الشك المحطم، والقلق المفزع (فاستمسك بالذي أوحي إليك، إنك على صراط مستقيم) (الزخرف: 43). (فتوكل على الله، إنك على الحق المبين) (النمل: 79).
والحق المبين هو الذي اتضحت أعلامه واستبان طريقه، وزال عنه الغموض واللبس والاختلاف والريب.
وشعور الإنسان واعتقاده أنه (على الحق المبين) وأنه (على صراط مستقيم) شعور لا يظفر به غير المؤمن بوحي الله وهداه.
أما الذي شرد من هدى الله ورسالاته، فهو (كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، له أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا، قل: إن هدى الله هو الهدى) (الأنعام: 71).
إن الوحي وحده هو السبيل الفذة للوصول إلى اليقين في قضايا الوجود الكبرى. وبغير الوحي لن يكون يقين، وبغير اليقين لن تكون سكينة، وبغير السكينة لن تكون سعادة.
بالوحي يبلغ المؤمن درجة علم اليقين، وقد يرتقى روحه ويشف ويرف حتى يشارف عين اليقين أو حق اليقين.
وفي هذا قال بعض السلف: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً! ذلك لأنه آمن بما أخبر به الوحي إيماناً تجلت به حقائق الوجود لعين قلبه، كأنه يراها بعيني رأسه، ويشهدها حاضرة ظاهرة، كالشمس في الضحى، ليس دونها سحاب ولا ضباب.
قال بعض السلف: "رأيت الجنة والنار حقيقة".
قيل له: وكيف رأيتهما وأنت في الدنيا؟
قال: "رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتهما بعينيه، ورؤيتي لهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم آثر عندي من رؤيتهما بعيني، فإن بصري قد يزيغ عند رؤيتهما أو يطغى، أما بصر الرسول فما زاغ وما طغى".

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 58 مشاهدة
نشرت فى 12 فبراير 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

308,491