10-خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ

عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ ب:أنَّ رَسولَ اللهِ ص قال:$ اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ #.(حسن رواه التِّرمِذيُّ).
قوله ص:$ وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ # هذا من خصال التقوى ، ولا تَتِمُّ التقوى إلا به ، وإنَّما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه ، فإنَّ كثيرًا من النَّاس يظنُّ أنَّ التقوى هي القيامُ بحقِّ اللهِ دونَ حقوق عباده ، فنصَّ له على الأمر بإحسان العشرة للناس ؛ فإنَّه كان قد بعثه إلى اليمن معلمًا لهم ومفقهًا وقاضيًا ، ومَنْ كان كذلك ، فإنَّه يحتاج إلى مخالقَةِ النَّاسِ بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيرُه ممن لا حاجةَ للنَّاس به ولا يُخالطهم.
وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيامِ بحقوق الله ، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكُلِّيَّة أو التقصير فيها ، والجمعُ بَيْنَ القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جدًا لا يَقوى عليه إلاَّ الكُمَّلُ مِنَ الأنبياءِ والصديقين.
للخيرِ أهْــــلٌ لا تـزالُ وجوهُهُم تدعُـو إليْه
طوبَى لمن جَرَتِ الأمورُ الصالحاتُ عـلى يدَيْه
ما لم يضِقْ خُلُــقُ الفتَى فالأرضُ واسعةٌ عليْه
 فضائل حسن الخلق:
وقد عدَّ الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى ، بل بدأ بذلك في قوله:(أُعِدَّتْ لِلْـمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ ) (آل عمران:133-134).
وقد جعل النَّبيُّ ص حسن الخلق من أحسن خصال الإيمانِ فقال:$أكْمَلُ الـمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أحْسَنُهُمْ خُلُقًا # (إسناده حسن رواه الإمام أحمد وأبو داود).
وعن أسامة بن شريك تقال:قالوا:يا رسولَ الله ، ما أفضلُ ما أعطِي المرءُ المسلمُ؟ قال:$الخُلُقُ الحَسَنُ # (صحيح رواه أحمد ، وأبو داود ، والنَّسائي ، وابنُ ماجه).
وأخبر النَّبيُّ ص أنَّ صاحبَ الخلق الحسن يَبلُغُ بِخلقِه درجةَ الصَّائم القائم لئلا يشتغِلَ المريدُ للتقوى عن حسن الخلق بالصَّوم والصلاة ، ويَظُنُّ أنَّ ذلك يقطعه عن فضلهما ، فروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ ص قال:$إنَّ المؤْمِنَ ليُدرِكَ بحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الصَّائِمِ القَائِمِ # (حسن).
وأخبر ص أنَّ حسن الخُلق أثقلُ ما يُوضَعُ في الميزان ، وأنَّ صاحبَه أحبُّ الناسِ إلى الله وأقربهم من النبيين مجلسًا ، فروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث أبي الدرداء ت ، عن النَّبيِّ ص ، قال:$ما مِنْ شيءٍ يوضَعُ في الميزَانِ أثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ ، وإنَّ صَاحِبََ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ والصَّلَاةِ # (صحيح).
وروى ابن حبان في (صحيحه) من حديث عبدِ الله بن عمرو ب ، عن النَّبيِّ ص قال:$ألَا أخْبِرُكُمْ بأحَبِّكُمْ إلَى اللهِ وأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ #قالوا:بلى ، قال:$أحسَنُكُم خُلُقًا # (حسن).
و سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ص عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ:« تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ » ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ، فَقَالَ:«الْفَمُ وَالْفَرْجُ».(حسن)
وقال النَّبيِّ ص قال:$أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ# (حسن رواه أبو داود).
قال ابن القيم:«وهذه كلها يشملها حسن الخلق».
(أَنَا زَعِيم): أَيْ ضَامِن وَكَفِيل ( بِبَيْتٍ ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْبَيْت هَا هُنَا الْقَصْر.
(فِي رَبَضِ الْجَنَّة ): مَا حَوْلهَا خَارِجًا عَنْهَا تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُون حَوْل الْـمُدُن وَتَحْت الْقِلَاع.
(الْمِرَاء): أَيْ الْجِدَال كَسْرًا لِنَفْسِهِ كَيْلَا يَرْفَع نَفْسه عَلَى خَصْمه بِظُهُورِ فَضْله.
 تفسيرُ السلف لحُسنِ الخُلق:
عن الحسن قال:حُسنُ الخلق:الكرمُ والبذلة والاحتمالُ.
وعن الشعبي قال:حسن الخلق:البذلة والعطية والبِشرُ الحسن ، وكان الشعبي كذلك.
وعن ابن المبارك قال:هو بسطُ الوجه ، وبذلُ المعروف ، وكفُّ الأذى.
وسئل سلامُ بن أبي مطيع عن حسن الخلق ، فأنشد:
تــــــــراهُ إذا ما جئتَهُ متهَلِّلًا كأنَّك تُعطِيـهِ الذي أنتَ سائِلُه
ولَوْ لَم يَكُنْ في كَفِّه غيرُ رُوحِــهِ لَجَـــــــادَ بِها فَليَتَّق الله سـائِلُه
هُو البَحرُ مِنْ أيِّ النَّواحِي أتيتَهُ فَلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِـلُه
وقال الإمامُ أحمد:حُسنُ الخلق أنْ لا تَغضَبَ ولا تحْتدَّ ، وعنه أنَّه قال:حُسنُ الخلق أنْ تحتملَ ما يكونُ من الناس.
وقال إسحاق بن راهويه:هو بسطُ الوجهِ ، وأنْ لا تغضب.
وقال بعضُ أهل العلم:حُسنُ الخلق:كظمُ الغيظِ لله ، وإظهار الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر ، والعفوُ عن الزَّالين إلا تأديبًا أو إقامة حدٍّ ، وكفُّ الأذى عن كلّ مسلم أو معاهَدٍ إلا تغييرَ منكر أو أخذًا بمظلمةٍ لمظلومٍ من غير تعدٍّ.
وخرَّج الحاكم من حديث عُقبة بن عامر الجهني ، قال:قال لي رسولُ الله ص: $يا عُقْبَةُ ، ألَا أخْبِرُكَ بأفْضَلَ أخْلَاقِ أهْلِ الدُنْيَا والآخِرَةِ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ ، وتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ # (حسن).
إن شأن الأخلاق عظيم ، وإن منزلتها لعالية ، فالدين هو الخلق ، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا ، وأحسنهم أخلاقًا أقربهم من النبي يوم القيامة.
أيها الطالبُ فخـرًا بالنسبْ إنـــما النــاسُ لأمٍ ولأبْ
هل تراهـم خُلِقوا مِن فضةٍ أو حديدٍ أو نُحاسٍ أو ذهبْ
أو ترى فضْلَهُمو في خَلْقهم هل سوى لحمٍ وعظمٍ وعصبْ
إنما الفضلُ بعقلٍ راجــــحٍ وبأخـــــلاقٍ كـــرامٍ وأدبْ
ذاك مَــن فاخَرَ في الناسِ به فاقَ مَـن فاخَـر منهـم وغـلبْ
 نصوص الشرع تحث على محاسن الأخلاق:
لقد تظاهرت نصوص الشرع في الحديث عن الأخلاق ، فحثّت وحضّت ورغّبت في محاسن الأخلاق ، وحذّرت ونفّرت ورهّبت من مساوئ الأخلاق ، بل إن رسول الله ص بيّن أن الغاية من بعثته إنما هي لإتمام مكارم الأخلاق ، فقال:«إنَّمَا بُعِثْتُ لأتَـمِّمَ صَالِحَ الأخلاقِ» (صحيح رواه الحاكم وغيره).
وقال الله ﻷ لنبيهص:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) ، قال ابن عباس ومجاهد:لعلى دين عظيم ، وقال الحسن:هو آداب القرآن.وسئلت عائشة لعن خلق النبي فقالت:«كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ». (رواه مسلم و أحمد و أبو داود).
وقال ﻷعن عباده:(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْـجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا )(الفرقان:63).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ تقَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صأَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا» (رواه البخاري ومسلم)
وعَنْه تٍ قَالَ:«خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ص عَشْرَ سِنِينَ وَاللهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا »(رواه البخاري ومسلم).
وفي رواية:«خَدَمْتُ النَّبِيَّ ص عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ ، وَلَا: لِمَ صَنَعْتَ ، وَلَا: أَلَّا صَنَعْتَ »(رواه البخاري).
وفي رواية:« فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَاللهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا ، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ :لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا »(رواه البخاري ومسلم).
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِتأَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ:« مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْـمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ »(صحيح رواه الترمذي).
( الْفَاحِشَ)الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِمَا يَكْرَهُ سَمَاعَهُ أَوْ مَنْ يُرْسِلُ لِسَانَهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي.
(الْبَذِيءُ ) هُوَ الْـمُتَكَلِّمُ بِالْفُحْشِ وَالْبَذَاءُ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ.
وَمِنْ الْـمُقَرَّرِ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مَبْغُوضًا للهِ لَيْسَ لَهُ وَزْنٌ وَقَدْرٌ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لَهُ يَكُونُ عِنْدَهُ عَظِيمًا ، قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ( فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) (الكهف:105).وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ:« كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ:سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ » (رواه البخاري).
وعَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ تقَالَ:«سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ص عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ:«الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ »(رواه مسلم).
قَالَ الْعُلَمَاء:الْبِرّ يَكُون بِمَعْنَى الصِّلَة ، وَبِمَعْنَى اللُّطْف وَالْمَبَرَّة وَحُسْن الصُّحْبَة وَالْعِشْرَة ، وَبِمَعْنَى الطَّاعَة ، وَهَذِهِ الْأُمُور هِيَ مَجَامِع الْخُلُق.
وَمَعْنَى (حَاكَ فِي صَدْرك ) أَيْ تَحَرَّكَ فِيهِ ، وَتَرَدَّدَ ، وَلَمْ يَنْشَرِح لَهُ الصَّدْر ، وَحَصَلَ فِي الْقَلْب مِنْهُ الشَّكّ ، وَخَوْف كَوْنه ذَنْبًا.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ تقَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:« أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ»(صحيح رواه الترمذي).
(عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ )أَيْ إِلَى النَّاسِ.( هَيِّنٍ ) أَيْ تُحَرَّمُ عَلَى كُلِّ سَهْلٍ طَلْقٍ حَلِيمٍ لَيِّنِ الْجَانِبِ (سَهْلٍ) هُوَ ضِدُّ الصَّعْبِ ، أَيْ سَهْلِ الْخُلُقِ كَرِيمِ الشَّمَائِلِ.
 حسن الخلق يقوم على أربعة أمور:وهي الصبر والعفّة والشجاعة والعدل.
فالصبر يحمل صاحبه على الاحتمال وكظم الغيظ وكفّ الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.
والعفة تحمله على اجتناب الرذائل من القول والفعل ، وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير ، وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة.
والشجاعة تحمله على عزّة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشِّيَم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته ، وتحمله على كظم الغيظ والحلم ؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عِنَانها ، ويكبحها بلِجَامِها عن النزغ والبطش ، كما أنه ليس الشديد بالصرعة ، أي:ليس الشجاع الذي يصرع الناس ، إنما الشديد الذي يملك ويمسك نفسه عند الغضب.
والعدل يحمله على الإنصاف وعدم الظلم وتوسّطه بين طرفي الإفراط والتفريط ، فيحمله على وسطية التصرّف بين التهوّر والجبن والإسراف والإقتار ، وبين الغضب والمهانة وسقوط النفس.فهذه الأركان الأربعة هي منشأ الأخلاق الحسنة الفاضلة.
 منشأ الأخلاق السافلة على أربعة أركان:الجهل والظلم والشهوة والغضب.
فالجهل يرى صاحبه الحسن في صورة القبيح ، والقبيح حسن ، والكمال نقصًا ، والنقص كمالًا ، يقول القائل:
فلا تصحبْ أخَـا الجهلِ وإيــــاكَ وإيـــاهُ
فكـم مِن جـاهلٍ أرْدَى حَلِيمًـا حين آخـاهُ
يُقـاس المـــــرءُ بالْمـرءِ إذا ما الْمــرءُ ماشاهُ
والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه ، فيغضب في موضع الرضا ، ويرضى في موضع الغضب ، ويجهل في موضع الأناة ، ويبخل في موضع البذل.
والشهوة تحمله على الحرص والشحّ والبخل وعدم العفّة والنّهبة والجشع والذل والدناءات.
وأما الغضب فيحمله على الكبر والحقد والحسد والعداوة والسَّفَه.
 هل يمكن تغيّر الأخلاق من قبيح إلى حسن؟
الجواب:إن الناس على رأيين:الأول:أنها لا تتغير ، والثاني:أنها تتغيّر ، وهذا هو الصحيح ؛ لأن الأخلاق على ضربين:منها ما هو جِبِلِّي ، ومنها ما هو اكتسابي يأتي بالتدريب والممارسة والمحاكاة ، بل كيف يُنكَر عدم تغيّر خلق الإنسان وتغيّر خلق الحيوان البَهِيم ممكن؟! فالبازِيّ يُنقَل من الاستِيحاش إلى الأُنس ، والكلب من شَرَهِ الأكل إلى التأدّب والإمساك عن الصيد بعد إمساكه ، والفرس من الجِمَاح إلى السلاسة.فإذا كان هذا شأن الحيوان فأجدر بالإنسان أن يغيّر خلقه.
 أسباب اكتساب حسن الخلق:
أولًا:سلامة العقيدة:فشأن العقيدة عظيم وأمرها جليل ، فكل انحراف في السلوك إنما هو ناتج عن خلل في العقيدة ؛ فآداب الظواهر عنوان آداب البواطن ، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر ؛ فالناس إذا صحّت عقائدهم زَكَت نفوسهم ، واستقامت أخلاقهم تبعًا لذلك.
ثانيًا:الدعاء:فهذا أعظم الناس أخلاقًا ، وأكملهم صفاتًا ، يدعو ربه أن يرزق حسن الخلق ، فمن دعاء النبي ص:«اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ لِي إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ »(صحيح رواه أبو داود).
ثالثًا:المجاهدة:فمجاهدة النفس على حسن الخلق وكبحها عن سيئها يجعلها تتحلّى بأحسن الأخلاق ، ويقرّب عون الله ، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْـمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).والمجاهدة لا تعني أن يجاهد العبد نفسه مرّة أو مرّتين ، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت ، قال تعالى:(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )(الحجر:99).ومن ذلك المحاسبة بنقد النفس إذا ارتكبت أخلاقًا ذميمة ، وحملها على عدم العودة.
رابعًا:التفكّر في عواقب سوء الخلق بتأمّلٍ فيما يجلبه من الأسف الدائم والهمّ اللازم والحسرة والندامة والبُغض في قلوب الخلق.
خامسًا:إنّ أعظم سبب لحسن الخلق الترفّع عن السِّباب.واسمع لهذه النماذج العجيبة في تحمّل السِّباب والإعراض عن الجاهلين.
وخرج عمر بن عبد العزيز ليلة في السحر فَعَثَر في رجل نائم على الأرض ، فقال له الرجل:أمجنون أنت؟! قال عمر:لا ، فَهَمَّ الحرسُ به ، فقال عمر:اتركوه ؛ سألني فأجبته.
وقال الأصمعي:بلغني أن رجلًا قال لآخر:والله لئن قلت واحدة لتسمعنّ عشرًا ، فقال الآخر:لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة.
واسمع إلى الشافعي يقول:
إذا سبّنـي نَذْلٌ تزايَدتُ رِفْعَة وما العَيبُ إلا أن أكون مُسَابِبُه
ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزةً لمكّنْتُهـا مِـن كُـلِّ نَذْلٍ تُحَـارِبُه
وآخر يقول:
ولست مُشاتِمًا أحدًا لأني رأيتُ الشتمَ مِن عِيّ الرجالِ
إذا جعل اللئيمُ أباه نَصْبًا لشـــاتِمِه فدَيْتُ أبـــي بمالِي

11-احفَظِ الله يَحْفَظْكَ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ:كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ص يَوْمًا فَقَالَ:« يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ:احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ »(صَحيحٌ رواه الترمذيُّ).
هذا الحديث رواه الإمامُ أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ:«كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ص فَقَالَ:« يَا غُلَامُ ـ أَوْ يَا غُلَيِّمُ «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ» فَقُلْتُ:« بَلَى ».
فَقَالَ:« احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (إسناده صحيح).
وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهمِّ أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء:تدبرتُ هذا الحديثَ ، فأدهشني وكِدتُ أطيشُ ، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث ، وقِلَّةِ التفهم لمعناه.
 معنى :« احفظِ الله »:
قوله ص:$ احْفَظْ اللهَ # يعني:احفظ حدودَه ، وحقوقَه ، وأوامرَه ، ونواهيَه ، وحفظُ ذلك:هو الوقوفُ عندَ أوامره بالامتثال ، وعند نواهيه بالاجتنابِ ، وعندَ حدوده ، فلا يتجاوزُ ما أمر به ، وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك ، فهو مِنَ الحافظين لحدود الله الذين مدحهمُ الله في كتابه ، وقال ﻷ:( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) (ق:32-33) وفُسِّر الحفيظ ها هنا: بالحافظ لأوامرِ الله ، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
 حفظ الصلاة:
ومن أعظم ما يجبُ حِفظُه من أوامر الله الصَّلاةُ ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها ، فقال:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) $البقرة:238# ومدح المحافظين عليها بقوله:( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) (المعارج:34).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍوتعَنْ النَّبِيِّ ص أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ:«مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ » (حسن رواه أحمد).
شعــــبٌ بغــيرِ عقيــــدةٍ وَرَقٌ تُــذَرِّيهِ الريـاحْ
من خانَ (حيَّ على الصلاةِ) يخونُ حيَّ على الكِفاحْ
 حفظ الطهارة:
الطهارة مفتاحُ الصلاة ، وقد قال النَّبيُّ ص:$لا يُحافِظُ على الوضوء إلاَّ مؤمن # (صحيح رواه أحمد).
 حفظ الأيمان:
وممَّا يُؤمر بحفظه الأيمانُ ، قال الله ﻷ:(واحْفَظوا أَيْمَانَكُم ) (المائدة:89) ، فإنَّ الأيمان يقع الناس فيها كثيرًا ، ويُهْمِل كثيرٌ منهم ما يجب بها ، فلا يحفظه ، ولا يلتزمه.
 حفظُ الرأس والبطن:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ تقَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«اسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ » ، قَالَ:قُلْنَا:«يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا نَسْتَحْيِي ، وَالْحَمْدُ للهِ ».
قَالَ:« لَيْسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ».(حسن رواه الترمذي).
وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظُ السَّمع والبصر واللسان من المحرمات ، وحفظُ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عَنِ الإصرار على محرم.
قال الله ﻷ:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ) $البقرة:235 # ، وقد جمع الله ذلك كُلَّه في قوله:(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا)(الإسراء:36).ويتضمن أيضًا حفظُ البطنِ من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب.
لسانــك لا تذْكــرْ به عــورةَ امـرءٍ فكُلّكَ عوراتٌ وللنـــاسٍ ألسُنُ
وعينُــك إن أبدتْ إليــك معائبـــًا فصُنْها وقُلْ يا عينُ للناسِ أعــيُنُ
وعاشِر بمعروفٍ وسامِحْ مَن اعتدَى وفَارِقْ ولَكِنْ بالتي هــي أحسنُ
**********
كل الحوادثِ مبدؤُها مِـــن النظــــرِ ومعظمُ النارِ مِن مُستصغَرِ الشررِ
كم نظرةٍ فتَكَتْ في قلــــبِ صاحبِها فتْكَ السهــامِ بلا قوسٍ ولا وترِ؟
والعبدُ مــادامَ ذا عــــيْنٍ يقَلّبُـــها في أعْيُنِ الغِيدِ موقوفٌ على الخطرِ
يُسِر مُقْلَتَــــهُ مــا ضَـــرَّ مُهْجَتَـــهُ لا مرحبــًا بسرورٍ عــادَ بالضررِ
(الغَيْداء المرأَة المتثنية في مَشْيِها ، والغادَةُ الفتاة الناعمة اللينة).
*********
تفنى اللذاذةُ ممنْ نالَ لذتَهـــا مِنَ الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ
تُبْقِى عواقبَ سُوءٍ مِن مَغبّتِها لاخيرَ في لذةٍ مِن بعدِهـا النارُ
*********
وسمعك صُنْ عــن سَمَاعِ القَبيـــحِ كصَــوْنِ اللسانِ عن النطــقِ بهْ
فإنَّكَ عنــــدَ ســـــماعِ القبيـــــحِ شـــريكٌ لقـــائـــلِه فانْتَبِــــهْ


 حفظ اللسانُ والفرجُ:
ومِنْ أعظم ما يجبُ حفظُه من نواهي الله ﻷ:اللسانُ والفرجُ ، وفي حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ ص قال:$ مَنْ حَفِظَ َ بَيْنَ لَـحْيَيْهِ ، ومَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، دَخَلَ الْـجَنَّةَ # (صحيح رواه الحاكم).
احْفَــــظْ لسانَك أيهــــــا الإنسانُ لا يلـــدَغَنَّكَ إنـــه ثعبــــــانُ
كـــم في المقـــابرِ مِـــنْ قَتيلِ لسانهِ كانتْ تَهَـــابُ لقاءَهُ الشجعــانُ
وأمَر الله ﻷ بحفظ الفروج ، ومدحَ الحافظين لها ، فقال:( قُلْ لِلْـمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )(النور:30)، وقال:(وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (الأحزاب:35) ، وقال:( قَدْ أَفْلَحَ الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) إلى قوله:( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (المؤمنون:1-6).
عَفّوا تعفّ نساؤُكم في المحْرمِ وتجنَّبُوا مــا لا يليــــقُ بمسلمِ
إن الزّنَــى دَيْنٌ فــإنْ أقرضْتَهُ كانَ الوفَا مِنْ أهْـلِ بيتِكَ فاعلمِ
مَنْ يَزْنِ في قومٍ بألفَيْ دِرْهَــمٍ في بيتهِ يُزنَى برُبْعِِِِِ الدرهــــــمِ
يا هاتكًا حَرَمَ الرجـالِ وتابعًا طُرُقَ الفسـادِ تعيش غيرَ مُكَرَّمِ
لو كنتَ حرًا من سلالةِ ماجدٍ مـــا كنت هتَّاكًا لحرمةِ مسـلمِ
 الجزاء من جنس العمل:
قوله ص:$ يَحْفَظْكَ # يعني:أنَّ من حفظَ حدود الله ، وراعى حقوقَه ، حفظه الله ، فإنَّ الجزاء من جنس العمل ، كما قال تعالى:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) $البقرة:40# ، وقال:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) (البقرة:152) ، وقال:( إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ) (محمد:7).
 حفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
النوع الأول:حفظه له في مصالح دنياه ، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله ، قال الله ﻷ:( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (الرعد:11).قال ابن عباس:هم الملائكة يحفظونَهُ بأمرِ الله ، فإذا جاء القدر خَلُّوْا عنه.
وقال عليٌّ ت:إنَّ مع كلِّ رجلٍ ملكين يحفظانه مما لم يقدرْ فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينَه ، وإنَّ الأجل جُنَّةٌ حصينة.
وقال مجاهد:ما مِنْ عبدٍ إلاَّ له مَلَكٌ يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامِّ ، فما من شيء يأتيه إلا قال:وراءك ، إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه.
عن ابْنَ عُمَرَتقال:لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ ص يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ:« اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي ، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي ، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي ، وَمِنْ فَوْقِي ، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»(صحيح رواه أبو داود).
قَالَ أَبُو دَاوُد قَالَ وَكِيعٌ يَعْنِي الْخَسْفَ
( مِنْ بَيْن يَدَيَّ ):أَيْ أَمَامِي ، ( أَنْ أُغْتَال):بِصِيغَةِ الْمَجْهُول:أَيْ أُوخَذ بَغْتَة وَأَهْلَكَ غَفْلَة (قَالَ وَكِيع:يَعْنِي الْخَسْف):أَيْ يُرِيد النَّبِيّ ص بِالِاغْتِيَالِ مِنْ الْجِهَة التَّحْتَانِيَّة: الْخَسْف.
قَالَ فِي الْقَامُوس:خَسَفَ اللهُ بِفُلَانٍ الْأَرْض غَيَّبَهُ فِيهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ:عَمَّ الْجِهَات لِأَنَّ الْآفَات مِنْهَا وَبَالَغَ فِي جِهَة السُّفْل لِرَدَاءَةِ الْآفَة.
 احفظ الله في صغرك يحفظْكَ في كبَرك:
ومَنْ حفظ الله في صباه وقوَّته ، حفظه الله في حال كبَره وضعفِ قوّته ، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقله.
كان بعض العلماء قد جاوز المئة سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّتِه وعقله ، فوثب يومًا وثبةً شديدةً ، فعُوتِبَ في ذلك ، فقال:هذه جوارحُ حفظناها عَنِ المعاصي في الصِّغر ، فحفظها الله علينا في الكبر.
وعكس هذا أنَّ بعض السَّلف رأى شيخًا يسأل الناسَ ، فقال:إنَّ هذا ضيَّع الله في صغره ، فضيَّعه الله في كبره.
 وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحًا:
وقد يحفظُ الله العبدَ بصلاحه بعدَ موته في ذريَّته كما قيل في قوله تعالى:( وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحًا)(الكهف:82):أنَّهما حُفِظا بصلاح أبيهما.
قال عمرُ بن عبد العزيز:ما من مؤمن يموتُ إلاَّ حفظه الله في عقبه وعقبِ عقبه.
ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله ، فإنَّ الله يحفظه في تلك الحال ، وفي (مسند الإمام أحمد عَنْ حُمَيْدٍ بْنَ هِلَالٍ قَالَ:«كَانَ رَجُلٌ مِنْ الطُّفَاوَةِ طَرِيقُهُ عَلَيْنَا فَأَتَى عَلَى الْحَيِّ فَحَدَّثَهُمْ ، قَالَ:« قَدِمْتُ الْـمَدِينَةَ فِي عِيرٍ لَنَا فَبِعْنَا بِيَاعَتَنَا ثُمَّ قُلْـتُ لَأَنْطَلِقَنَّ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَلَآتِيَنَّ مَنْ بَعْدِي بِخَبَرِهِ ، قَالَ:فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ص فَإِذَا هُوَ يُرِينِي بَيْتًا.
قَالَ:«إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِيهِ فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ الْــمُسْلِمِينَ وَتَرَكَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَنْزًا لَهَا وَصِيصِيَتَهَا كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا ، قَالَ:« فَفَقَدَتْ عَنْزًا مِنْ غَنَمِهَا وَصِيصِيَتَهَا فَقَالَتْ:يَا رَبِّ إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِي وَصِيصِيَتِي وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي »
قَالَ:فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ص يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا لِرَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى.قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا » (إسناده صحيح).
والصيصية:هي الصِّنارة التي يُغزل بها ويُنسج.
فمن حفظ الله حَفِظَهُ الله من كُلِّ أذى.قال بعضُ السَّلف:من اتقى الله ، فقد حَفِظَ نفسه ، ومن ضيَّع تقواه ، فقد ضيَّع نفسه ، والله الغنىُّ عنه.
ومن عجيب حفظِ الله لمن حفظه أنْ يجعلَ الحيوانات المؤذية بالطبع حافظةً له من الأذى ، كما جرى لِسَفِينةَ مولى النَّبيِّ ص حيث كُسِرَ به المركبُ ، وخرج إلى جزيرة ، فرأى الأسدَ ، فجعل يمشي معه حتَّى دلَّه على الطريق ، فلمَّا أوقفه عليها ، جعل يُهَمْهِمُ كأنَّه يُوَدِّعُهُ ، ثم رجع عنه.(رواه الحاكم وصححه).
ورؤي إبراهيمُ بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حَيَّةٌ في فمها طاقةُ نَرجِس ، فما زالت تذبُّ عنه حتَّى استيقظ.
وعكسُ هذا أنَّ من ضيع الله ، ضيَّعهُ الله ، فضاع بين خلقه حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم ، كما قال بعض السَّلف:إني لأعصي الله ، فأعرِفُ ذلك في خُلُقِ خادمي ودابَّتي.
النوع الثاني من الحفظ ، وهو أشرف النوعين:حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه ، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة ، ومن الشهوات المحرَّمة ، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته ، فيتوفَّاه على الإيمان.
وعن أبي هريرة تعن النَّبيِّ ص أنَّه أمره أنْ يقولَ عندَ منامه:«بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ». (رواه البخاري ومسلم).
وفي حديث عمر:أنَّ النَّبيَّ ص علمه أنْ يقول:$اللهُمَّ احْفَظْنِي بالإسْلَامِ قَائِمًا ، واحْفَظْنِي بالإسْلَامِ قَاعِدًا ، واحْفَظْنِي بِالإسْلَامِ رَاقِدًا ، ولا تُشَمِّتْ فيَّ عَدُوًّا ولَا حَاسِدًا» (حسن رواه ابن حبان).
وكان النَّبيُّ ص يودِّع من أراد سفرًا ، فيقول:$أسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكََ وأمَانَتَكَ وخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ # ، وكان يقول:$ إنَّ اللهَ إذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ #.(صحيح رواه النَّسائي وغيره).
وفي الجملة ، فالله ﻷ يحفظُ المؤمن الحافظ لحدود دينَه ، ويحولُ بينَه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها ، وقد يكونُ كارهًا له ، كما قال في حقِّ يوسُف ؛:(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْـمُخْلَصِينَ) (يوسف:24).
قال ابن عباس في قوله تعالى:(أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (الأنفال:24) ، قال:يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
وقال الحسن ـ عن أهل المعاصي ـ:«هانوا عليه ، فعَصَوْه ، ولو عزُّوا عليه لعصمهم ».
وقال أبو سليمان الداراني:$ هانوا عليه فتركهم وعصوا ، ولو كرموا عليه منعهم عنها #.
 احفظ الله تجده تجاهك:
قوله ص:$ احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ # ، وفي رواية:$ أمامك # معناه:أنَّ مَنْ حَفِظَ حُدودَ الله ، وراعى حقوقه ، وجد الله معه في كُلِّ أحواله حيث توجَّه يَحُوطُهُ وينصرهُ ويحفَظه ويوفِّقُه ويُسدده فـ (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) (النحل:128)
قال قتادة:« من يتق الله يكن معه ، ومن يكن الله معه ، فمعه الفئة التي لا تُغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل ».
كتبَ بعضُ السَّلف إلى أخٍ له:«أمَّا بعد ، فإنْ كان الله معك فمن تخاف؟ وإنْ كان عليك فمن ترجو؟».
وهذه المعيةُ الخاصة هي المذكورةُ في قوله تعالى لموسى وهارون:( لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) (طه:46) ، وقول موسى:( إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) (الشعراء : 62). وفي قول النَّبيِّ ص لأبي بكر وهما في الغار:$ ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثالثُهُما؟ لا تحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا # (رواه البخاري ومسلم).
فهذه المعيةُ الخاصةُ تقتضي النَّصر والتَّأييدَ ، والحفظ والإعانة بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى:( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (المجادلة:7).
فإنَّ هذه المعية تقتضي علمَه واطِّلاعه ومراقبته لأعمالهم ، فهي مقتضيةٌ لتخويف العباد منه ، والمعية الأولى تقتضي حفظ العبد وحياطَتَه ونصرَه ، فمن حفظ الله ، وراعى حقوقه ، وجده أمامَه وتُجاهه على كُلِّ حالٍ ، فاستأنس به ، واستغنى به عن خلقه.
وقيل لآخر:نراكَ وحدكَ؟ فقال:من يكن الله معه ، كيف يكونُ وحده؟
 تعرَّف إلى الله في الرَّخاء ، يعرفكَ في الشِّدَّةِ:
قوله ص:$ تَعَرَّفْ إلَى اللهِ في الرَّخَاءِ ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ # يعني:أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله ، وحَفِظَ حدودَه ، وراعى حقوقه في حال رخائه ، فقد تعرَّف بذلك إلى الله ، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة ، فعرفه ربَّه في الشدَّة ، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء ، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة ، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه ، ومحبته له ، وإجابته لدعائه.
فمعرفة العبد لربه نوعان:
أحدُهما:المعرفةُ العامة: وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان ، وهذه عامةٌ للمؤمنين.
والثاني:معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية ، والانقطاع إليه والأُنس به ، والطمأنينة بذكره ، والحياء منه ، والهيبة له ، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون ، كما قال بعضهم:مساكينُ أهلُ الدُّنيا ، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها ، قيل له:وما هو؟ قال:معرفةُ الله ﻷ.
وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ:أحبُّ أنْ لا أموتَ حتّى أعرفَ مولاي ، وليس معرفتُه الإقرار به ، ولكن المعرفة التي إذا عرفته استحييت منه.
ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان:
الأول:معرفة عامة:وهي علمه سبحانه بعباده ، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه ، كما قال:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) $ق:16# ، وقال:( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ) (النجم:32).
والثاني:معرفة خاصة:وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه ، وإجابةَ دعائه ، وإنجاءه من الشدائد ، وهي المشار إليها بقوله ص فيما يحكى عن ربِّه:$وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ »(رواه البخاري).
ولما هرب الحسنُ من الحجاج دخلَ إلى بيت حبيب أبي محمد ، فقال له حبيب:
يا أبا سعيد ، أليس بينك وبينَ ربِّك ما تدعوه به فيَستركَ مِنْ هؤلاء؟ ادخل البيتَ ، فدخل ، ودخل الشُّرَطُ على أثره ، فلم يرَوْهُ ، فذُكِرَ ذلك للحجاج ، فقال:«بل كان في البيت ، إلا أنَّ الله طَمَسَ أعينهم فلم يروه ».
فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه ، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدَّته.
قال الضحاك بن قيس:اذكروا الله في الرَّخاء ، يذكركُم في الشِّدَّة ، فإنَّ يونس ؛كان يذكُرُ الله تعالى ، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت ، قال الله ﻷ:( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (الصافات:143-144) ، وإنَّ فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله ، فلما أدركه الغرق ، قال:آمنتُ ، فقال الله تعالى:( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ ) (يونس:91).
وقال رجل لأبي الدرداء:أوصني ، فقال:اذكر الله في السرَّاء يذكُرْك الله ﻷ في الضَّرَّاء.
وعنه أنَّه قال:ادعُ الله في يوم سرَّائك لعله أنْ يستجيب لك في يوم ضرَّائك.
وأعظمُ الشدائد التي تنْزل بالعبد في الدنيا الموتُ ، وما بَعده أشدُّ منه إنْ لم يكن مصيرُ العبد إلى خيرٍ ، فالواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة ، قال الله ﻷ:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (الحشر:18-19).
فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه ، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده ، ذكره الله عندَ هذه الشدائد ، فكان معه فيها ، ولَطَفَ به ، وأعانه ، وتولاَّه ، وثبته على التوحيد ، فلقيه وهو عنه راضٍ.ومن نسيَ الله في حال صحته ورخائه ، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه ، نسيه الله في هذه الشدائد ، بمعنى أنَّه أعرض عنه ، وأهمله.
فإذا نزل الموتُ بالمؤمنِ المستعدِّ له ، أحسن الظنَّ بربه ، وجاءته البُشرى مِنَ اللهِ ، فأحبَّ لقاءَ الله ، وأحبَّ الله لقاءه ، والفاجرُ بعكس ذلك ، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ ، ويستبشر بما قدمه مما هو قادمٌ عليه ، ويَنْدَمُ المفرطُ ، ويقول:(يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) (الزمر:56).
كَم نطلبُ اللهَ في خـــيرٍ يَحِلُّ بنــا فإنْ تَــولَّتْ بلايَانَا نَسِـــــينَاهُ
نرجوه في البـحرِ أن يَرعَى سفينتَنا فإنْ رجَعْنَا إلى الشاطِي عصَيْناهُ
ونركـبُ الجوَّ في أمْــــنٍ وفي دَعَةٍ فما سقطْنـــا لأنَّ الحـــافظَ اللهُ
ننساهُ بعد نجاحٍ في امتحـــانِ غدٍ وإن رسَــــبْنَا وأكْمَلْنَا دعَوْناهُ
عُمْيٌ عن الذكــرِ والأياتُ تندبُنَا لو كلَّم الذكرُ جُلْـمُودًا لأحـياهُ
(الجُلْمود: الصخر).
ختم آدمُ بن أبي إياس القرآن وهو مُسَجَّى للموت ، ثم قال:بحُبِّي لك ، إلا رفقتَ بي في هذا المصرع؟ كنت أؤمِّلُك لهذا اليوم ، كنتُ أرجوكَ ، لا إله إلاَّ الله » ، ثم قُضِى.
ولما احتُضِرَ زكريا بنُ عديٍّ ، رفع يديه ، وقال:اللهمَّ إنِّي إليك لمشتاقٌ.
وقال عبدُ الصمد الزاهد عند موته:سيدي لهذه الساعة خبَّأتك ، ولهذا اليوم اقتنيتُك ، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بك.
قال قتادة في قول الله ﻷ:( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) (الطلاق:2) قال:من الكرب عندَ الموت.
وقال عليُّ بن أبي طلحَة ، عن ابن عباس في هذه الآية:يُنجيه من كُلِّ كَربٍ في الدنيا والآخرة.
وقال زيدُ بن أسلم في قوله ﻷ:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) (فصلت:30) الآية.قال:يُبشر بذلك عند موته ، وفي قبره ، ويوم يُبعث ، فإنَّه لفي الجنة ، وما ذهبت فرحة البِشارة من قلبه.


 

المصدر: دليل الواعظ
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 89 مشاهدة
نشرت فى 1 ديسمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

313,895