هل من حق السياسيين أن يكتبوا التاريخ؟ المؤرخ الفرنسى بيير فورا سارع إلى الإجابة بالنفى، قائلا إن تلك وظيفة المؤرخين، لأنه فى أى بلد ديمقراطى لا ينبغى أن يكون هناك تاريخ رسمى، ولا يحق للسياسيين أو أعضاء البرلمان أو حتى القضاء أن يحددوا الحقيقة التاريخية، وإنما يتعين أن يترك ذلك للبحث العلمى الحر.
هذه المسألة أثيرت بمناسبة قانون أصدره البرلمان الفرنسى مؤخرا، يقضى بمعاقبة كل من ينكر المذبحة التى ارتكبتها السلطة العثمانية بحق الأرمن قبل نحو مائة عام، بسنة سجنا وغرامة مقدارها 45 ألف يورو. وترتب عليه انفجار أزمة فى العلاقات التركية الفرنسية، أدت إلى سحب السفير التركى لدى باريس، وإلى تهديد العلاقات التجارية بين البلدين (حجم التبادل التجارى بينهما يصل إلى 12 مليار يورو)، علما بأن الفرنسيين لهم استثمارات فى بلاد الأناضول توظف عشرات الألوف من الأتراك.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يسن فيها البرلمان الفرنسى قانونا بهذا المعنى، لأن ثمة سابقة وقعت فى عام 1990، حين أصدر البرلمان قانونا بضغط من العناصر الصهيونية يوقع العقوبة ذاتها لصالح اليهود، بحيث يلاحق ويعاقب بالسجن والغرامة كل من ينكر محرقة النازيين لليهود التى حدثت أثناء الحرب العالمية الثانية.
أصداء القانون ترددت بقوة فى أنقرة، وفى أوساط بعض المثقفين الفرنسيين، إذ لم تكتف الحكومة التركية بسحب السفير والإعلان عن تقليص صور التعاون بين البلدين، وإنما شن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان هجوما شديدا على الرئيس نيكولا ساركوزى وعلى السياسة الفرنسية، فقال إن جده كان من رعايا الدولة العثمانية (ما أعلمه أن أباه كان هنغاريا وأمه يونانية يهودية). وإن فرنسا لها سجل مخضب بدماء الجزائريين الذين احتلت بلادهم طوال 130 عاما مارست خلالها مختلف الفظائع الوحشية بحقهم.
على صعيد آخر فإن المثقفين الفرنسيين شنوا هجوما موازيا على القانون، علما بأن عشرين من المؤرخين كانوا قد أصدروا بيانا فى سنة 2006 طالبوا فيه السلطات الفرنسية بإلغاء القانون الخاص بالمحرقة اليهودية، باعتبار أنه يضر بالبحث التاريخى ويصادره. لكن الموضوع أغلق ونسى، بحيث لم يعد أحد يجرؤ على الاقتراب من الأرشيف. والبحث فى أى شىء يتعلق بالمحرقة، التى تم تحصينها بالكامل منذ إصدار القانون المذكور.
المؤرخ الكبير بيير فيدال ناكيه (يهودى الأصل وفقد جزءا من عائلته فى المحرقة النازية) رفض قانون تحصين مذبحة الأرمن ووجه كلامه إلى الذين أصدروه قائلا: إياكم أن تقيموا حقيقة رسمية بالقوة، كما كان يفعل الاتحاد السوفييتى أيام ستالين وغير ستالين، والا فماذا سيكون الفرق بين بلد ديمقراطى وبلد شمولى ديكتاتورى. المؤرخ كريستيان دولا بورت قال إننا نرفض فكرة أن يكون هناك تاريخ رسمى. حيث لا ينبغى أن تكون هناك أى عراقيل تعترض البحث العلمى الحر. وإذا كان هناك قانون يفرض حقيقة معينة بالقوة بخصوص أى موضوع، فمن شأن ذلك ملاحقة أى مؤرخ يتوصل إلى نتائج تتعارض مع تلك الحقيقة الرسمية. بالتالى فإن أحدا لن يستطيع أن يفكر وسيف ديموقليطوس مسلط على رأسه، الأمر الذى يثير السؤال التالى: هل نحن فى بلد ديمقراطى أم فى بلد ستالين؟
ما لفت الأنظار أن البرلمان الفرنسى كان قد سن قانونا فى عام 2001 اعترف فيه بحدوث المجزرة الأرمينية على يد السلطات العثمانية بين عامى 1915 و1917، وهو ما كان كافيا فى إدانة ما حدث فى تلك المرحلة من التاريخ. إلا أن العودة إلى تحصين الواقعة ومنع أى بحث فيها لا تفسير له سوى أنه استهدف مغازلة الجالية الأرمينية فى فرنسا، التى تضم نحو نصف مليون شخص. وهم قوة انتخابية أدرك الرئيس ساركوزى أنه بحاجة إليها لتعزيز موقفه الصعب فى انتخابات الرئاسة القادمة. شجعه على ذلك أنه أدرك أن منافسه فى الانتخابات (المرشح الاشتراكى فرانسوا هولند) يحظى بدرجة عالية من الاحترام والشعبية، الأمر الذى يشكل تهديدا لموقفه فى الانتخابات القادمة، التى يصر فيها الاشتراكيون على العودة إلى قصر الإليزيه بعد أن غابوا عنه طويلا.
إذا صح هذا التفسير الذى يتبناه أردوغان، فقرار البرلمان لا يعبر عن التعاطف مع الأرمن، لكنه يوظف الملف الشائك لأهداف انتخابية وانتهازية، فى صفقة تبادل فيها الأرمن المصلحة مع الرئيس الفرنسى.
إنهم هناك لم يسمعوا بما فعله الإسرائيليون فى فلسطين، ولا الأمريكيون فى العراق وأفغانستان ولا الروس فى الشيشان ولا الإنجليز فى الهند، لأن الانتهازية السياسية تلغى الذاكرة وتثقب الضمير.
ساحة النقاش