عشت في أحشائها تسعة أشهر، ضمني رحمها قبل أن يضمني صدرها، أرضعتني بلبنها وحنانها، كانت تفهم سبب بكائي وتحاول اسكاتي وإرضائي، تحاول مداعبتي وملهاتي لتبعدني عن أسباب ضيقي التى كانت تعتبر أسباباً تافهتاً من وجهة نظر الكبار.. كنت عندما أمرض أو يصيبني مكروة يخرج قلب أمي هلعاً وخوفاً علي.. استمر القلق يسكن قلب أمي حتى عندما كبرت وتخطيت مرحلة الطفولة إلى مرحلة الفتاة المراهقة، ثم مرحلة الفتاة الشابة، حتى مرحلة السيدة الرشيدة.. وكان قلب أمي يرعاني خلال كل مراحلي الحياتية..
لعلي اتعبتها واغضبتها كثيراً خلال طفولتي.. ولعلي اتهمتها بأنها لا تحبني وتفضل أخوتي علي خلال طيش وسذاجة مراهقتي.. ولعلي أهملتها وانشغلت بدراستي وعملي عن مراعاتها ومشاركة مشاكلها خلال مرحلة شبابي.. ولكن اتمنى أن أكون قد أسعدت قلب أمي وادخلت عليه الفرحة عندما حققت بعضاً من النجاحات والإنجازات بعد أن أصبحت سيدة رشيدة.. نعم اعتبر نفسي ثمرة كفاح أمي ومناطحتها للصعاب وكفاحها خلال الأيام والليالي..
لقد رأيت أمي وهي سيدة شابة ذات طلة تسر الناظرين، رأيتها زوجة مخلصة ساندت زوجها خلال الشدة والرخاء حينما عملت على حسن تدبير شئون بيته، وإدارتها لشئونه المالية كأفضل مدير يضع سياسة مالية لإدارة أعماله وإنماءها.. رأيتها وهي قوية العزيمة وعالية الهمة والتصميم على تحقيق ما تتمناه من خططها المستقبلية.. رأيتها وهي أم ترعى أبناءها تحرص على مصلحتهم، تصحح مساراتهم وتوجههم مهما بلغوا من العمر.. رأيتها وهي سيدة كبيرة السن ولكنها كانت لا تزال محتفظة بحكمتها وعقلانيتها المتزنة.
فيا لها من رسالة أم.. صعبة، شاقة، مرهقة، تحمل كثيرا من التحديات للمرأة.. ففشلها في هذه الرسالة يترتب عليه كثير من المشاكل الاجتماعية والعقد النفسية وربما المتاعب والعذاب لحياة آخرين.. ونجاحها في تأدية هذه الرسالة يسهم في جلب السعادة وسلك حياة متوازنة مريحة للأبناء والمحيطين لحياتهم، وهو ما يرشق السعادة في قلوب الأمهات والأباء أيضاً.
ولعل يكون هناك المئات والآلاف من قلوب الأمهات التي ذاقت وبال المر لتربية فلذات أكبادهن، وربما قامت بهذه المهمة دون مساعدة تذكر من أحد، حتى من شريك حياتهن. بذلت كثير من التعب والجهد الشاق لتكون سنداً لأبن/ ابنة متعثر في الدراسة أو يواجه مشكلة صحية/ نفسية/ اجتماعية لتعبر به إلى طريق الآمان وتمحنه حق الحياة الكريمة التي يمكن أن يراه البعض صعبة المنال بالنسبة لأشخاص يواجهون ظروف حياتية خاصة جداً.
هناك قلوب أمهات بذلت الجهد في تربية فلذات الكبد، ثم ذرفت الدمع وانفطر القلب لفقد فلذات الكبد وضياع الجهد بسبب الوفاة في حادث قطار، أو الإصابة بخرطوش انطلق وطار، أو الغرق في أعماق البحار.. أياً كان السبب فقلوب الأمهات هي التي تصاب بالكسر وتذوق طعم الحزن المر.
حقيقي لا يوجد شيء يفي بالتكريم المناسب للأم ورسالتها، وما تقدمه من عطاء وتضحيات ومعاناة حياتية.. تكريم عادل في منظوره يراعي وضعها كأمرأة تواجه الكثير والكثير من التحديات المتمثلة في الفكر الثقافي التقليدي للنظرة للمرأة ودورها في المجتمع.. ولكن يبدو أنه لا يوجد شيء يقدم التكريم المناسب للأم ولرسالتها سوى الجنة التي ستكون تحت أقدامهن. وهو ما يعتبر أعظم تكريم.. ولا يضاهيه أي تكريم دونيوي..
أقر واعترف بأن أمي قد ربتني وأحسنت تربيتي، ساندتني بشدة وشجعتني بقوة خلال مراحل حياتي إلى أن حصلت على شهادة الدكتوراة وما آل إليه حالي الآن على الرغم من صعابي ومأساتي.. وفي يوماً من الأيام ليس ببعيد.. كان بالتأكيد يوماً غير سعيد، توقف قلب أمي، فلم يستطع قلبها تحمل المزيد من المحاربة والمصارعة مع الحياة.. ثم فارقت أمي الحياة الدنيا.. وقتها شعرت أن نور الدنيا قد انطفئ.. بالرغم من علمي بأن نور الله عز وجل سيظل باق إلى يوم الدين الذي لا يعلمه إلا رب العالمين..
وسأظل أسأل العزيز أن يجزي أمي - وجميع الأمهات – خير الجزاء ويكافأها بنهر من عسل ولبن وبألذ وأطيب ثمار الجنة، وبقصر في الفردوس الأعلى معطر برائحة المسك والعنبر.. وسأظل أفتقدك أمي.. ولكن سأظل أعيش على ضوء نبض قلب أمي..
فيا قلوب الأمهات في جميع أنحاء العالم لكم منا خالص التحية والتقدير لكل ما تقدموه من عطاء ومساهمات في أداء الرسالة وتأدية الأمانة ورعاية الأبناء من جيل لجيل من خلال قلوب تفيض حباً وحناناً واهتماماً.. قلوب يملاءها الخوف والقلق والحرص على مصلحة الابن/ الابنة، مهما كان شكله أو طبعه.. فسبحان الله خالق قلب الأم بهذه الصورة.. وأحمده عز وجل على نعمه التي أهداني إياها من خلال قلب أمي..