مدخل:
أولا: الاقتصاد السياسى:
وأعنى به:"ذلك العِلم الاجتماعى الذى يَنشغل بدراسة النظرية الكمية والنظرية الموضوعية فى القيمة، والتناقُضات الكامنة فيها، والتى تَتَطورعلى أساسِها، أى التناقضات، الظاهرةُ الاجتماعية مَحل البحث". وأقصد تحديداً بالاقتصاد السياسى هنا، وبمنتهى الوضوح، ذلك الجسم النظرى الذى نتَجَ عن نقد ماركس للرأسمالية، وإنما بإعتبار الجسم النظرى السابق على نقد ماركس (الذى انجزه عظماء الفكر الكلاسيكى ادم سميث، وديفيد ريكاردو) تنظيراً رأسمالياً للرأسمالية نفسها.
ثانيا: التخلف الاقتصادى:
وأقصد بظاهرة التخلف ظاهرة (تجدد إنتاج التخلف) بإعتبارها (عملية إجتماعية) ديناميكية فى حالة حركة مستمرة، ليست ساكنة وتاريخية فحسب، إذ هى عملية إجتماعية من إرتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، بمفهومها الذى قصده أدم سميث، وديفيد ريكاردو، وماركس، ولن أنشغل هنا بمناقشتها، وسأعتبرها معطى على صعيد الفكر. يتناقض هذا الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة، نظراً لكثافة إستخدام عنصر العمل فى الاجزاء المتخلفة، مع ضعف(أليات) إنتاجها، نظراً لضعف التقنية وعدم إستخدام الفنون الانتاجية التى يكشف عنها العِلم إلا فى مرحلة تالية لاستهلاك تلك الفنون فى الاجزاء المتقدمة، ومن خلال هذا التناقض ما بين الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة وبين هشاشة ألية إنتاجها، تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً إلى الاجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر، من أجل شراء السلع والخدمات الاساسية والتى تتوقف عليها شروط تجديد الانتاج. ولنزيد الامر وضوحاً:
لقد إنطلقتُ من فكرة بسيطة، وتجريدية، جداً تقول أن المجتمعات المستعمَرة التى صارت تابعة ثم متخلفة طبقاً للترتيب التاريخى، حالها كحال المجتمعات المستعمِرة، المتبوعة، المتقدمة، لا تكف عن الانتاج كما لا تكف عن الاستهلاك، والمجتمعات المتخلفة، والتى تهمنا هنا ومنها عالمنا العربى، لا تُنتِج سلعاً أو خدمات فقط؛ وإنما تُنتِج قيمة زائدة، ليس العُمال فقط وإنما المجتمع بأسره، بعد أن تحول المحامى والطبيب والمهندس والمعلم والكاهن، بل ورعاع المدن إلى شغيلة فى عداد المأجورين!! بيد أن كراسات التعميم غالباً ما تتجاهل هذه الحقيقة.
فأى مجتمع، ويهمنا هنا الاجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر، ومنها عالمنا العربى، يتعين كى يقوم بالعملية الانتاجية أن يكون تحت تصرفه مبلغاً من النقود بالمعنى الواسع للنقود، لا أُفرِق بين إنتاج الحديد والصلب، وبين فتح مؤسسة محاماة يعمل فيها عشرات المحاميين بأجر. أى أننى، وهذا من ضمن ما أهدف إليه، أقوم بمد القوانين التى كشف عنها عِلم الاقتصاد السياسى فى حقل إنتاج السلع المادية إلى حقل إنتاج الخدمات وهو الحقل الذى صار مُهيمناً بنحو 65%، على إجمالى هيكل الاقتصاد العالمى المعاصر. وفلنفترض أن المجتمع(ويهمنا المجتمعات المتخلفة، وعالمنا العربى أحد مكوناتها) فى لحظة تاريخية معينة وتحت ظروف إجتماعية محددة، يدخل العملية الانتاجية على صعيد "الكُل"الاقتصادى بمبلغ (30) مليار وحدة، موزَعة بين القطاعات الانتاجية الثلاثة بواقع(10) مليار لكُل قطاع(الزراعة والصناعة والخدمات) ويتم توزيع الـ(10) مليار وحدة على النحو التالى: (50) وحدة لشراء أدوات العمل، و(30) وحدة لشراء مواد العمل، و(20) وحدة لشراء قوة العمل، وهكذا الامر فى كل قطاع، وفى نهاية الفترة وبإفتراض أن القيمة الزائدة المنتَجة فى القطاعات الثلاثة=100%، أى أن الرأسمالى يدفع للعمال (20) وحدة ويتلقى مقابل هذه الـ(20) وحدة عمل يساوى (40) وحدة أى يأخذ (20) وحدة زائدة. فسيكون لدينا ما يلى:
القطاع الزراعى: (50 أدوات العمل) + (30 مواد العمل) + (20 قوة العمل) +(20 قيمة زائدة) = 120
القطاع الصناعى: (50) + (30) + (20) +(20) = 120
قطاع الخدمات: (50) + (30) + (20) +(20) = 120
طبعاً لا شك فى أن الانتاج يحتاج إلى أشياء أخرى كثيرة مثل: الارض، والفكرة، والادارة، والنقل. .إلخ بيد أن تلك الامور تأتى فى مرتبة أو مرحلة إتمام المنتَج، وهى مهمة من زاوية ما من أجل "تسيير" العملية الانتاجية، وهى، فى نفس الوقت، ثانوية وغير مؤثرة فى عملية زيادة القيمة، إذ لا تزيد القيمة إلا بقدر دخول عنصر العمل الحى أو المختَزن فى العملية الانتاجية والذى من شأنه أن يُزيد القيمة. ولكنه سوف يزيد قيمة على السلعة الجديدة وليس القديمة، فالنقل لا يزيد قيمة السلعة، وإنما يمكن لعملية النقل خلق قيمة فى حقل صناعة النقل نفسه.
ووفقاً لمثلنا أعلاه فلقد حقق المجتمع زيادة فى القيمة، أى أنه بدأ بـ (30) مليار وحدة، وفى نهاية الفترة صار لديه (36) مليار وحدة. فأين تذهب تلك الـ(6) مليار وحدة والتى إنتجت بداخل الاقتصاد القومى، ويهمنا هنا الاقتصاد القومى للاجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، وعالمنا العربى أحد تلك الاجزاء؟ كى نُجيب على تساؤلنا المطروح يتعين علينا البدء من حيث أنه ما من مجتمع إلا ترتبط حياته وإستمرارها بالانتاج، من أجل الاستهلاك الداخلى المباشر، أو من أجل التبادل، ولن يتمكن هذا المجتمع من تجديد إنتاجه إلا إذ ما كان تحت يده حدا أدنى من (الرأسمال المركم) يمكنه من البدء فى تلك العملية، وبالفعل يبدأ المجتمع العملية الانتاجية بكمية معينة من رأس المال، حاله حال كل مشروع رأسمالى، وفى نهاية المدة، ولتكن سنة، لا بد، ولكى يستطيع الدخول فى عملية إنتاجية أخرى لسنة جديدة، وهكذا، لا بد من أن يجد المجتمع تحت يديه كمية من الرأسمال "والذى أُنتِج فى الفترة السابقة". والسؤال:
(1): ما مقدار معدل إنتاج تلك القيمة الزائدة(النسبى) المنتَجة فى أحد الاجزاء المتخلفة، ولتكن دولة بوروندى مثلاً(2,698,272دولار) مقارنة بالمنتَجة فى أحد الاجزاء المتقدمة ولتكن الولايات المتحدة الامريكية (14,629,200,000,000,0 دولار، لاحظ الفارق الهائل ما بين المليون وبين التريليون!!) من الواضح تماماً مقدار هذا الفارق وهو يُعرب عن مدى قوة أليات إنتاج القيمة الزائدة، فى مقابل ضعفها الجلى فى الاجزاء المتخلفة، وسنرى ذلك بمزيد من تفصيل الارقام أدناه.
(2): أين تذهب تلك القيمة الزائدة؛ أو الارباح كما يسمونها؟ هل تُضَخ فى مسام الاقتصاد القومى، من أجل تنميته؟ أم تتسرب إلى الخارج لتغذية صناعات (غذائية، إنتاجية، إستهلاكية) تُنتَج فى المراكز المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى؟ إننى أفترض أن التسرب هو الاقرب إلى الدقة!! إنه التسرب الذى تدعمه الطبقات الحاكمة فى الاجزاء المتخلفة، والتى تُمثل إمتداداً للظاهرة الاستعمارية (بل كذلك بعد الحركات الثورية ، فلم تزل القيمة تتسرب كما سنرى) فتلك الطبقات بما يحققه لها هذا التسرب فى القيمة الزائدة، ومن قبله ترسيخ ضعف أليات إنتاجها على مستوى القطاعات الثلاثة المنتِجة، من موالاة للاجزاء المتقدمة، فإنه يُصبح من اللازم حرص تلك الطبقات على إبقاء الوضع الحالى دون أى تغيير يَسمح بعدم تسرب تلك القيمة الزائدة إلى خارج مسام الوطن. أو تدعيم أليات إنتاج القيمة الزائدة الممكّنة من تركيم رأسمالى ممكّن بدوره من الدخول فى حلبة الصراع مع الاجزاء المتقدمة التى سبقته، وأرجو أن يكون من الواضح، كونى أناقش إشكالية تسرب القيمة الزائدة، نتيجة التناقض ما بين إرتفاع حجم إنتاجها وبين ضعف أليات هذا الانتاج، ولا أناقش إشكاليات تسرب الفائض.
يبقى أمر من المتعين معالجته هنا وإنه ليثير الالتباس ربما لدى البعض؛ فلقد قلنا لتونا أن الرأسمالى يتحصل على مكاسبه، على أساس المعدلات المرتفعة من القيمة الزائدة، وقلنا كذلك أن الاجزاء المتقدمة قد تجاوزت الان إنتاج القيمة الزائدة النسبى، وقلنا كذلك أن تلك الصفة وهى إرتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة من الصفات اللصيقة بالاجزاء المتخلفة. فما هو السبيل إلى الخروج من هذا التناقض؟ إن السبيل الممَهد لحل هذا التناقض هو فى النظر إلى التطور الذى لحق النظام الرأسمالى نفسه، ففى المرحلة الصاعدة كانت القيمة الزائدة هى مصدر الربح والتراكم(بجانب النهب والمذابح وحروب الابادة) ولذا كان طبيعياً أن لا يرى ماركس حين صياغته "لقانون ميل الربح للانخفاض" سوى (القيمة/الربح) دون حدود واضحة لكل منهما. أما الان وفى المرحلة الهابطة (والانهيار) تنفرج الزاوية 180 درجة ما بين الربح وما بين القيمة الزائدة، وفى الوقت الذى تتقلص فيه القيمة الزائدة ومعدلات إنتاجها، ومن ثم تأخذ الاجزاء المتقدمة وهى ماضية فى تجفيف منابع القيمة الزائدة(سر حياتها)عبر تخفيض العمالة وإنتاج السلع كثيفة رأس المال والتكنولوجيا، فى طريقها إلى الانحدار شيئاً فشيئاً على الرغم من تلك المليارات والتريليونات لانها فى الواقع أرقام وهمية، غير مؤسسة على قواعد إنتاجية ثابتة!! ومن هنا نقول أن الاجزاء المتقدمة فى مرحلة الهبوط، وما تلك الارقام الفلكية أحياناً سوى نتاج خلق وعى زائف صار فناً رأسمالياً خالصاً، أسمه فن خلق الوعى الزائف، وكما سنرى أن ثقافة الاستهلاك، والتى أمست أيديولوجية، وثقافة الاشياء الجديدة وإلقاء القديم، أيا ما كان، فى سلة المهملات. دائماً هى الثقافة التى تتطيل فى حياة النظام حتى الان، وإنما إلى حين لا أعتقد فى طوله كثيراً ولو حتى جيل أو جيلين قادمين. وفى المقابل، ولأن قروناً تفصل فيما بين الاجزاء المتقدمة والاجزاء المتخلفة، فإن الاجزاء المتخلفة هى الان فى طريقها الذى إجتازته الاجزاء المتقدمة من مئات السنين!! وهى الان فى مرحلة إنتاج القيمة الزائدة!!
ثالثا:الاقتصاد السياسى للتخلف الاقتصادى:
وأقصد به: البَحث فى، وعن، القوانين الموضوعية الحَاكمة لظاهرة تَسرب، القيمة الزائدة وشروطها الموضوعية، وذلك على إعتبار أننا أًمام عِلم تمَ إنجَازه كما ذكرت، له مِن الادوات والاليات ما مِن شأنه تفسير الظاهرة مع تقديم مجموعة معرفية من الافكار بشأنها، بشكل عِلمى، على الصعيد الاجتماعى.
إهمية التحديد:
كان مِن المهم، ذلك التمهيد بإبراز التحديدات السابقة بشأن(الاقتصاد السياسى)و(التخلف) و(الاقتصاد السياسى للتخلف) ويَرجع ذلك إلى أن المسألة التى سنتناولها أدناه، وهى (تجديد إنتاج التخلف) بالتطبيق على بلدين احداهما فى امريكا اللاتينية، وهى فنزويلا، والثانية فى افريقيا، وهى السودان؛ إنما يرتبط تحليلها بالوعى الناقد بما نقصده حينما نقول: الاقتصاد السياسى للتخلف. إذ أعترف أن التحديدات السابقة تعد غير مألوفة على الاقل بالنسبة للنظرية الرسمية التى تتجاهل الظاهرة الرئيسية (تجديد إنتاج التخلف) وتذهب إلى حيث أرقام خط الفقر واحصائيات الجوعى والمرضى، ومستويات الدخل، ونسب التضخم، وبيانات الافلاس والكساد دون أن تطرح السؤال المركزى الذى يقول:"لماذا تستمر حالة التخلف؟ وفى عالمنا العربى بوجه خاص، على الرغم من أن السبب الرئيسى لهذه الظاهرة وهو الاستعمار قد إنتهى، ومع ذلك لم تزل حالة التخلف قائمة وتجدد إنتاج نفسها. فلماذا؟ الاجابة على هذا السؤال تحديداً هى التى ننشغل بها أدناه. من خلال تحليل ظواهر الصراع الاجتماعى والاقتصادى فى كل من فنزويلا والسودان، كنموذجين للبحث؛ ولنذهب أولا إلى أمريكا اللاتينية. تحديداً جمهورية فنزويلا البوليفارية.
(2)
جدلية الصراع الاجتماعى والاقتصادى فى فنزويلا:
الان، وبعد مرور ما يقارب"عشر سنوات"على أحداث الانقلاب الفاشل الذى حدث ضد الرئيس هوجو تشافيز، رئيس فنزويلا، لم تزل بعض فصائل التيارات الفكرية المهيمنة فى حقل اليسار، وطبعاً منظروا الامبريالية مِن باب أولى، لا تتمكن من تجاوز الرؤية إلى ما هو أبعد من مجرد إنقلاب فاشل على حكومة شرعية، ومِن ثم فقدت المسألة الفنزويلية كُل مضمونها، فبدون النظرة الجدلية، راح البعض طارحاً المسألة بشكل لا يختلف كثيراً عن آلاف الصراعات التاريخية...مَن لا يملكون ضد مَن يملكون... الفقراء ضد الاغنياء، دون أى إلتفات للدور الحاسم لقانون الحركة الحاكم للتطور الاجتماعى. الديالكتيك.
تبلور الظاهرة:
فى يوم12/4/2002بدأت الانظار، واليسارية على وجه الخصوص، تتجه صوب فنزويلا. وسنخص بعضاً من فصائل اليسار تحديداً لكونها تُمثل، فى هذه المسألة تحديداً، أعلى مراحل نضج التفكير الجمعى المبتذل، للاسف، وسيكون طرازه هو السائد... أن أهمية المسألة الفنزويلية إنما تنبع مِن ثرائها على صعيدى الفكر والواقع وقدرتها على إثارة العديد من القضايا الجوهرية فى معظمها، وإمكانيتها رسم خطوط منهجية عريضة نستطيع من خلالها أن نفهم فهماً ناقداً مُجريات الامور والاحداث الانية فى العالم الرأسمالى المعاصر، وعلى وجه الخصوص الكيفية التى تمت مِن خلالها العملية التاريخية التى كونت إقتصاداً عالمياً بمستويات مختلفة من التطور والتقدم والنمو. الكيفية التى أنشأت التخلف الاجتماعى والاقتصادى"كظاهرة تاريخية"فى بعض أجزاء الاقتصاد العالمى.
ففى هذا التاريخ12/4/2002 أُعلن تنحية رئيس الدولة المنتخب هوجو تشافيز، وتولية بدرو كارمونا، بيد أن هذا الاعلان لم يستمر لأكثر مِن يومين؛ إذ عاد تشافيز إلى"ميرا فلوريس"القصر الجمهورى مرة أخرى فى 14/2/2002 رئيساً شرعياً لفنزويلا البوليفارية، وتم نفى كارمونا إلى كولومبيا. ومنذ اللحظة الاولى للاحداث وحتى كتابة تلك السطور، لم تَزل بعض الفصائل فى حقل اليسار(ومنظروا الامبريالية مِن باب أولى) وبعد تلك السنوات، لم تزل لا ترى فى المسألة الفنزويلية التى طرحت نفسها فعلياً فى12/4/2002 بإعلان تنحية هوجو تشافيز وتولية كارمونا (جنرال النفط) وإنتهت واقعياً فى 24/3/2003 بعودة تشافيز رئيساً لفنزويلا والاطاحة بالمعارضة العميلة للامبريالية الدولية!! وعلى طريقة النصوص إذا تكررت تقررت واذا إنتشرت تأكدت، لم تَزل تلك التيارات لا ترى المسألة إلا أدائياً ولا تتمكن من مغادرة النظرة الخطية التى يُمثل الصراع الاجتماعى الراهن، بجميع مظاهره، فى فنزويلا، بمقتضاها مجرد حالة إصطدم مِن خلالها فكر ثورى راديكالى مع فكر إنتهازى رجعى، أو لحظة تاريخية تَصَادمت فيها السلطة المعزَزَة بإرادة جماهير تَسكن مدن الصفيح مع معارضة إنتهازية ومتواطئة، وتعتبر مِن ثم المسألة برمتها مثالا ممتازاً جداً (وتعليمى مناسب، شبيه بالدرس ما بين المغرب وبين العشاء) للتدليل على القوة الكامنة فى الشعوب، وقُدرة الجماهير على تقرير مصيرها، وإمكانية قيامها بإعادة توزيع ثرواتها، وإستطاعتها إختيار مَن يمثلها ويعبر عن مصالحها. هنا يتوقف اليسار. إذ تُمثل نقطة البدء غير الصحيحة نقطة النهاية.
إرتباك: لقد توقف فكر التيار المهيمن فى هذا الحقل عند تلك الاستنتاجات السهلة والمضمونة والجاهزة والتى أفرغت المسألة مِن مضمونها المتعين فحصه، وحولتها إلى ظاهرة دعائية فارغة كالذى حدث، على سبيل المثال، عقب إعلان سحب السفير الفنزويلى مِن تل أبيب فى يوم3/8/2009وصار الصراع الراهن فى فنزويلا، بعد تصفيته، لا يختلف، كما ذكرنا، اللهـم إلا جغـرافياً وتاريخياً عن آلاف الصراعات التى ناضل مِن خلالها المظلـوم فى وجـه الظالم. مَن لا يملك قبل مَن يملك (هاكم كراسات التعميم والموجزات الاولية بكامل بهائها !!) إن التيارات المهيمنة حال سعيها لفهم الظاهرة(هناك، وهنا أدهى وأمر) لم تؤمن بأهمية الوعى الاولى والرئيسى بطبيعة التكون التاريخى الخاص بطبقة البروليتاريا النفطية فى فنزويلا، تلك الطبيعة الخاصة التى مكنتها من ناصية التفاوض على الصعيد العالمى، وأهلتها للتحالف مع رأس المال، وإنما إبتداءً من سيطرته عليها، وسعيها، بالتوازى، للحفاظ على المكاسب الإجتماعية التى حققتها على الصعيد الاجتماعى. كما لم تَتَمكن تلك التيارات وهى تلوك المسألة الفنزويلية مِن إجراء التمييز فى حقل الاقتصاد الريعى المنجمى(1) وهو حال فنزويلا، بين الدولة صاحبة الدخل وبين الشركة الرأسمالية المستثمِرة(أجنبية كانت أو وطنية) إذ أن ناتج البير أو المنجم يجرى تصديره ومِن هنا تتحدد شروط ضَخ الاستثمارات فيه (بمراعاة كلفـة الاستبدال المنجمى) تلك الشـروط تتيح فى نفس الوقت تحقيق (ربح) للرأسمال المستثمَر و(ريع) بالتناقض على المستوى الدولى بين الدولة المالكة ورأسمال الاحتكارات التى تهيمن على ظاهرة الاثمان الدولية. ولا داعى هنا للتأكيد على أن الظاهرة التى ننشغل بتحليلها إنما ننظر لها فى سياق ظاهرة أكبر وهى ظاهرة تجديد إنتاج التخلف.
فرضيات تحليل الظاهرة:
إن تلكَ القدرة الَمَحدودة للتيارات الفكرية المهيمنة فى حقل اليسار، والتنظير الامبريالي من باب أولى، لم تفوت عليها فقط فرصة رؤية الدائرة الفِكرية الاولى (وهى تَحوى ما هو لازم مِن الافكار، ولكن غَير كافٍ) والتى تُحيط بالظاهرة محل المشاهدة والملاحظة؛ بل ومنعتها، بالضرورة، مِن بلوغ الدائرة الثانية (الاكبَر والارحَب) والتى تَحتوى على مَجموعة مِن الفرضيات المنهجية، والتى يُمكَن مِن خلال تحقيقها، على نحو علمى، العلو بالظاهرة عن كل ما هو ثانوى، وفحصها بمزيدٍ مِن الوضوح بعيداً عن كُل ما هو سرابى مُضلل. وتَتَبدى تلك الفرضيات فى النقاط الفكرية التالية:
(1) الصدور عن الرؤية الهيكلية، وصولاً إلى الوضع الراهن، من خلال الوعى بتاريخ الرأسمالية(2)والكيفية التى بلورت العدوانية المباشرة لرأس المال الاوربى الاستعمارى على مجتمعات الاقتصاد المعاشى بكُل خصوصيته، وبكُل حضارته الانسانية المدهشة: الازتك، الانكا، فى أمريكا اللاتينية، وفنزويلا جزء لا يتجزء من أجزائه غير المتجانسة، وبحصول الصراع الجدلى بين أسلوب الانتاج الرأسمالى، الناشىء آنذاك بمنتهى القوة والعنفوان، ومجابهة المنتِج الوطنى فى المستعمَرة، والذى كان فى الاصل مالكاً لشروط تجديد إنتاجه، تبدأ العمليـة التاريخية الدامجة المتزامنة مع ضخ المزيد مِن قـوة العمل(المستورَدة، والمقتنَصة) مِن خـلال تجارة، غير إنسانية ولا رحمة فيها، سَيطر عليها أنذاك التاج الاسبانى والتاج البرتغالى، وتبعهم فى ذلك فيما بعد باقى القوى الاستعمارية الاوربية.
(2) فرض الزراعة الاحادية على أغنى أراضى قارة أمريكا اللاتينية وأخصبها وأوفرها إنتاجاً: البرازيل، باربادوس، جـزرسوتابنتو، ترينـداد وتوباجو، كوبا، بورتوريكو، الدومينيكان، هاييتى، الامر الذى كَون، تاريخياً، بلداناً كالاكوادور يتوقف مصير سُكانِها على تقلبات الاثمان العالمية للبن أوالكاكاو، أوالموز!! هنا يجب الوعى بالكيفية التى تمت من خلالها عملية تعميق هذا الشكل مِن الزراعة مِن خلال هيكلة إقتصاديات بلدان القارة(3) على نحو يخدم، بإخلاص، إقتصاديات الاجزاء (الاستعمارية) بجعل بلدان القارة مورداً دائماً للمواد الاولية، الحال الذى أفضى، بعد إستنزاف التربة، إلى إستيراد الطعام، فالارض أقسمت أن لا تُنتِج سوى المحصول الواحد، المحصول الاستعمارى: سكر، كاكاو، مطاط، بن، قطن. وهو الامر الذى تزامن مع نشوء المزرعة الاستعمارية، وتبلور الطبقات الاجتماعية المكوَنة تاريخياً فى ركاب رأس المال الاجنبى، الاسبانى والبرتغالى والانجليزى والهولندى والفرنسى، ثم الامريكى كأمتداد للهيمنة والسيطرة، ومِن هنا نشأت أرستقراطية السكر، وأوليجارشية الكاكاو، وبخاصة فى كاراكاس الفنزويلية مع نهاية القرن السادس عشر، كما ظهر، أيضا، أثرياء الغابة (المطاط) وأباطرة البن. تنهض هذه الطبقات، فى حركتها الاجتماعية المتعاديّة والمتناقضة، فى تدعيم بنية الخضوع والهيمنة، وتكريس عوامل التخلف التاريخى لدول القارة، إذ لا توجه، ولا يمكن أن توجه، تلك الأرباح إلى الحقول الاستثمارية الوطنية، بل يُعاد ضخها فى نفس العروق...إلى الخارج .
(3) دور متطلبات"العملية التاريخية الدامجة"فى قلب الميزان الديموجرافى(4) فى معظم أجزاء القارة وهو الامر الذى يتعين معه الوعى بأمرين: أولا: طبيعة نمط الانتاج الذى إستخدمته الاقتصاديات المستعمِرة فى سبيل إنهاك الاقتصاديات المستعمَرة وتصفيتها مادياً، وسلبها لشروط تجديد إنتاجها. ونمط الانتاج هذا، ثانياً، والذى إستخدمته القوى الاستعماريّة إنما يحتاج (لدورانه حول السخرة والعبوديّة) إلى قوة عمل وفيرة، أكثر مِن وسائل الانتاج (مواد العمل وأدوات العمل) ولذا سيكون مِن الضرورى أن تقوم قوى الاستعمار الاوروبى بضخ نحو 8 مليون إنسان (عبد) إفريقى إلى مناطق البرازيل وغرب الانديز وجيانا فى الفترة مِن 1550 وحتى 1850 بعد أن أباد الاستعمار السكان الاصليين!! تركز هذا الضَخ فى معظم جزر الكاريبى ومناطق زراعة القصب ومناجم الذهب ومزارع البن. الامر الذى أفضى إلى تَكون طبقة (الكريوليس) والتى ستنهض بدور هام فى سبيل ترسيخ الهيمنة الاستعمارية حتى بعد تحولها شطرالقارة الافريقية إبتداءً من النصف الثانى من القرن الثامن عشر.
فلقد كرس الاستقلال فى بداية القرن التاسع عشر تحويل السلطة من المستعمِر إلى أيدى الملاك العقاريين والبورجوازية الكمبرادورية، عقب ذلك إستمر التحويل وتدعيمه على أمتداد القرن إزاء تكثف التبادلات مع المتروبول الجديد، بريطانيا العظمى. يجب هنا الوعى بالكيفية التاريخية التى من خلالها تبلور التاريخ النقدى للهيمنة الامريكية فى القرن التاسع عشر، بعد سلسلة من العلاقات الجدلية بين القوى الاوربية المتصارعة على خيرات المستعمرات(5) وعلى مَن عليها مِن بشر(هولندا، إنجلترا ،فرنسا، روسيا، النمسا، المانيا، إيطاليا، بروسيا، الدولة العثمانيّة) وإنتهاء بالحرب العالمية الاولى التى خرج منها الاقتصاد الاوروبى حطاماً، بينما خرجت الولايات المتحدة الامريكية كأغنى وأقوى دولة رأسمالية فى العالم يزيد مجموع أرصدتها الذهبية عن مجموع الارصدة الذهبية التى تملكها روسيا وفرنسا والمانيا وبريطانيا؛ وكأن الحرب لم تفعل شيئاً سوى نقل ثروات أمريكا اللاتينية مِن أوروبا إلى الولايات المتحدة الامريكية. يتعين هنا الوعى بالظروف التاريخية التى سادت فى القرن التاسع عشر، والتى تمكن الذهب خلالها مِن إرساء الاثمان المعبَر عنها بعملات وطنية مختلفة نظير سلع تم إنتاجها فى أماكن متفرقة من العالم وفى ظل ظروف إنتاجية مختلفة. ولم يكن مِن الممكن للذهب أن يُؤدى هذه الوظيفة إلا إبتداءً مِن تَداوله كنقود فى داخل الإقتصاد الرأسمالى القومى الاكثر تطوراً والذى كان فى سبيّلهِ للسيّطرة على الجزء الأكبر مِن المعاملات الدوليّة. الاقتصاد البريطانى. وتُمكِن قاعدة الذهب الدولية بدورها رأس المال البريطانى مِن تأكيد هيمنته فى داخل الاقتصاد العالمى، وهى هيمنة إستمدها، كما يَقول أستاذُنا الدكتور محمد دويدار، مِن تفوق الانتاجية النسبية للعمل عمقاً ومدى، وبفضل هذه الهيمنة يُصبح الاسترلينى، العملة الوطنية البريطانية، سيد العملات دولياً، ويمكن أن يَحل مَحل الذهب لعملات بلدان أخرى تخضع لهيمنة رأس المال البريطانى. وهكذا تحل هيمنة رأس مال إحدى البلدان على الصعيد الدولى مَحل سلطة الدولة على الصعيد القومى، وتُمكن هذه الهيمنة عُملة رأس المال المهيمن من أن تلعب فى المعاملات الدولية دور النقود الدولية، سواء أكانت هذه العملة تستند إلى الذهب أو لا تستند، وإن كان مِن الضرورى أن تَبدأ فترة سيطرتها التاريخية، بحكم تاريخية النقود، بالاستناد إلى الذهب(6) ويَكون مِن الطبيعى عند إنتقال الهيمنة مِن رأس مال قومى إلى رأس مال قومى آخر أن تَرث عُملة المهيّمن الجديد وظيفة النقود الدولية حالة بذلك محل عملة رأس المال الذى فقد هيمنته على الاقتصاد الرأسمالى الدولى. ذلك ما حدث فى فترة الحربين العالميتين عندما فَقَد رأس المال البريطانى هيمنته على الاقتصاد الدولى (تاركاً الاقتصاد الدولى كى يُقسم عدة كتل نقدية) فَقَد ظهر رأس المال الامريكى كى يَفرض"هيمنته"، ولكى تأتى الحرب العالمية الثانية لتؤكد الهيمنة الجديدة التى تَفرض كل تبعاتها فى الفترة التالية للحرب.
(4) يتعين الاستمرار فى البحث وصولاً للكيفية التى مِن خلالها يظهر الاقتصاد الفنزويلى، كاقتصاد متخلف، مركب مِن قطاعات منعزلة أو شبه منعزلة، لا تُقيم فيما بينها إلا مبادلات هامشية، بينما يتم الجزء المهم والجوهرى مِن مبادلاتها (وبخاصة النفط) مع الخارج، وبينما يَعكس قطاع الزراعة (الذى يقع تحت وطأة إعادة الهيكلة العالمية) مظاهر الاندماج كافة فى السوق الدولية، بمعنى الانتاج إبتداءً مِن السوق وتبعاً لقوانين السوق، أى الاندماج فى منظومة الفائض والهدر الاجتماعى، وإنما إبتداءً مِن سيادة قوى إنتاجية متخلفة (تركز ملكية، تخلف أساليب الاستغلال، الاحتفاظ ببعض مظاهرالاقتصاد المعاشى، الانفصال التاريخى للريف عن المدينة) وعلاقات إنتاج شفافة (أقرب إلى القنانة أو العبودية) لم يسمحا بعد، أى قوى الانتاج وعلاقاته، بتطورات جدلية ملحوظة على صعيد رد الفعل الاجتماعى، فإن القطاع الصناعى يتكون، إضافة إلى الشركة الام، مِن منشأت عملاقة (أجنبية أو فروعا مِن وحدات محليّة) تقع مراكزُها المحركة خارج الاقتصاد الفنزويلى، وعلى حين تقوم تلك الوحدات الضخمة باستخراج الثروة المنجمية (فحم، حديد، نفط) فإنها تَستخرجها لا لكى تغذى بها صناعات محلية وليدة، بل إنها تصدرها لتستخدم فى تغذية مجموعات صناعية مُعقدة فى المراكز المتقدمة. وبخاصة بداخل الاقتصاد الامريكى الوريث التاريخى للهيّمنة الاستعمارية الاوربية.
(5) تبرز طبقة البروليتاريا، النفطيّة، الفنزويلية، كَطبقة أفقدها الزيت وعيها الطبقى، ذات طبيعة تاريخية خاصة، تمكنها مِن ناصية شروط التفاوض على الصعيد العالمى، لا سيما المنظمات الدولية (التى يَستَعين بها رأس المال إستقداماً أو إستبعاداً وفقا لمصلحته) تلك الطبيعة الخاصة بهذه الطبقة والتى تَكونت بفعل حركة رؤوس الاموال النفطية فى أوائل القرن العشرين بداخل فنزويلا، أهلتها للتحالف مع رأس المال، وإنما إبتداء مِن سعيها نحو الحفاظ على المكاسب التى حققتها على الصعيد الاجتماعى، إذ وُلِدَت كطبقة محدودة نسبياً وظهرت شرائحها العُليا ذات إمتياز نسبى كذلك، على حين كانت الازمة الزراعية تبدو عَبر الافقار المتواصل للفلاحين وتعميق الانفصال التاريخىّ للريف عن المدينة.
(6) مِن أبجديات درس الصراع الاجتماعى الراهن فى فنزويلا، فى إطار تجدد إنتاج التخلف، الوعى بكونها دولة نفطية، وبالتبع ريعية، وإن تحكم طبقة إجتماعية خاصة فى عملية النفاذ إلى المورد فى الاقتصاديات الريعية المنجمية والوعى بما يثيره ذلك مِن صراعات جدلية بين باقى طبقات المجتمع، هو مِن أوليات فهم الطبيعة الخاصة بتلك الاقتصاديات، وفنزويلا لا تُمثل أدنى إستثناء. إذ تَحكم كِبار الملاك العقاريون، وعائلاتهم مِن بعدهم، والبرجوازية الكمبرادورية، منذ البدء فى عملية النفاذ تلك، كطبقات كُونت تاريخياً. كُونت كطبقات مهيمنة، ثم ونامية فى ركاب رأس المال الاجنبى المسيطر. بل أنه وبعد التأميم، فإنه يَجدر بنا أن نتسأل مَن هو مالك الدولة؟ فتأميم الموارد الاساسية لا يَضمن فى حد ذاته إعادة توزيع الدخل لصالح الاغلبية، كذلك لا يهدد بالضرورة لا سلطة ولا إمتيازات الاقلية المسيطرة.
جدلية الربح والريع
لا يُمكن بتصورى الحديث عن فنزويلا، بل عن أى جزء من أجزاء الاقتصاد العالمى المعاصر، على الصعيد الاجتماعى والاقتصادى والسياسى، دون الاحاطة الواعية والناقدة بما هو مُدون عاليه مِن فرضيات منهجية قابلة فى جوهرها للتشكيل والتشكل تبعاً لمقتضى فهم وإستيعاب وتحليل الظاهرة مَحل المشاهدة والملاحظة، إذ يَجب أن يأتى الطرح المنهجى بفرضيات حاوية لترتيب منهجى مُعيّن، وفقاً للحالة الانية المراد درسها، فلكى يمكن فهم الظاهرة وتفسيرها بردها إلى الكُل الذى تنتمى إليه، يتعين أن يقف الطرح المنهجى على مُرتكزين رئيسيين؛ المدخل الادائى والمدخل الهيكلى، أدائى ويهتم بالتعرف على مُجمل الاحوال والاوضاع الانية، تحديداً: جغرافياً وسياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً، وهيّكلى يَنشغل بالمعاينة التاريخية للكيفية التى تَكونت معها (إقتصادياً) بُلدان القارة اللاتينية، على هذا النحو مِن التخلف، بوجه عام، وفنزويلا بوجه خاص، بحثاً فى أسباب التخلف وليس فى أثاره، الامر الذى يُمكننا مِن فهم طبيعة الصراع الجدلى بين الربح، الذى تُحصله "بتروليوس دى فنزويلا" شركة النفط الوطنية الفنزويلية، وبين الريع، الذى تجنيه الحكومة الفنزويلية، ولا سيما فى اللحظة التاريخية التى يتعادى رأس المال فيها مع السلطة المسلحة كَقوة مضادة، أقول إن ما يَحدث فى فنزويلا هو فى حقيقته صِراع بين ما قد أسميتها بــ (البتروليتاريا) وبين السلطة. بين قوةِ العمل المتحالفة مع رأس المال والمتناقضة معه فى نفس الوقت وبين النظام المعَبِر عن الجماهير ومصالحها، هى أيضا متناقضة وإن جمعتها مصلحة أنية واحدة. وبعبارة أكثر دقة وتحديداً فإن الصراع الراهن إنما يَتبدى، وإنما إبتداء من ألية تجدد إنتاج التخلف، فى مظهَرين: أولهما: صراع جَدلى ما بين(الربح) وبين(الريع) مِن جهة. وثانيهما: صراع جَدلى بين (البتروليتاريا) وبين (السُلطة) مِن الجهة الثانية. والمظهر الثانى هو التعبير الجدلى عن المظهرالاقتصادى الاول. ولأن التيارات المهيمنة(ومِن باب أولى تيارات التَنظير الامبريالى) مُنشَغلة بحيازة الاستنتاجات المضمونة والسهلة، كما ذكرنا أعلاه، فلم تُبصر، ومَن أَبصَر أَصابهُ الارتباك، مدى أهمية ما ثيره المسألة مِن إمكانية فَتح العديد مِن الملفات المطوية بذهنية تَتَجاوز الرؤية الميكانيكية (التى إرتد لها كثيرون) إلى رحابة الفَهم الجَدلى للظواهر الاجتماعية... الرَحَابة التى تُتيح فَهم أوضَح وأعمَق وغَير مُلتَبس لإمكانية "تحالف الأضداد".
فلقد أفرز الصراع التاريخى الجَدلى الطويل بين قوة العمل وبين رأس المال، وهو صراع جَدلى لا خطى، فى ظروف تاريخية وجغرافية معينة، تحالفاً بين قوة العمل وبين رأس المال فى مواجهة السلطة، إذاً هناك ظاهرة (الصراع الجدلى بين قوة العمل وبين رأس المال) تلك الظاهرة تُفرز ظاهرة (البتروليتاريا) فى مواجهـة ظاهرة ثالثة (السلطة) فيتطور الصراع الاجتماعى مِن صراع بين قوة العمل وبين رأس المال، تطورا جَدلياً كى يَنتقل الصراع إلى مرحلةٍ أخرى تظهر فيه السلطة كأحد الاطراف المتَنَاقضة مع المفرز الجدلى المتمثل فى (البتروليتـاريا) هذا تحديداً ما لا تقوله كراسات التعميم، ومِن ثم لا مَفر مِن لّىّ عنق الظاهرة لحشرها حشراً فى الادراج المعدة سلفاً، يتعين إذاً أن يكون عماد الاشكال النظري الذى نَنَشغل به هنا متعلقاً بالمنهج الجَدلى بوجهٍ عام، والذى يَتَمثل هنا فى فَهم إمكانية"تحالف الأضداد" فى سياق فهم مختلف"للتخلف" بصفةٍ خاصة. لكن التيارات المهيمنة(والتنظير الامبريالى مِن باب أولى) ولإعتيادها النظرة الخطية لم تَتَمكن مِن إستيعاب هذا الوجه الذى يَظهر به الجَدل على المسرح الفنزويلى. وهو الامر الذى يرجع فى التحليل النهائى لذلك الانسياق وراء السهل والمضمون، الانسياق الذى يتبلور فى عدم القدرة على إجراء الفهم المتجاوز للجدل ومن ثم للتخلف كظاهرة تاريخية وإجتماعية، يمكن الخروج منها وإنما إبتداءً من فهمها، فلم تزل قناعاتى كاملة بأن حل أية مشكلة يكمن فى مدى صحة طرحها. وإن الطرح السليم لظواهر الصراع الاجتماعى فى الاجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر يتعين، من وجهة نظر الباحث، أن يأتى فى إطار الوعى الناقد لا لجدلية الصراع فحسب وإنما للحقل الذى تعمل بداخله هذه الجدلية، وهو حقل تجدد إنتاج التخلف.
ففى يوم 4/9/2010 أعلنت وكالة أنباء "رويترز" خبراً مؤداه نجاح فنزويلا فى "إنتاج" أحد أنواع أنابيب الحفر، التى تستخدم فى التنقيب عن النفط وهى تحتاج إلى تقنية معينة ساعدتها فيها موسكو، الامر الذى أسعد ملايين الفنزويليين، وقد سبق المصريون، الفنزويليين، فى تلك (السعادة!!) حينما أعلن وزير النفط السابق"سامح فهمى"أن مصر نجحت أخيراً فى "إنتاج" أحد أنواع رؤس أنابيب الحفر". فما دلالة الخبرين؟ الدلالة فى الخبرين تتحصل فى (إنتاج أحد وسائل الانتاج) بدلاً من(شرائها من الخارج) والفارق ما بين الفعلين، فعل الانتاج وفعل الشراء، فارق كبير، فالاول لا يسمح بخروج القيمة الزائدة المنتجة بداخل الاقتصاد الفنزويلى إلى الخارج فى صورة دولارات تذهب إلى الاجزاء المتقدمة المنتجة لتلك الوسائل الانتاجية التى غالباً ما تحتكرها لغلبة عنصر التكنولوجيا وعنصر كثافة الرأسمال عليها، ودلالة أخرى يمكن إستخلاصها تدعونا إلى فتح ملف هام ومصيرى وهو ملف (إنتاج وسائل الانتاج) إذ أن (جُل) وسائل الانتاج المستخدمة فى مجال إنتاج وتسويق وتوزيع النفط تنتمى إلى المصانع المنتِجة فى الاجزاء المتقدمة، ولا يكون للدولة، بمعنى أدق السلطة فى الدولة، سوى مقابل بيع المادة الخام دون أدنى مشاركة كما ذكرنا فى أى مرحلة من مراحل التنقيب والاستكشاف والحفر والانتاج والتسويق والتوزيع، وما المشاركة الوحيدة سوى من خلال قوة العمل(المنتجة للقيمة الزائدة) التى كذلك تكون فى بعض البلدان المنتِجة تُنافس العمالة الوطنية وبصفة خاصة فى حقل (العمالة الفنية) فإن الملف الواجب فتحه هنا هو مدى ما يُصاحب عدم إنتاج وسائل الانتاج من تسرب للقيمة الزائدة المنتجة داخلياً إلى الخارج؟ وإن الاجابة على السؤال تكون يسيرة على أرض الواقع إذ ما ألقينا النظرة ولو السريعة والعامة جداً على واحد من مواقع إنتاج النفط فى ماراكايبو مثلاً، فلن نجد سوى أن (جُل) وسائل الانتاج التى تستخدم فى الانتاج إبتداءً من التنقيب وحتى الشحن والنقل والتفريغ كلها صناعة أجنبية تمت فى مصانع الاجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى الدولى المعاصر، ولن نتمكن سوى من رؤية منتجى القيمة الزائدة (عمال النفط الفنزويليين) وهم يستخدمون تلك الوسائل أثناء عملية إنتاجهم. الامر الذى يعنى المزيد من إمتصاص الاجزاء المتقدمة للقيمة الزائدة المنتَجة فى الاجزاء المتخلفة، وتكتمل الحلقة بأن تستورد فنزويلا ليس فحسب أدوات وربما مواد الانتاج وإنما تستورد أيضاً وسائل المعيشة، وبصفة خاصة الغذاء والسلع الاستهلاكية المختلفة، وكأن ما سوف يدفع من أجور (لعمال النفط على سبيل المثال) سوف يذهب مرة أخرى إلى الاجزاء المتقدمة المنتجة، وطبعاً كل ذلك فى سياق إعادة إنتاج التخلف"كعملية إجتماعية "مكتملة القوى والعناصر والاطراف" من إرتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، المتناقض مع ضعف(أليات) إنتاجها، ومن خلال هذا التناقض ما بين الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة وبين هشاشة وضعف ألية إنتاجها، تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً إلى الاجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر"
وفلننتقل الان إلى القارة الافريقية القارة الشقيقة لأمريكا اللاتينية واللتان يشتركا فى تاريخ طويل من التخلف الاجتماعى والاقتصادى.
(3)
جدلية الصراع الاجتماعى والاقتصادى فى السودان
يمكن للباحث فى الشأن السودانى، وإنما إبتداءً من الوعى بألية تجدد إنتاج التخلف على نحو ما ذكرنا سلفاً، أن يرصد عدة ظواهر فى إطار الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن فى السودان، أبرزها الانفصال والصراع فى دارفور، دون إغفال الصراع فى الشرق بالطبع، ولسوف أفترض أدناه إمكانية دراسة هذه الظواهر التى تعكس الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن فى السودان من خلال الخط المنهجى الذى يتكون من الخطوط الفكرية الاتية:
(1)يتبدى الصراع فى السودان، دون إغفال الصراع فى الشرق، على مستويين: (شمال/جنوب) و(جنوب/ جنوب) والمستوى الاخير هو أساساً صراع بين القبائل التى (تمتلك) داراً وتلك التى لا (تمتلكها) وإن الخط الفكرى المنشغل بطبيعة الصراع على المستويين إنما يوجب الوعى: ليس فقط بالصراع ما بين الشمال وبين الجنوب. أو بالصراع ما بين بعض أجزاء الجنوب وبين بعض أجزاء الجنوب الاخرى؛ وإنما يتعين الوعى كذلك بالصراعات الداخلية بداخل الشمال، وبالصراعات الداخلية بداخل الجنوب، نفسيهما.
(2)لا يُمكن فهم الصراع، من الاساس، دون الوعى بفكرة (القفص الكبير) الذى وُضِعت بداخله أعراق وثقافات وديانات مختلفة تمام الاختلاف ثم أُطلِقَ على هذا القفص الكبير إسم (السودان).
(3)لا يتطور المجتمع تطوراً خطياً، وإنما يتبدى التطور الديالكتيكى للمجتمع السودانى بالنظر إلى طبيعة الحركات المتصارعة وأداءها اليومى عبر الزمن، إذ تتطور هذه الحركات وتُطور معها المجتمع ككل من خلال أداءات يومية لمصالح متناقضة، ويمكن رؤية تلك الاداءات المتناقضة من خلال الاداء اليومى كما ذكرت عبر الزمن فى: الكر والفر، الاقدام والاحجام، الهجوم والدفاع، النصر والهزيمة، العداء والمصالحة، التحالف والانفصال، فهذا التناقض، ومفرزاته، هو الذى يدفع المجتمع نحو التغيّر، أياً ما كان نوع التغيّر، ولقد رأينا: جيش السودان/جيش الرب (ضد) القوات الشعبية الاوغندية/الجيش الشعبى لتحرير السودان، الجنجويد (ضد)الافارقة فى دارفور/جيش السودان/جيش الرب/جيش تحرير السودان، أريتريا/مؤتمر البجا(ضد)المعارضة الاريترية/الجيش السودانى، وهكذا...ولم يزل الصراع والتطور مستمرين.
(4) تبدأ العملية التاريخية الدامجة للسودان فى الكُل الرأسمالى على الصعيد العالمى، وتهيئته كمصدر للقيمة الزائدة، ومن ثم فقد شروط تجديد إنتاجه، مع أول إتصال فعلى مع قانون الحركة الحاكم لألية عمل النظام الرأسمالى (ن - ق ع - "قوة عمل"+ و أ"وسائل إنتاج"- س- Δ ن) على يد عدوانية رأس مال دولة محمد على، ومن بعدها بريطانيا، الشارعة، آنذاك، فى الدخول فى عملية التركيم الرأسمالى والتى تستلزم (ن) و (ق ع) و ( و أ) الامر الذى جعل السودان هدفاً رئيسياً من أجل الاستحواذ على مصادر هذا التراكم: المعادن، والعبيد، والغذاء. الامر الذى إستصحب ضمان ولاء نخبة معينة يتم صنعها تضمن إستمرار تدفق القيمة الزائدة مع المعادن والخام والغذاء حتى بعد الخروج من البلد، كما إستصحب تقسيم المجتمع إلى أجزاء غنية وأجزاء فقيرة.
(5) ودون أن ننسى الصراع فى الشرق، يتطور المجتمع السودانى من خلال الصراع على صعيدين: الشمال/الجنوب، والجنوب/الجنوب. والاخير مفهوم فهو، كقاعدة عامة، من أجل الماء والكلأ. أما الاول فهو من أجل بسط نفوذ وهيمنة الشمال على الجنوب الغنى بطبيعة حاله، وبصفة خاصة عقب تفجر النفط.
(8) وإن تلك الانشقاقات الداخلية التى تكون بين قوى الجنوب بوجه عام لا تتكون بين عشية وضحاها، وإنما هى نتاج تفاعل ديالكتيكى ما بين الرغبة فى الثروة، بما يعنى ذلك معادة للاقوى المهيمن، وما بين الرغبة فى حماية هذا الاقوى والاكثر عدداً، وهذا هو القانون العام لجميع الانقسامات والتطورات على أرض الواقع، وبصفة خاصة جداً بداخل القبائل.
(9) وإن أوضح مثل على تطور المجتمعات من خلال التفاعل الديالكتيكى إنقسام السودان نفسه؛ فقد أسفر النزاع الممتد عبر سنوات بين الشمال وبين الجنوب إلى نشؤ دولتين لهما خصائص الدولة الاولى(السودان) وخصائص تُخلقها كل دولة بمعرفتها من خلال الحراك الاجتماعى بداخلها وتفاعل عناصرها الداخلية، ومع الزمن يتم دمج الخصائص القديمة فى الخصائص الجديدة فى كيان يمثل خصائص جديدة تجمع ما بين خصائص السودان وخصائص شمال السودان(العربى)فى الشمال، وخصائص جديدة تجمع ما بين خصائص السودان وخصائص جنوب السودان(الزنج/الأفارقة)فى الجنوب.
(10)السودان دولة، أو هكذا صارت بفعل التدخل الاستعمارى، ذات موارد هائلة، وتتركز معظمها فى الجنوب، ومعنى إنفصال الجنوب، حرمان الشمال من تلك الموارد فى مقدمتها النفط، فى حين يحرم الشمال من الوصول السهل إلى المنافذ إلى العالم بحراً، فلا بد من المرور فى أرض الشمال، وإما تكبد مشقة مسافات بعيدة عبر الاراضى الاريترية، أو الاثيوبية، وصولاً إلى البحر الأحمر، ومنه إلى العالم الخارجى.
(11) بسبب فقد السودان لشروط تجديد إنتاجه، فهو يعتمد، كأحد الاجزاء المتخلفة، على ما يحدث خارجه فى الاجزاء المتقدمة، التى تتحكم فى مصيره. وما السلطة التى تدعى حب الشعب، والتضحية من أجله، وتسعى إلى أن تستمد من عدوانية الامبريالية قوة دعائية لدى الشارع السودانى، إلا أهم وسائل تسرب القيمة الزائدة إلى خارج المسام، ب�