authentication required
مقالات



 

 

سكينة النفس -بلا ريب- هي الينبوع الأول للسعادة، ولكن كيف السبيل إليها إذا كانت شيئا لا يثمره الذكاء ولا العلم ولا الصحة والقوة، ولا المال والغنى، ولا الشهرة والجاه، ولا غير ذلك من نعم الحياة المادية؟

إننا نجيب مطمئنين: أن للسكينة مصدراً واحداً لا شريك له، هو الإيمان بالله واليوم الآخر، الإيمان الصادق العميق، الذي لا يكدره شك، ولا يفسده نفاق.

ولكن كيف السبيل إلى سكينة النفس ؟؟

من أولى أسباب السكينة لدى المؤمن هي استجابته لنداء الفطرة:

قد يسأل سائل: لماذا كان المؤمن أولى الناس بسكينة النفس، وطمأنينة القلب؟ ولماذا لا يجد الإنسان السكينة في العلم والثقافة والفلسفة، وفيما أنتجه التقدم العلمي من وسائل وأدوات يسرت العيش وجملت الحياة؟

والجواب عن ذلك: يحوجنا إلى شيء من البسط والتفصيل، لبيان الأسباب والسنن النفسية التي جعلت المؤمن -دون غيره- أحق الناس بالسكينة والاطمئنان.

واليك البيان:

إن أول أسباب السكينة لدى المؤمن أنه قد هدى إلى فطرته التي فطره الله عليها، وهي فطرة متسقة كل الاتساق مع فطرة الوجود الكبير كله. فعاش المؤمن مع فطرته في سلام ووئام، لا في حرب وخصام.

إن في فطرة الإنسان فراغا لا يملؤه علم ولا ثقافة ولا فلسفة، وإنما يملؤه الإيمان بالله جل وعلا.

وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ، حتى تجد الله، وتؤمن به، وتتوجه إليه.

هناك تستريح من تعب، وترتوي من ظمأ، وتأمن من خوف. هناك تحس بالهداية بعد الحيرة، والاستقرار بعد التخبط، والاطمئنان بعد القلق، ووجدان المنزل والأهل بعد طول الغربة، والضرب في أرض التيه.

         
فألقت عصاها وأستقر بها النوى              كما قر عيناً بالإياب المسافر

فإذا لم يجد الإنسان ربه -وهو أقرب إليه من حبل الوريد- فما أشقى حياته، وما أتعس حظه، وما أخيب سعيه!

إنه لن يجد السعادة، ولن يجد السكينة، ولن يجد الحقيقة ... لن يجد نفسه ذاتها. (كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) (الحشر: 19).

فتصور إنساناً يعيش دون أن يجد نفسه، وهو في رأي نفسه، وفي نظر الناس بشر عاقل، سميع بصير، بل لعله جامعي مثقف، ولعله -فوق ذلك- "دكتور" كبير في العلوم والآداب!

وكيف يجد نفسه من لم يعرفها؟ وكيف يعرفها من حجب عنها بالغرور والكبر؟ أو شغل عنها باتباع الشهوات، والإخلاد إلى الأرض، والغرق في لذائذ الحس، ومطالب الجسد والطين؟

إن الإنسان خلق عجيب، جمع بين قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله. فمن عرف جانب الطين، ونسي نفخة الروح، لم يعرف حقيقة الإنسان.

ومن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءه وريه مما أنبتت الأرض. ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان ومعرفة الله، فقد بخس الفطرة الإنسانية حقها، وجهل قدرها، وحرمها ما به حياتها وقوامها.

قال ابن القيم (في كتابه «مدارج السالكين») - رحمه الله:

"في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله.

وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله.

وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته.

وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه.

وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه.

وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً".

وهذا ليس كلام عالم فحسب، بل كلام ذائق مجرب، يقول ما خبره وأحس به في نفسه، وما رآه ولاحظه في الناس من حوله.

إنها الفطرة البشرية الأصيلة التي لا تجد سكينتها إلا في الاهتداء إلى الله والإيمان به، والالتجاء إليه.

إنها الفطرة التي لم يملك مشركو العرب في جاهليتهم أن ينكروها مكابرةً وعناداً (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) (العنكبوت: 61. وقد تكرر هذا المعنى في عدة سور).

وقد يتراكم على هذه الفطرة صدأ الشبهات أو غبار الشهوات. وقد تنحرف وتتدنس باتباع الظن أو اتباع الهوى، أو التقليد الجاهل للأجداد والآباء، أو الطاعة العمياء للسادة والكبراء. وقد يصاب الإنسان بداء الغرور والعجب فيظن نفسه شيئاً يقوم وحده، ويستغني عن الله!!

بيد أن هذه الفطرة الأصيلة تذبل ولا تموت، وتكمن ولا تزول. فإذا أصاب الإنسان من شدائد الحياة وكوارثها ما لا قبل له به، ولا يد له ولا للناس في دفعه، ولا رفعه، فسرعان ما تزول القشرة السطحية المضللة، وتبرز الفطرة العميقة الكامنة، وينطلق الصوت المخنوق المحبوس، داعياً ربه، منيباً إليه، كما قال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) (الإسراء: 67).

هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، حتى قال أحد كبار المؤرخين: "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا قصور ولا مصانع ولا حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد".

والانحراف الكبير الذي أصاب البشرية في تاريخها الطويل، لم يكن بإنكار وجود الله والعبودية له، إنما كان بتوجيه العبادة لغيره، أو إشراك آلهة أخرى معه من مخلوقات الأرض أو السماء.

ولهذا كانت مهمة رسل الله كافة في جميع الأعمار، هي تحويل الناس من عبادة المخلوقات إلى عبادة الخالق، وكان نداؤهم الأول إلى قومهم: (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل: 36) (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (ذكر القرآن هذا القول على لسان نوح وهود وصالح وشعيب في سورة الأعراف الآيات: 59، 65، 73، 85، وقد تكرر معناه في عدة سور).

ومن هنا عنى كتاب الله الخالد - القرآن الكريم -في الدرجة الأولى- بالدعوة إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة، والاستعانة والتوكل والإنابة. لا بإثبات وجوده سبحانه، فإن هذا الوجود -على وجه عام- مسلَّم به ومفروغ منه، ولا يجادل فيه إلا قلة مغمورة في كل عصر، لا يقام لها وزن. ولا تسمع لها دعوى.

ولقد قرأت لبعض الملاحدة الذين اشتهروا بالشك في الدين والتشكيك فيه، كلمات عجيبة، يطالب فيها قراءه ألا يصدقوه إذا كتب هو نفسه وبقلمه ما ينفي عنه الإيمان، أو يخلع عليه الإلحاد.

يقول: "لو أردت من نفسي وعقلي أن يشكا لما استطاعا، ولو أرادا مني أن أشك لما استطعت. ولو أني نفيت إيماني بالقول لما صدقت أقوالي، فشعوري أقوى من كل أقوالي! ماذا لو أن إنساناً قال: إنه لا يحب نفسه أو لا يحب الحياة، فهل تصدقه؛ أو هل يصدق هو كلامه؟ هل يمكن أن ننفي أنفسنا أو إحساسنا بها بالكلام؟ إن الحقائق الكبيرة لا تسقطها الألفاظ. كذلك الإيمان بالله والأنبياء والأديان من الحقائق القوية التي لا يمكن أن تضعفها أو تشكك فيها الكلمات التي قد تجيء غامضة أو عاجزة لأن فورة من الحماس قد أطلقتها.

إن إيماني يساوي: أنا موجود إذن أنا مؤمن -أنا أفكر إذن أنا مؤمن- أنا إنسان إذن أنا مؤمن!".

والذي قال هذه الكلمات سود بعدها صفحات كثيرة كلها كفر وشك وضلال بعيد. ولكن هذا الاعتراف الذي سجله بهذه الصراحة وبهذه القوة، يدل على أن الإيمان -كما قلنا- فطرة أصيلة لا تقاوم ولا تهزم.

والذي يعنينا هنا أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير إيمان، ولا أن يحيا من غير إله يعظمه ويقدسه، ويخافه ويرجوه، ويعبده ويتوكل عليه. وإن لم يسم معبوده إلها، ولم يسم الخضوع له عبادة.

وإني آسي أشد الأسى لأولئك المساكين الذين صادروا فطرتهم وغلظ حجابهم، وأظلمت قلوبهم فلم تنفذ إليها أشعة الإيمان.

أولئك الأشقياء المطموسين الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

إني آسي لهؤلاء مرتين:

آسي لهم لأنهم دخلوا الحياة ثم خرجوا منها، ولم ينعموا بأطيب ما فيها وأعظم ما فيها وهو الإيمان.

إنهم بؤساء محرومون حقاً. إن الناس يقولون عن الإنسان إذا فاته شيء مهم من مسرات الدنيا: ضاع نصف عمره. فكيف بمن فاته روح الحياة، وحياة الروح؟ كيف بمن حرم قلبه بشاشة الإيمان؟

لقد خسر المساكين أنفسهم، خسروا وجودهم، خسروا الحياة وما بعد الحياة، خسروا الخلود، خسروا كل شيء، لأنهم خسروا الإيمان، وما أصدق ما ورد في بعض الآثار الإلهية عن الله تعالى أنه يقول لعبده: "عبدي اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء".

ورحم الله العبد الصالح الذي قال: "إلهي ماذا وجد من فقدك؟! وماذا فقد من وجدك؟! لقد خاب من رضي دونك بدلاً، وخسر من بغى عنك حولاً".

ثم آسي لهؤلاء الملاحدة المحرومين مرة أخرى، حين أراهم خلعوا رداء العبودية لله، فوقعوا في العبودية لغير الله.

لقد ظن هؤلاء في أنفسهم، وزعموا لغيرهم، أنهم "تحرروا" من كل عبودية، وأنهم نبذوا الخضوع للإله نبذ النواة، وأطرحوا الإيمان بالرب وراء الظهور.

وكذبوا. فالواقع أنهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، استبدلوا بالعبودية للخالق، العبودية للمخلوق، واستبدلوا بالإله الواحد آلهة شتى، واتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.

فلا واحد منهم إلا وهو عبد لأكثر من سيد، وخاضع لأكثر من إله، فهمه شعاع، وقلبه أوزاع.

أين هذا من المؤمن الذي رفض كل الآلهة الزائفة من حياته، وحطم كل الأصنام من قلبه، ورضي بالله وحده رباً، عليه يتوكل، وإليه ينيب، وبه يعتصم، وإليه يحتكم، فلا يبغي غير الله رباً، ولا يتخذ غير الله ولياً، ولا يبتغي غير الله حكماً؟

فليت شعري أي الفريقين خير مقاماً، وأهدى سبيلاً، من عرف الله فلم ينحن لأحد سواه، أم من جحد الله فصار عبداً لأكثر من إله؟ (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟) (يوسف: 39) (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون، ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً؟ الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون) (الزمر: 29).

تمثل الآية المشرك بعبد يملكه أكثر من سيد، وهم شركاء متشاكسون، كل يريد منه غير ما يريده الآخر، ويوجهه إلى غير وجهته، فهو حائر معذب بين إرضاء هذا وذاك.

أما المؤمن فمثله مثل عبد خالص لرجل واحد، لا شركة فيه ولا مشاكسة، فهو يعرف سيده، ويعرف ما يرضيه، وكيف يرضيه.

وإذا كانت الآية في شأن المشرك والموحد، فقد أثبت الواقع أن كل ملحد مشرك، وإن كان الفرق أن المشركين يعبدون مع الله آلهة أخرى والملحدون يعبدون من دون الله آلهة شتى.

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 291 مشاهدة
نشرت فى 12 فبراير 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

308,420