السرية:
السر هو ما يكتمه الإنسان في نفسه، والسر هو خالص الشيء، وهو جوف كل شيء. وعلى هذا فإن السرية من السر وهي الكتمان، والكتمان هو الإخفاء، وهو عكس الإظهار والبيان. هذا لغة، أما في الخدمة الاجتماعية فإن السرية هي مبدأ والمبدأ قيمة أخلاقية عامة، الالتزام بها من مسؤوليات وواجبات ممتهن الخدمة الاجتماعية، والتخلي عنها قصور في الخُلق والتفكير الانتهاج.
والسرية " قيمة أخلاقية ... تعني عدم البوح بما يدلي به العميل من معلومات تتعلق به أو بذوي العلاقة بحالته، وعدم تعرضها للنشر حفاظا على قيمة الإنسان وتقديره وتفهم ظروفه ووضعه"(<!--).
يشير هذا التعريف إلى أن السرية تعني صيانة مقصودة لمعلومات العميل، أي عدم البوح لأي كان أي جزء من أسرار العملاء التي استوجب التعامل المهني أن يكشفها العميل للأخصائي، سواء كانت هذه المعلومات خاصة بالعميل ذاته أو بمن حوله. هذه الصيانة هي بمعنى الحماية والوقاية والإحاطة وعدم الإذاعة والنشر لما بلغ الأخصائي من مكتومات العميل ومصوناته، التي لم يكن يطلع عليها احد إلا بعد أن يستوثق ويدرك أنها لن تفشى , وأن ما يقوله هو في أمان، ولن يستخدم ضد مصلحته ولن يستخدم إلا فيما يقتضيه حل مشكلته، وفي ما يتوافق ويساعد على حل معضلته. هذا الاطلاع من جانب الأخصائي منضبط ومضبوط ومتعلم كمهارة مهنية تكتسب من خلال القاعدة المعرفية لمهنة الخدمة الاجتماعية وتتجلى كقيمة أخلاقية في التزام الأخصائي الاجتماعي بها شكلا ومضمونا.
وتكتسب السرية كمبدأ أهمية عظيمة لا سيما في حال ازدياد تعقد مشكلة العميل جراء الكشف عن جزء أو كل بياناته، وعليه والحال هذه فإن من أهم واجبات الأخصائي الاجتماعي والتزاماته وآكدها هي كتمان معلومات العميل وبياناته الشخصية، وهذا كفيل بتحقيق الكثير من النجاح في عملية الخدمة الاجتماعية المقدمة للعميل خاصة في الحالات الفردية، وكفيل أيضا بإنجاح العلاقة المهنية واستمرارها؛ طالما بنيت على وعد بالأمن على المعلومات التي يدلي بها العملاء. وقبل ذلك كله نشوء هذه العلاقة من الأساس على الالتزام المهني بمبدأ صيانة المعلومات وحفظها من النشر، وهذا أيضا ضامن لدفع العميل إلى التسريع بإقامة علاقة مهنية كفيلة بوضع أساسات عملية المساعدة المطلوبة.
هذا فضلا عن أن السرية تحقق للأخصائي هدف مهني يتمثل في تأكيد قيم أخلاقية وتنفيذها واقعا عينيا يسهم به في ترسيخ قيم المهنة ويمنحها قيمة ومعنى ساميا لدى العملاء. وهذا ما قد يدفع العميل على مزيد التعاون بل ويحفز غيره على حل المشكلات أو تقديم المساعدة اللازمة لذلك. وهذا أيضا يوقع في روع العميل أن وجود أسرار له لا يعني أنها ستكون دائما كذلك، فضلا عن أن البوح بها قد يشكل تنفيسا انفعاليا يعفي العميل من الضغط النفسي جراء كتمان المشكلة أو عوامل الموقف الذي يُفضي إليها.
وعلى العكس تماما فإن الأخصائي الذي لا يلتزم بهذا المبدأ ولا يعيه أو يهمله أو حتى يستهزئ به فإن الفشل ـ لا محالة ـ في مهنته واقع والخطأ الفاحش في عمله وارد، فعدم ثقة العميل تدفعه إلى الارتداد والانكفاء على نفسه وتزيد من رفضه البوح بأسراره، وقد يزداد الموقف تأزما ويفشل بناء العلاقة المهنية التي قد لا تنشأ من الأساس.
كل ذلك إما غفلة من الأخصائي عن طمأنة العميل على سرية المعلومات صراحة أو ضمنا، وإما غفلته عن اتباع ما من شأنه أن يثبت العميل ويدفع في نفسه الاطمئنان على ما يقوله؛ لذا من الضرورة المهنية أن يعقد الأخصائي الاجتماعي العزم على عدم إذاعة بيانات العميل وأن يبين ذلك العزم صراحة أو ضمنا للعميل، ويتأكد أن عزمه هذا قد بلغ عقل العميل ووعيه. وعليه ـ الأخصائي ـ أن يهيئ كل ما من شأنه أن يبث الأمن في بال العميل؛ فلا يسجل أمامه ولا يسأل إلا فيما يتعلق بالموقف الإشكالي، وأن يستأذنه، وأن لا يكثر السؤال في نقطة واحدة لمجرد شك راود نفسه بأن العميل غير صادق معه. كما أن هناك إجراءات احترازية تدعم ثقة العميل في أن معلوماته ستكون سرية كأن يتأكد الأخصائي من عنوان العميل كي لا يضطر إلى السؤال عن مكانه فيفطن لهذا الأمر من لا يراد له معرفة هذا وينتقل الأمر من السرية إلى الانتشار وهذا ما قد يضر بعملية المساعدة والعلاقة المهنية.
وعلى الأخصائي أن يحتفظ بسجلات العملاء في أماكن أمينة، وعليه تجنب الحديث عن الحالات الأخرى أمام العميل، وتهيئة البيئة التي تحفز العميل على الكلام وعرض مكنون صدره لتصير مشكلته شفافة للأخصائي الاجتماعي.
إلا أن السرية ليست مطلقة، أو أنها في كل الحالات، ذلك انه وعملا بقاعدة الاستثناء فإن بعض حالات العملاء تستدعي مشكلاتهم عدم اعتماد مبدأ السرية ويتطلب الأمر اطلاع الغير ببعض الأسرار أو كلها حفظا لحياة العميل وصونا لحقوقه.
الشفافية:
الشفافية من الشفاف، وهو الرقة والبيان والوضوح والانجلاء، وشف الشيء بمعنى صار يبين ما وراءه. والشفافية في الخدمة الاجتماعية على هذا المعنى هي مبدأ وقيمة مجردة في ذاتها يتخذها الأخصائي الاجتماعي مبدأ مهني لا يمكن إغفاله ولا ينبغي له ذلك.
وتعني الشفافية "وضوح في المعاملة بين من يتعلق بهم الأمر، ولا سرية عنهم فيما لهم فيه من حق، وتعامل إرادي تنساب من خلاله المشاعر والأحاسيس بين المتفاعلين في أداء المهام بكل ود"(<!--). تشير الشفافية هنا إلى الوضوح في المعاملة، والمعاملة لا تكون إلا بموضوع، الموضوع والمعاملة بين طرفين، قد تكون بين الشخص وذاته وقد تكون بين الشخص وغيره، تتصف هذه المعاملة بأنها إرادية وتنطوي على مشاعر وأحاسيس تواكب مسار أداء المهام.
والشفافية تبدو بعكس السرية، غير أن الشفافية في العلاقة المهنية تعني الوضوح التام للعميل أن الأخصائي الاجتماعي ليس إلا مساعدا له ليستثمر طاقاته لا هو من يفعل ذلك. وبوضوح هذا المعنى للعميل يدرك أهمية أن يستغل هو طاقاته ويستثمرها، ولا ضير أن يكون ذلك بمساعدة الأخصائي الاجتماعي.
الشفافية تبعد العميل عن الشك لأن الأسرار يعني الغموض وهو من مولدات الريبة والشك النفسي، وخلاف ذلك الشفافية التي تجعل الكامن من الخدمات ومن الموارد ظاهرا جليا أمام العميل.
شفافية هدف الخدمة المقدمة قد يتمثل في سلوك الأخصائي الاجتماعي. وهذا مكون يمكن أن تستثمر فيه الشفافية لتعطي قدرة ما كانت لتكون بدونها، فهي تريح العميل وتحفزه على مزيد الجهد والتعاون عند إدراك شفافية تعامل الأخصائي.
في ضوء ما سبق يتضح أن الشفافية تتقاطع مع السرية في نقطة ما في العلاقة المهنية، وعلى الأخصائي الاجتماعي أن يكون مدركا لها وواعيا بها؛ فيكون كاتما للسر ومتحفظا على المعلومات، في حين أن العميل يكون شفافا ومبديا للمعلومات، وفي الوقت ذاته يكون الأخصائي شفافا بالنسبة للعميل والمؤسسة لا بالنسبة لغيرهما في الحالة المعينة التي هي رهن التعامل، بيد أن هذا لا يقع إلا ببناء العلاقة المهنية الصحيحة.
ويتضح أيضا أن كل من السرية والشفافية قيمتان تتحولان إلى مبادئ للممارسة الخدمة الاجتماعية، ينبغي الالتزام بهما؛ فهما وجهان لعملة واحدة، هي العلاقة المهنية في جانب منها تكمن السرية وفي الآخر تظهر الشفافية، وبتوازنهما تصلح هذه العلاقة ويكون مآلها في الغالب إلى النجاح وهذا هو المطلوب.
بقلم: المرحوم بادن الله
علي عبدالله فرحات