الفجوة مع الأبناء
لعل المتأمل في حياة الأبناء في المجتمعات الحديثة ، قد أصبح يلحظ مدى تنامي و تزايد الفجوة الموجودة بين الأجيال المعاصرة لبعضها البعض، خاصة حينما يرتبط الموضوع في العلاقات بين الأبناء و الآباء .
من هنا فإننا نجد أن اتساع الفجوة بين الكبير و الصغير ليست مقتصرة على زمان محدد بذاته، ولا على مجتمع دون المجتمعات الأخرى، و إنما أصبحت ظاهرة تستحق الدراسة و البحث فيها ؛ الأمر الذي جعلها محط أنظارنا في هذه المقالة.
و مما لاشك فيه أن لهذه الظاهرة العديد من الأسباب التي تساهم في تنميتها في واقعنا الذي نعيش، و من أبرز هذه الأسباب التي نستطيع أن نذكرها بداية ، هو تنوع المجالات التي تلعب دورًا بارزًا في التأثير على الأبناء مثل : المدرسة، و البيئة المحيطة ، و رفقاء الشارع، و أفراد الأسرة، و لكل منها أثره الموجه أو غير المقصود في تزويد الأبناء بمعطيات تؤثر في تكوين شخصياتهم، و جعلها مختلفة في التفكير و الاعتقاد؛ سواء كان هذا الأثر إيجابيا أو سلبيا ، إلا أنه يغذي ظاهرة الفجوة التي نحن بصددها.
و أما الجانب الثاني فهو متعلق بتنوع وسائل التكنولوجيا كالهاتف و الحاسوب ، و ما يلحق بها من برامج ، و مواقع إلكترونية متعددة، لسنا بصدد إحصائها، ولا يمكن السيطرة عليها، إلا أنها قد أصبحت متاحة في هذا الزمان؛ كنتيجة للانفتاح الذي جرى في معظم المجتمعات التي تدعي التقدم، و لكنها بلا خلاف لا تدرك استخدام هذه التكنولوجيا بالشكل الذي يخدم نهضتها التي تسعى إليها ، مما جعلها كالسيف في غمده ، يجهل الكثير مدى خطورته.
و من ناحية أخرى فإننا نجد للجانب الثالث، أهمية لا تقل عما ذكرنا سابقا ، لتعلقه باختلاف التربية التي نشأ عليها الأباء جراء تغير العادات و التقاليد التي كانت موجودة في زمانهم عمّا هو موجود في زمان الأبناء الذي يعيشونه بكل حرية في العصر الحديث ، مما نتج عنه اختلاف في التصرفات و ردود الأفعال تجاه الكثير من المواقف، فما يقوم به الأبناء و يتقبلونه كحرية شخصية، قد يرفضه الأباء نتيجة لمعتقداتهم النابعة من العادات و التقاليد التي تربُّوا عليها.
و إضافة إلى هذا فإن للجانب الرابع ضرورة ، لابد من مناقشتها ، بسبب ارتباطه باختلاف الميول و الاتجاهات لدى الأبناء الذين يبحثون فيها عن متاع الحياة و غرورها، و عيشها بلا أهداف أو غايات، بل لا يسعون إلى أي تطلعات فيها ، في حين أن الآباء يشغلهم طلب الرزق و السعي في مناكب الأرض، لتأمين احتياجات بيوتهم و أسرهم على أكمل وجه، مما يجعلهم يغيبون عن بيوتهم لفترات طويلة جدا، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الفوارق في التفكير بينهم، كنتيجة حتمية لما يحدث.
و مع ذلك كله فلعل عدم وجود مؤسسة دينية محددة ، تتبنى رعاية الأبناء، أو التأثير بهم، لتوجيههم نحو ما يخدم تطلعات الآباء تجاه أبنائهم، و يجعلهم ضمن نماذج مميزة ترقى و تنهض لرفع شأن المجتمع ، أمرًا يجعل من المؤسسة الدينية تؤثر في هذه الفجوة باعتبارها الجانب الخامس الذي يساهم في تنامي الفجوة بين الأبناء و الآباء، التي هي موضوع ظاهرتنا المطروحة.
و بناء على سبق فإن من الواجب على كافة أطياف الدولة الممثلة في المجتمع، بمؤسساته، و أسره، و أفراده التكاتف و التكافل لوضع الخطط و الإستراتيجيات القريبة و البعيدة الأمد ، للمساهمة في وضع حلول و خطوات عملية ، لتقليل فارق الفجوة بين الأبناء و الآباء التي إن لم نتنبه لها ، ستزيد من تفشي هذه الظاهرة بين أرباب الأسر و أفرادها، و لنحد منها في التأثير على مخرجات المجتمعات المعاصرة.
و خلاصة القول بإن هنالك العديد من الجوانب أو العوامل التي يمكن أن تؤثر في زيادة الفجوة بين الأباء و الأبناء ، أو في الحد منها و السيطرة عليها، قد يتم طرقها في أبواب و مباحث أخرى.