جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
أمسك قلمه بحزم وثبات, مزق أوراقه مرات ومرات مبعثرا أفكارا خاوية تبحث عن إلهام يكون مطلع قصيدة أو باب قصة فريدة. أمسك قلمه مرة أخرى, نفضه مليا, تفحص مداده دون جدوى حتى اعتراه جنون الفشل, والخوف من رحيل الأمل فرمى قلمه حزينا وسار بجناح مكسور أصبح عالة مؤرقة.
لقد تركوني وحيدا ...خائفا طريدا بلا أمل, بلا زاد أفكار أو أحلام ليل تداعب صفحة النهار.
تركنني في صحراء وجودي تائها عن واحة حروفي. ويحهن بي بنات أفكاري... ملكاتي يغردن بي دون سابق إنذار...
"أسكت يا هذا هذيانك أرق سهادي... نحيبك زادني غثيانا"
من أنت؟
"ألا تذكرني؟"
أذكرك في صوتك حنينا
"وكيف لك أن تذكر وأنت منزوٍ في غرفة كيانك تلتهم بقايا أيامك... تستمع بروائح اضمحلالك العفنة التي تتسلل إلى بقايا ايامك من شقوق اندثارك"
ياه... أنت قريني الأزلي الذي أغوى بنات أفكارى حتى غدرن بي وتركنني وحيدا.
"أيها المنافق الذي لم يطل برأسه خارج بوتقته ليبحث عن سر وجوده المتوراي"
ويحك أيها القرين تهزأ بي وأنا في تائه عاجز... أين بنات أفكاري؟ أين أخذتهن
"أي بنات أفكار تذكر وقد قضين في ساحة الوغى يبحثن لك عن نص وقصيد."
ماذا؟
أين؟
كيف؟
"أيها المستهتر الأبدي كشعراء الأرض الجرداء...لقد قتلن جميعا وأنت منزوٍ في هذيانك.كم أنت تائه مستهتر... حتى انك لم تكلف نفسك عناء البحث والسؤال عن علة وجودك.
كفى تأنيبا وترهيبا ...أين هم؟
قضت الأولى نحبها في إحدى التظاهرات حيث تعرضت للإغتصاب في شرك منظم مثلها مثل الكثيرات الآتي حملن لواء الحرية دون أن يرف للحاكم طرف.
ماذا... في بلدي بلد الأخلاق والمناقب وموطن الديانات السماوية تغتصب الشريفات العفيفات.
وامصيبتاه... سألبس وشاحا أسودا واكتب على ضريحها رثاء لم يكتبه أحد..،أين هو؟ أين هو؟
لم يرضَ المؤمنون بدفنها في مقابرهم فقد صنفوها زانية لأنها خرجت سافرة "عاهرة" تستقطب الذكور وتسعى إلى الفجور. لقد أحرقوها كي تبعث ذليلة يوم الدين.
وامصيبتاه... يا ذلاه أين أختها الثانية, لا بد أنها قضت حزينة
ليته كان ذلك يا قريني, فملكتك الثانية قد أتهمت بالكفر بعد أن كادت تدان بالزندقة.
لا يمكن فهي خيرة أفكاري ورقي إلهامي من حنينها أرقب أحلامها.
تلك هي المشكلة... لم يريدون قتلك للتخلص منك بل أكتفوا بالقصاص منها وحرمانك من نبع حديثها فتموت مذموما مقهورا... لقد قبضوا عليها متمسكة بأحد الأضرحة الصوفية دفاعا عن الدين والتراث والحضارة مانعة ذوي "العلم والإيمان" ومُدَّعي صحبة الرحمن من تخليص العالم من وباء العلم والحضارة كي نعود إلى ما كان عليه أسلافنا من طهر وعفاف.
لقد فعلت الصواب يا هذا أتريدنا أن نعود القهقرى... إنها شهيدة الحق
نعم, نعم كلكم توزعون أوسمة الشهادة على كل من سقط جسده في ساحة الوغى.
لا أسمح لك بالتنديد بملكات أفكاري
لم تعد كذلك واعتراضك لا يفيد ... هي لم تكتف بذلك بل رفعت شعارات تنادي بمساواة المرأة اللعينة النجسة بالرجل العظيم الطاهر فاستحقت التعذير والقتل.
يا للمصيبة.. رحماك يا رب... أعد لي الأخيرة كي تبعث مدادها في ريشة حرفي كي أرسم معاناة أختيها قصيدة على أفق الوجود المترنح.
قبل أن تغمس ريشتك في مجهول لا تعرفه, عليك أن تعلم بأن ملكتك الثالثة هي المصيبة الكبرى فقلد ضُبطت وهي تَنكر انتمائها لأي طائفة وقالت بأن إيمانها بالله يكفي الله. بل وأصرت بأن الجميع شركاء متساوين في الوطن ولهم الحق في العدل والحرية كما الماء والهواء وعليهم محبة بعضهم البعض دون بغض أو كراهية.
جيد...جيد هذا هو الوطن الذي نسعى اليه
رويدك قبل أن تهلك مثلها فلقد تمسك بها أهل النظام وأرادوا سحلها عارية لتكون عِـبْرَة لمن تسول نفسه أن يقتفي خطاها. إلا انها هربت إلى صميم المعارضة لتفخر بشعاراتها
رائع... انها بطلتي
لا, لم يكن للروعة من مكان. فعندما أكتشف رواد المعارضة ما ترمي اليه من شَرٍّ يفقدهم سبب وجودهم أمسكوا بها. إذ كيف تجروء وتقول بأنها تحب الوطن مثل أي مواطن شريف وكيف لها أن تساوي بين سيد وعبد, كيف وكيف وكيف... أمسكوا بها متلبسة بجرائم حريتها فقرروا قتلها. لم تخف بل جاهدت حتى تخلصت منهم عارية من حقدهم متمردة على حنثهم وعد الحرية. عندها التقت مصالح النظام والمعارضة على حل واحد يضمن لهم استعباد الشعب وأطلقوا شعار : اقتلوها....اقتلوها
وطعنها الجميع متنفسين الصعداء لتخلصهم من الداء.
قام من غشيته واهن الخطى يحمل قلمه بأنامل مرتجفة, يلف جسده بورق أبيض تزينه صور بنات أفكاره الراحلات والمفقودات...استلقى في وسط ميدان المدينة منتظرا أبناء وطنه يحرقون قلمه فوق جثته .
المصدر: محمد إقبال حرب
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد