8-اتق الله حيثما كنت

ولَسْتُ أرَى السعادةَ جَمْعَ مَالٍ ٍ ولكِنَّ التّقِيَّ هوَ السعِيد ُ
وتَقْوَى اللهِ خيرُ الزادِ ذُخْــرًا وعنــدَ اللهِ للأتقَى مَزِيدُ
عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ ب:أنَّ رَسولَ اللهِ ص قال:$اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ #.(حسن رواه التِّرمِذيُّ)
ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ ص أنَّه سُئِلَ:ما أَكْثَرُ مَا يُدخِلُ الناسَ الجنّةَ؟ قالَ:$تَقْوَى اللهِ وحُسْنُ الخُلُقِ #(صحيح رواه أحمد وابن ماجه والترمذي).
فهذه الوصية وصيةٌ عظيمةٌ جامعة لحقوق الله وحقوق عباده ، فإنَّ حقَّ الله على عباده أنْ يتقوه حقَّ تقاته ، والتقوى وصيةُ الله للأوّلين والآخرين.قال تعالى:( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ ) (النساء:131).
مَنْ كانَ يعلمُ أنّ المــــوتَ يُدركهُ والقبرَ مسكنُه والبعثَ يُخْرِجُهُ
وأنه بين جــــناتٍ مُزخـــــرفةٍ يومَ القيامةِ أو نــارٍ ستُنْضِجُهُ
فكُلّ شيء سِوَى التقوى به سَمِجٌ ومَن أقـــامَ عليه منه أسْمَجُهُ
ترَى الذي اتخذَ الدنيا له وطـنًا لم يدْرِ أنّ المنايا سوف تُزْعِجُــهُ
 أصلُ التّقوى:
أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه.
وتارة تُضافُ التقوى إلى اسم اللهِ ﻷ ، كقوله تعالى:(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المائدة:96) ، وقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (الحشر:18).
فإذا أضيفت التقوى إليه ـ ، فالمعنى:اتقوا سخطه وغضبه ، وهو أعظم ما يُتَّقَى ، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي ، قال تعالى:(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ) (آل عمران:28) ، وقال تعالى: ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) (المدثر:56) ، فهو سبحانه أهل أنْ يُخشى ويُهاب ويُجلَّ ويُعَظَّمَ في صدورِ عباده حتَّى يعبدوه ويُطيعوه ، لما يستحقُّه من الإجلالِ والإكرامِ ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمة وقوَّةِ البطش ، وشِدَّةِ البأس.
وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه ، كالنار ، أو إلى زمانه ، كيوم القيامة ، كما قال تعالى:(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) (آل عمران:131) ، وقال تعالى:(فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ )(البقرة:24) ، وقال تعالى:(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) (البقرة:281) ، وقال تعالى:(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (المجادلة:9) ، (وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا ) (البقرة:48 و123).
إذا المرءُ لم يلبسْ ثِيابًا من التُقَى تجرَّد عُرْيانًا وإنْ كانَ كاسِيَــا
وخيرُ خِصالِ المرءِ طاعــةُ ربِّهِ ولا خيرَ فيمَنْ كانَ للهِ عاصيَا
 ويدخل في التقوى الكاملة:
فعلُ الواجبات ، وتركُ المحرمات والشبهات ، وربما دَخَلَ فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات ، وتركُ المكروهات ، وهي أعلى درجات التقوى ، قال الله تعالى:(الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْـمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة:1 - 4).
وقال تعالى:(وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْـمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الـْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ ) (البقرة:177).
 مَنِ المتَّقون؟
قيل لـمُعاذ بن جبل:مَنِ المتَّقون؟
قال:«قومٌ اتَّقوا الشِّركَ وعبادةَ الأوثان ، وأخلصوا للهِ بالعبادة».
وقال ابنُ عباس:المتَّقون الذين يَحْذَرون من الله عقوبتَه في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويَرجون رحمَته في التصديق بما جاء به.
وقال الحسن:المتقون اتَّقَوا ما حُرِّم عليهم ، وأدَّوا ما افْتُرِض عليهم.
وقال عُمَر بن عبد العزيز:ليس تقوى الله بصيام النهار ، ولا بقيام الليل ، والتخليطِ فيما بَيْنَ ذلك ، ولكن تقوى اللهِ تركُ ما حرَّم الله ، وأداءُ ما افترضَ الله ، فمن رُزِقَ بعد ذلك خيرًا ، فهو خيرٌ إلى خير.
وقال طلقُ بنُ حبيب:التقوى أنْ تعملَ بطاعةِ الله ، على نورٍ من الله ، ترجو ثوابَ الله ، وأنْ تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله.
وعن أبي الدرداء قال:تمامُ التقوى أنْ يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرَّةٍ ، حتى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلالٌ خشيةَ أنْ يكون حرامًا يكون حجابًا بينه وبينَ الحرام ، فإنَّ الله قد بَيَّن للعباد الذي يُصيرهم إليه فقال:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (الزلزلة:7 - 8) ، فلا تحقرن شيئًا من الخير أنْ تفعله ، ولا شيئًا من الشرِّ أنْ تتقيه.
وقال الحسنُ:ما زالت التقوى بالمتقين حتَّى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام.
وقال موسى بنُ أَعْيَن:المتقون تنزَّهوا عن أشياء من الحلال مخافة أنْ يقعوا في الحرام ، فسماهم الله متقين.
وقال ص:« إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ».(رواه البخاري ومسلم)
وقال ميمونُ بنُ مِهران:المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من الشريكِ الشحيحِ لِشريكه.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى:(اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) (آل عمران:102) ، قال:أنْ يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا ينسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر ».
وشكرُه يدخلُ فيه جميعُ فعل الطاعات.
ومعنى ذكره فلا ينسى:ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها ، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها.
 قد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتناب المحرَّمات:
كما قال أبو هريرةَ وسئل عن التقوى ، فقال:هل أخذتَ طريقًا ذا شوكٍ؟ قالَ:نعم ، قالَ:فكيف صنعتَ؟ قال:إذا رأيت الشوكَ عدلْتُ عنه ، أو جاوزته ، أو قصرت عنه ، قال:ذاك التقوى.
وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال:
خلِّ الذنوب صــــغيرَها وكبـيرَها فهو التُقَى
واصنع كماشٍ فوقَ أرضِ الشوك يحذرُ ما يرَى
لا تحقِرَنَّ صــــــــغيرةً إن الجبالَ مِن الحصَى
وأصلُ التقوى:أنْ يعلم العبدُ ما يُتَّقى ثم يتقي ، قال عونُ بنُ عبد الله:تمامُ التقوى أنْ تبتغي علمَ ما لم يُعلم منها إلى ما عُلِمَ منها.
وذكر معروفٌ الكرخيُّ عن بكر بن خُنيسٍ ، قال:كيف يكون متقيًا من لا يدري ما يَتَّقي؟ ثُمَّ قالَ معروفٌ:إذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي أكلتَ الربا ، وإذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي لقيتكَ امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرك ، وإذا كنت لا تُحسن تتقي وضعتَ سيفك على عاتقك ، وقد قالَ النَّبيُّ ص لمحمد بن مسلمة:$إذا رأيْتَ أُمَّتِي قَدْ اخْتَلَفَتْ ، فَاعْمِدْ إلى سَيْفِكَ فاضْرِبْ بِهِ أُحُدًا# (حسن رواه أحمد وابن ماجه).
معنى ذلك:أن الفتن يجب اعتزالها وعدم الخوض فيها ، فجاءت الوصية النبوية بضرب جبل أحد عند حصول الفتن ، أي:كسره ؛ لئلا يضرب به أحدًا من المسلمين.
 التقوى:هي وصيةُ الله لجميع خلقه ، ووصيةُ رسول الله ص لأمته:
فالتقوى:هي وصيةُ الله لجميع خلقه ، ووصيةُ رسول الله ص لأمته ، وكان صإذا بَعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيرًا »(رواه مسلم).
ولما خطبَ رسولُ اللهِ ص في حَجَّةِ الوداع يومَ النحر وصَّى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم. (رواه مسلم).
ولما وَعَظَ الناسَ ، وقالوا له:كأنَّها موعِظَةُ مودِّع فأوصنا ، قال:$أُوصِيكُمْ بتَقْوَى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعَة #(صحيح رواه أحمد والترمذي وابن ماجه).
ولم يزل السَّلفُ الصالح يتَواصَوْنَ بها ، وكان أبو بكر الصديق ت يقول في خطبته:أما بعد ، فإني أُوصيكم بتقوى الله ، وأنْ تُثنوا عليه بما هو أهلُه ، وأنْ تَخلِطُوا الرغبةَ بالرهبة ، وتجمعوا الإلحافَ بالمسألة ، فإنَّ الله ﻷ أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال:(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (الأنبياء:90).ولمَّا حضرته الوفاةُ ، وعهد إلى عمر ، دعاه ، فوصَّاهُ بوصيةٍ ، وأوَّلُ ما قالَ له:اتَّقِ الله يا عمر.
وكتب عُمَرُ إلى ابنه عبد الله:أما بعدُ ، فإني أُوصيك بتقوى الله ﻷ ، فإنَّه من اتقاه وقاه ، ومَنْ أقرضه جزاه ، ومَنْ شكره زاده ، فاجعل التقوى نصبَ عينيك وجلاء قلبك.
واستعمل عليُّ بن أبي طالب رجلًا على سَريَّة ، فقال له:أُوصيك بتقوى الله الذي لابُدَّ لك من لقائه ، ولا منتهى لك دونَه ، وهو يَملِكُ الدنيا والآخرة.
وكتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز إلى رجلٍ:أُوصيك بتقوى الله ﻷ التي لا يَقبلُ غَيرَها ، ولا يَرْحَمُ إلاَّ أهلَها ، ولا يُثيبُ إلا عليها ، فإنَّ الواعظين بها كثير ، والعاملين بها قليل ، جعلنا الله وإيَّاك من المتقين.
ولما وُلِّي خطب ، فحَمِد الله ، وأثنى عليه ، وقال:أُوصيكُم بتقوى الله ﻷ ، فإنَّ تقوى الله ﻷخَلفٌ من كلِّ شيءٍ ، وليس من تقوى الله خَلَفٌ.
وقال رجل ليونس بن عُبيد:أوصني ، فقال:أُوصيك بتقوى الله والإحسّان ، فإنَّ الله مَعَ الذين اتَّقَوا والَّذينَ هُمْ مُحسِنُون.
وقال له رجل يُريدُ الحجَّ:أوصني ، فقال له:اتَّقِ الله ، فمن اتقى الله ، فلا وحشة عليه.
وقيل لرجل من التابعين عندَ موته:أوصنا ، فقال:أوصيكم بخاتمة سورةِ النحل: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) (النحل:128).
وكتب رجلٌ من السَّلف إلى أخٍ له:أوصيكَ بتقوى الله ، فإنّها أكرم ما أسررتَ ، وأزينُ ما أظهرتَ ، وأفضلُ ما ادَّخرتَ ، أعاننا الله وإيَّاكَ عليها ، وأوجب لنا ولك ثوابَها.
يريدُ المرءُ أن يُعطى مُناه ويـأبى اللهُ إلا مـــــا أرادَ
يقول المرءُ فائدتي ومالي وتقوى اللهِ أفضلُ ما استفادَ
وكتب رجلٌ إلى أخٍ له:أُوصيكَ وأنفسَنا بالتقوى ، فإنَّها خيرُ زادِ الآخِرَةِ والأُولى ، واجعلها إلى كلِّ خيرٍ سبيلَك ، ومِن كلِّ شرٍّ مهرَبك ، فقد تكفل الله ﻷ لأهلها بالنجاة مما يحذرون ، والرزق من حيث لا يحتسبون.
وقال شعبة:كنتُ إذا أردتُ الخروجَ ، قلتُ للحكم:ألك حاجةٌ ، فقال أوصيك بما أوصى به النَّبيُّ ص معاذَ بنَ جبل:$ اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ #.
وقد ثبت عن النَّبيِّ ص:أنَّه كان يقولُ في دعائه:$اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْـهُدَى وَالتُقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى # وفِي رِوَاية:« وَالْعِفَّةَ »(رواه مسلم).
 معنى قوله ص:«اتَّق الله حيثما كُنت»
قوله ص:$ اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ #أي في السرِّ والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه ، وكان النَّبيُّ ص يقول في دعائه:$أسألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ والشَّهَادَة # (صحيح رواه النسائي).
وخشية الله ﻷ في الغيب والشهادة هي من المنجيات فعن سعيد بن يزيد الأنصاري:$أن رجلا قال:يا رسول الله أوصني ، قال:$أوصِيكَ أنْ تَسْتَحِي مِنَ اللهَ ﻷ كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا مِنْ صَالِحي قَوْمِكَ #.(أخرجه أحمد في $الزهد # وإسناده جيد).
وهذا هو السببُ الموجب لخشية الله في السر ، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الله يراه حيث كان ، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره ، وسرِّه وعلانيته ، واستحضر ذلك في خلواته ، أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السِّرِّ ، وإلى هذا المعنى الإشارةُ في القرآن بقوله ﻷ:(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (النساء:1).
والمقصود:أنَّ النَّبيَّ ص لما وصَّى معاذًا بتقوى الله سِرًَّا وعلانيةً ، أرشده إلى ما يُعينه على ذلك وهو أنْ يستحييَ من الله كما يستحيي من رجلٍ ذي هيبةٍ من قومه.ومعنى ذلك:أنْ يستشعِرَ دائمًا بقلبه قُرْبَ الله منه واطلاعه عليه فيستحيي من نظره إليه.
ومن صار له هذا المقام حالًا دائمًا أو غالبًا ، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنَّهم يرونه ، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحِشَ إلا اللممَ.
 أقوال لبعض السلف:
كان بعضُ السَّلف يقولُ لأصحابه:زهَّدَنا الله وإيَّاكم في الحرام زُهْدَ مَنْ قَدَرَ عليه في الخلوة ، فَعَلِم أنَّ الله يراه ، فتركه من خشيته.
وقال الشافعي:أعزُّ الأشياء ثلاثة:الجودُ من قِلَّة ، والورعُ في خَلوة ، وكلمةُ الحقِّ عند من يُرجى ويُخاف.
وكتب ابنُ السَّماك الواعظ إلى أخٍ له:أما بعدُ ، أُوصيكَ بتقوى الله الذي هو نَجِيُّكَ في سريرتك ورقيبُك في علانيتك ، فاجعلِ الله من بالك على كُلِّ حالك في ليلك ونهارك ، وخَفِ الله بقدر قُربه منك ، وقُدرته عليك ، واعلم أنَّك بعينه ليس تَخرُجُ من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى مُلك غيره ، فليَعْظُم منه حَذَرُك ، وليكْثُر منه وَجَلُكَ والسلام.
فما بال العاصي يستر الذنوبَ من خلق الله ، ويُظهرها لله ، إنْ كان يرى أن الله لا يراه ، فهو مشرك به ، وإنْ كان يرى أنه يراه فلِمَ جعله أهونَ الناظرين إليه؟
وكان وهيبُ بن الورد يقول:خَفِ الله على قدر قدرته عليك ، واستحي منه على قدر قُربه منك.
وقال له رجل:عِظني ، فقال:اتَّقِ الله أنْ يكونَ أهونَ الناظرين إليك.
وقال بعضُهم:ابنَ آدم إنْ كنتَ حيث ركبتَ المعصية لم تَصْفُ لك مِن عينٍ ناظرةٍ إليك ، فلما خلوتَ بالله وحده صَفَتْ لك معصيتُهُ ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ، ما أنت إلا أحدُ رجلين:إنْ كنت ظننتَ أنَّه لا يراك ، فقد كفرتَ ، وإنْ كنت علمتَ أنَّه يراك فلم يمنعك منه ما منعك مِن أضعف خلقه لقد اجترأت عليه.
راود بعضُهم أعرابيةً ، وقال لها:ما يرانا إلا الكواكبُ ، قالت:فأين مُكوكِبُها؟
رأى محمد بن المنكدر رجلًا واقفًا مع امرأة يُكلمها فقال:إنَّ الله يراكما سترنا الله وإياكما.
وسُئِل الجنيد بما يُستعانُ على غضِّ البصر ، قال:بعلمك أنَّ نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره.
وكان الإمامُ أحمد يُنشِدُ:
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يومًا فلا تَقُلْ خَلَوتُ ولكِنْ قُـــلْ:عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُلُ سَــــــاعةً ولا أنَّ ما يَخْـــفَى ـ عَلَيْهِ يَغِيبُ

وكان ابنُ السَّماك ينشد:
يا مُدمِنَ الذَّنْبِ أما تَستَحِي والله في الخَلــْوَةِ ثَانِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّــــــكَ إمْهَالُهُ وستْرُهُ طولَ مَسـاوِيكَا
 تقوى الله في السرِّ علامةُ كمالِ الإيمانِ:
تقوى الله في السرِّ علامةُ كمالِ الإيمانِ ، ولها تأثيرٌ عظيم في إلقاء الله لصاحبها الثناءَ في قلوب المؤمنين.قال أبو الدرداء:لِيَتَّقِ أحدُكم أنْ تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر ، يخلو بمعاصي الله ، فيلقي الله له البغضَ في قلوب المؤمنين.
قال سليمانُ التيميُّ:إنَّ الرجل لَيُصيب الذنبَ في السرِّ فيصبح وعليه مذلتُه.
وقال غيره:إنَّ العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبينَ الله ، ثم يجيءُ إلى إخوانه ، فيرون أَثَرَ ذلك عليه.
وهذا مِن أعظم الأدلة على وجودِ الإِله الحقِّ المجازي بذرَّات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة ، ولا يضيع عندَه عملُ عاملٍ ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار ، فالسعيدُ مَنْ أصلح ما بينَه وبينَ الله ، فإنَّه من أصلح ما بينه وبينَ الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق ، ومن التمس محامدَ الناسِ بسخط الله ، عاد حامده من النَّاس له ذامًا.
قال أبو سليمان:الخاسرُ من أبدى للناس صالح عمله ، وبارز بالقبيح من هو أقربُ إليه من حبل الوريد.
ومِنْ أعجب ما رُوي في هذا ما رُوي عن أبي جعفر السائح قال:كان حبيبٌ أبو محمد تاجرًا يَكْرِي الدراهمَ ، فمرَّ ذات يوم ، فإذا هو بصبيان يلعبون ، فقال بعضهم لبعض:قد جاء آكِلُ الربا ، فنكس رأسه ، وقال:يا ربِّ ، أفشيت سرِّي إلى الصبيان ، فرجع فجمع ماله كُلَّه ، وقال:يا ربِّ إنِّي أسيرٌ ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المال فاعتقني ، فلما أصبح ، تصدَّق بالمال كلّه وأخذ في العبادة.
ثم مرَّ ذات يوم بأولئك الصبيان ، فلما رأوه قال بعضهم لبعض:اسكتوا فقد جاء حبيبٌ العابد ، فبكى وقال:يا ربّ أنتَ تذمّ مرَّةً وتحمد مرَّةً ، وكله من عندك.

9-أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا

يا مَن يرَى مَد البعوضِ جناحَها في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الألْيَلِ
ويرَى مناطَ عروقِها في نَحْــرِها والمخَّ في تلك العظامِ النُحَّلِ
ويرَى خرِيرَ الدمِّ في أوْداجِـــها متنقلًا مِن مِفصَلٍ في مِفصَلِ
ويرَى مكانَ الوطءِ مِن أقدامِها في سيرِها وحثيثِها المستعجِلِ
ويرَى ويسمعُ حِسَّ ما هُو دُونَها في قــاعِ بحرٍ مظلِــمٍ متهوِّلِ
امنُنْ عليَّ بتــــوبةٍ تمحــو بهــا ما كان مِنِّي في الزمانِ الأوَّلِ
(ليلٌ ألْيَل:شديد الظلمة ، أوداجها:عروقها ، ناحل ونحيل:هزيل نحيف).
عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ ب:أنَّ رَسولَ اللهِ ص قال:$ اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ #.رواه التِّرمِذيُّ (حسن)
 إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ:
لما كان العبدُ مأمورًا بالتقوى في السرِّ والعلانية مع أنَّه لابُدَّ أنْ يقع منه أحيانًا تفريط في التقوى ، إما بترك بعض المأمورات ، أو بارتكاب بعض المحظورات ، فأمره أنْ يفعل ما يمحو به هذه السيئة وهو أنْ يتبعها بالحسنة ، قال الله ﻷ:(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) (هود:114)
وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ت أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ ص فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ( أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) فَقَالَ الرَّجُلُ:يَا رَسُولَ اللهِ أَلِي هَذَا؟
قَالَ:« لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ».
وفي رواية:فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ:«يَا نَبِيَّ اللهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟»
قَالَ:« بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً».
شكوتُ إلَى إلهِي سوءَ حالِي فقَدْ فاقَتْ مصيباتِي احتمالِي
فقلتُ وقد دنا فجرٌ جـديدٌ ألا رفقــًا إلهي ذا الجــلالِ
فمرَّ بخاطري شيءٌ يقـولُ: ألم تذْكُــرْ ذُنُوبًا كالجبــــالِ
فكم يومٍ عصيتَ الله جهرًا بإتيـــانِ المـحرَّمِ لم تُبــــالِ
وترجــو بعدَها عيشًا هنيئًا بلا تَوبٍ ولا تغييرِ حــــالِ
 وَيلٌ للمُصِرِّين:
وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصَّى به النَّبيُّ ص في هذه الوصية في قوله ﻷ:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْـمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران:133-136)
فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسّان إليهم بالإنفاق ، وكظمِ الغيظ ، والعفو عنهم ، فجمع بين وصفهم ببذل النَّدى ، واحتمال الأذى ، وهذا هو غايةُ حسن الخلق الذي وصى به النَّبيُّص ، ثم وصفهم بأنَّهم:(إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) ولم يُصرُّوا عليها ، فدلَّ على أنَّ المتقين قد يَقَعُ منهم أحيانًا كبائر وهي الفواحش ، وصغائر وهي ظُلمُ النفس ، لكنَّهم لا يُصرُّون عليها ، بل يذكرون الله عَقِبَ وقوعها ، ويستغفرونه ويتوبون إليه منها ، والتوبة:هي تركُ الإصرار على الذنبِ.
ومعنى قوله ﻷ:( ذَكَرُوا اللهَ ) أي:ذكروا عظمته وشِدَّة بطشه وانتقامِه ، وما توعد به على المعصية من العقابِ ، فيوجب ذلك لهم الرجوعَ في الحال والاستغفارَ وتركَ الإصرار ، وقال الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) (الأعراف:201).
وفي(الصحيحين)عن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ ص قَالَ:$ إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا ـ وَرُبَّمَا قَالَ:أَذْنَبَ ذَنْبًا ـ فَقَالَ :رَبِّ أَذْنَبْتُ ـ وَرُبَّمَا قَالَ:أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لِي .
فَقَالَ رَبُّهُ:«أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي».
ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا ـ أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ـ فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ـ أَوْ أَصَبْتُ ـ آخَرَ فَاغْفِرْهُ.
فَقَالَ:« أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي».
ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا ـ وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا ـ قَالَ :قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ ـ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ ـ فَاغْفِرْهُ لِي .
فَقَالَ:« أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟غَفَرْتُ لِعَبْدِي ـ ثَلَاثًا ـ فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ »هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم:عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ ص فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ ﻷ قَالَ:$ أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي.
فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:« أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ».
ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي.
فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:« عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ».
ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي.
فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ »
قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى:« لَا أَدْرِي أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ $اعْمَلْ مَا شِئْتَ ».
$اعْمَلْ مَا شِئْتَ »يعني:ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبًا استغفر منه.
وعن عُقبة بنِ عامر ت أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ ص فقال:يا رسولَ الله أحدُنا يُذنب ، قال:$ يُكْتَبُ عَلَيْهِ # ، قال:ثم يستغفرُ منه ، قال:$ يُغْفَرُ لَهُ ويُتَابُ عَلَيْهِ # ، قال:فيعود فيذنب ، قال:$ يُكْتَبُ عَلَيْهِ # ، قال:ثم يستغفر منه ويتوب ، قال:$ يُغْفَرُ لَهُ ويُتَابُ عَلَيْهِ ، ولا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا #.(إسناده حسن رواه الحاكم).
وعن ابن مسعود تأن النبي ص قال:$ التائبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنبَ لَهُ # (حسن رواه ابن ماجه).
وقيل للحسن:ألا يستحيي أحدُنا من ربه يستغفِرُ من ذنوبه ، ثم يعود ، ثم يستغفر ، ثم يعود.
فقال:ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكم بهذه ، فلا تملّوا من الاستغفار. وروي عنه أنَّه قال:ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين ، يعني:أنّ المؤمن كلما أذنب تاب.
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته:من أحسن منكم فليَحْمَدِ الله ، ومن أساء فليستغفر الله وليتب ، فإنَّه لابُدَّ لأقوامٍ من أنْ يعملوا أعمالًا وظَّفها الله في رقابهم ، وكتبها عليهم.وفي رواية أخرى عنه أنَّه قال:أيُّها الناسُ مَنْ ألمَّ بذنبٍ فليستغفرِ الله وليتب ، فإنْ عاد فليستغفر الله وليتب ، فإنْ عادَ فليستغفر الله وليتب ، فإنَّما هي خطايا مطوَّقة في أعناقِ الرجال ، وإنَّ الهلاك كُلَّ الهلاك في الإصرار عليها.
ومعنى هذا أنَّ العبدَ لابُدَّ أنْ يفعل ما قُدِّرَ عليه من الذنوب كما قال النَّبيُّ ص:$ كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَى ، فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالةَ # (رواه البخاري ومسلم). ولكنَّ الله جعل للعبد مخرجًا مما وقع فيه من الذنوب بالتوبة والاستغفار ، فإنْ فعل ، فقد تخلص من شرِّ الذنب ، وإنْ أصرَّ على الذنب ، هلك.
وعن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ ص قال:$ ارحَمُوا تُرْحَمُوا ، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُم ، وَيْلٌ لأقْماعِ القَوْلِ ، وَيْلٌ لِلْـمُصِرِّينَ الذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وهُمْ يَعْلَمُونَ# (حسن رواه الإمام أحمد) ، وأقماعُ القول من كانت أذناه كالقمع لما يسمع من الحكمة والموعظة الحسنة ، فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه خرج من الأخرى ، ولم ينتفع بشيء مما سمع.
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ وقد يُورِثُ الذلَّ إدمانُها
وتَرْكُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيرٌ لنفْسِكَ عصيانُها
 معنى أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنة:
قوله ص:$ أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنة #قد يُراد بالحسنة:
1- التوبة من تلك السيئة:قال قتادة:قال سلمان:إذا أسأتَ سيئةً في سريرةٍ ، فأحسن حسنة في سريرةٍ ، وإذا أسأتَ سيئةً في علانية ، فأحسن حسنةً في علانية ، لكي تكونَ هذه بهذه.وهذا يحتمِلُ أنَّه أراد بالحسنة التوبة أو أعمَّ منها.
وقد أخبر الله في كتابه أنَّ من تاب من ذنبه ، فإنَّه يُغفر له ذنبه أو يتاب عليه في مواضع كثيرةٍ ، كقوله تعالى:(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) (النساء:17) ، وقوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (النحل:119) ، وقوله:(إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (الفرقان:70) ، وقوله:(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (طه:82) ، وقوله:(إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) (مريم:60) ، وقوله:(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) (آل عمران:135-136).
ويُروى عن ابن مسعودٍ قال:هذه الآية خيرٌ لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها.
وقال ابن عباس في قوله تعالى:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (الحج:78) ، قال:هو سعةُ الإسلامِ ، وما جعل الله لأمة محمد من التوبة والكفارة.
وظاهر هذه النصوص تدلُّ على أنَّ من تاب إلى الله توبةً نصوحًا ، واجتمعت شروطُ التوبة في حقه ، فإنَّه يُقطع بقبولِ الله توبته ، كما يُقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلامًا صحيحًا ، وهذا قولُ الجمهور ، وكلامُ ابن عبدِ البرِّ يدلُّ على أنَّه إجماع.
2- قد يُراد بالحسنة في قول النَّبيِّ ص:$ أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ #ما هو أعمُّ من التوبة ، كما في قوله تعالى:(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) (هود:114)
وعن أبي بكر الصدِّيق ا ، عن النَّبيِّ ص قال:$ مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطهَّر ، ثُمَّ يُصَلِّي ، ثمَُّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ إلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ #ثم قرأ هذه الآية:(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) (إسناده حسن رواه الإمامُ أحمدُ ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابنُ ماجه).
عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَت دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ:رَأَيْتُ النَّبِيَّ ص يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ:«مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (رواه البخاري ومسلم).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَتأَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ص يَقُولُ:« أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟»
قَالُوا:لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ.
قَالَ:«فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا».
(رواه البخاري ومسلم)
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَتقَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ»(رواه مسلم).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَتأَنَّ رَسُولَ اللهِ ص قَالَ:«أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟»قَالُوا:بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ:« إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ؛ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ».(رواه مسلم).
وفي (الصحيحين) أنّ النَّبيِّ ص قال:« مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، ومَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه ِ، ومَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ».
وقال ص:«مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (رواه البخاري ومسلم)
وعن عمرو بن العاص ت ، قال:...فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ ص فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ ،فَبَسَطَ يَمِينَهُ فَقَبَضْتُ يَدِي.
قَالَ:«مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» ، قَالَ:قُلْتُ:أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ:« تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» ، قُلْتُ:أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ:« أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ».(رواه مسلم).
وقال ص:«صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ » (رواه مسلم).
روى الإمامُ أحمد من حديث عُقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ ص قَالَ:«إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ » (سنده جيد).


 ذكرُ الله ﻷيُكفِّرُ الخطايا:
ومما يُكفِّرُ الخطايا ذكرُ الله ﻷ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تأنَّ رَسُولَ اللهِ ص قَالَ:«مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»(رواه البخاري).
وَالْـمُرَاد بِقَوْلِهِص:« وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَد الْبَحْر » الْكِنَايَة عَنْ الْـمُبَالَغَة فِي الْكَثْرَة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تأَنَّ رَسُولَ اللهِ صقَالَ:«مَنْ قَالَ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْـمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» (رواه البخاري ومسلم).
وروى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن أَنَسٌتأَنَّ رَسُولَ اللهِ ص أَخَذَ غُصْنًا فَنَفَضَهُ فَلَمْ يَنْتَفِضْ ثُمَّ نَفَضَهُ فَلَمْ يَنْتَفِضْ ثُمَّ نَفَضَهُ فَانْتَفَضَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ص:« إِنَّ سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».
وسُئِلَ الإمام أحمد عن رجلٍ اكتسب مالًا من شبهةٍ:صلاتُه وتسبيحُهُ يَحُطُّ عنه شيئًا من ذلك؟ فقالَ:إنْ صلَّى وسبَّح يريد به ذَلِكَ ، فأرجو ، قالَ الله تعالى:( خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (التوبة:102).
وقال مالكُ بنُ دينارٍ:$البكاءُ على الخطيئة يحطُّ الخطايا كما تحطُّ الريحُ الورقَ اليابسَ #.
 هل تُكفّرُ الأعمالُ الصالحةُ الكبائرَ والصغائرَ أم لا تكفر سوى الصغائر؟
لا تُكفر سوى الصغائر ، وأما الكبائر ، فلابدَّ لها من التوبة ؛ لأنَّ الله أمر العباد بالتوبة ، وجعل من لم يتب ظالمًا ؛ قال ﻷ:(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (الحجرات:11) واتفقت الأمةُ على أنَّ التوبة فرض ، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ ، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرةً بالوضوء والصلاة ، وأداء بقية أركان الإسلام ، لم يُحْتَجْ إلى التوبة ، وهذا باطلٌ بالإجماع.
وأيضا فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض ، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل ، هذا ما ذكره ابن عبد البرِّ في كتابه (التمهيد) وحكى إجماع المسلمين على ذلك ، واستدلَّ عليه بأحاديث:
منها:قولُ النَّبيِّ ص:«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ»(رواه البخاري ومسلم).
وهذا يدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائضُ.
وعن عثمانت ، عن النَّبيِّ ص قال:« مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» (رواه مسلم).
وقال سلمان:حافظوا على هذه الصلوات الخمس ، فإنَّهنَّ كفَّارات لهذه الجراح ما لم تُصب المقتلة.
قال ابنُ عمر لرجل:أتخاف النارَ أنْ تدخلها ، وتحبُّ الجنَّةَ أنْ تدخلها؟ قال:نعم ، قال:برَّ أمَّك فوالله لَئِنْ ألنتَ لها الكلام وأطعمتها الطَّعام ، لتدخلن الجنَّة ما اجتنبت الموجبات.
وقال قتادة:$إنَّما وعد الله المغفرةَ لمن اجتنب الكبائر#.
ومما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر لا تُكَفَّرُ بدونِ التوبة منها ، أو العقوبة عليها حديثُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ت أَنَّ رَسُولَ اللهِ ص قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:«بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا ، وَلَا تَسْرِقُوا ، وَلَا تَزْنُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ ؛ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ » ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك.(رواه البخاري ومسلم).
وَالْعِصَابَة بِكَسْرِ الْعَيْن:الْجَمَاعَة مِنْ الْعَشَرَة إِلَى الْأَرْبَعِينَ.والْبُهْتَان:الْكَذِب يَبْهَت سَامِعه ، وَخَصَّ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل بِالِافْتِرَاءِ لِأَنَّ مُعْظَم الْأَفْعَال تَقَع بِهِمَا.
وفي روايةٍ لمسلم:«وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ».وهذا يدلُّ على أنَّ الحدود كفارات.
وقوله ص:$ فَعُوقِبَ بِهِ # يعمُّ العقوبات الشرعية ، وهي الحدود المقدَّرةُ أو غير المقدَّرة ، كالتعزيزات ، ويشمل العقوبات القدرية ، كالمصائب والأسقام والآلام ، فإنَّه صحَّ عن النَّبيِّ ص أنَّه قال:$ مَا يُصِيبُ الْـمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ # (رواه البخاري).
وقوله ص:$ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ # صريحٌ في أنَّ هذه الكبائر من لقي الله بها كانت تحتَ مشيئتِهِ ، وهذا يدلُّ على أنَّ إقامةَ الفرائضِ لا تكفِّرها ولا تمحوها ، فإنَّ عموم المسلمين يُحافظون على الفرائض ، لاسيما مَنْ بايعهُم النَّبيُّ ص ، وخرج مِنْ ذلك مَنْ لقي الله وقد تاب منها بالنُّصوص الدَّالَّةِ من الكتاب والسنة على أنَّ من تابَ إلى الله ، تاب الله عليه ، وغفر له ، فبقى مَنْ لم يتُبْ داخلًا تحت المشيئة.
 حال كثير مِنَ الخائفين مِنَ السَّلف:
* قال بعضهم لرجلٍ:هل أذنبت ذنبًا؟ قال:نعم ، قال:فعلمتَ أنَّ الله كتبه عليك؟ قال:نعم ، قال:فاعمل حتّى تعلمَ أنَّ الله قد محاه.
* قال ابن مسعود:إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه في أصل جبل يخاف أنْ يقع عليه ، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبَه كذُبابٍ طار على أنفه ، فقال به هكذا.(رواه البخاري).
* وكانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتهم ، ويخافون أنْ لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك ، فكان ذلك يُوجِبُ لهم شدَّةَ الخوف ، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة.
* قال الحسن:أدركتُ أقوامًا لو أنفق أحدهم ملءَ الأرض ما أمِنَ لِعظم الذنب في نفسه.
* وقال ابنُ عون:لا تَثِقْ بكثرة العمل ، فإنَّك لا تدري أيُقبل منك أم لا ، ولا تأمن ذنوبك ، فإنَّك لا تدري كُفِّرَتْ عنك أم لا ، إنَّ عملك مُغَيَّبٌ عنك كله.
 بشرى للتائبين سيئاتُ التائب توبةً نصوحًا تُكفَّر عنه ، وتبقى له حسناتُه:
كما قال الله تعالى:(حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) (الأحقاف:15-16)
وقال تعالى:(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْـمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الزمر:33-35) ، فلمَّا وصف هؤلاء بالتَّقوى والإحسّانَ ، دلَّ على أنَّهم ليسوا بمصرِّين على الذُّنوب ، بل هم تائبون منها.
إذا كنتَ في نعمةٍ فأرْعَـــها فإن الذنوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وحافِظْ عليها بتقْوَى الإله فإن الإلـاـهَ سريـعُ النِّقَمْ
فإن تُعْطِ نفسَكَ آمــالَـهَـا فعندَ مُناها تَحِــلُّ النِّقَـمْ

 

المصدر: دليل الواعظ
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 75 مشاهدة
نشرت فى 1 ديسمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

313,919