تطوير الكفاءة الوظيفية للوحدات المحلية
د/ ندى فهد الناصر
تقاس كفاءة الوحدات المحلية من الناحية الوظيفية من خلال العلاقة بينها و بين الدولة، أي بمدى تحقق مبدأ اللامركزية الذي يمنح هذه الوحدات قدراً من الاستقلالية تجاه السلطة المركزية. و ليس المقصود هنا الاستقلال المطلق بالمعنى نفسه الذي يطبق على الدول ، بل الاستقلال النسبي الذي يخول الدولة ممارسة سلطة رقابية على وحداتها المحلية.
بداية إن تعزيز استقلالية الوحدات المحلية يتطلب تمثيل مجالسها المحلية على نحو ديمقراطي؛ بحيث يشعر كل مواطن بأنه ممثل في المجلس المحلي. فالمشاركة الشعبية في السلطة الإدارية هي مسألة كائنة في قلب الديمقراطية. هناك شرط لا مفر منه لديمقراطية محلية حقيقية ومباشرة ألا و هو الاقتراع العام المباشر الذي يجعل المجالس المحلية المنتخبة مسؤولة بشكل كامل أمام السكان المحليين : حيث إن أي إخلال من قبل العضو المنتخب للواجبات أو للالتزامات المترتبة عليه سيحمله مسؤولية تجاه الناخبين. لا بد من التنويه إلى أن انتخاب أعضاء المجالس المحلية و أعضاء الهيئات التنفيذية المحلية يجب أن يتم في نفس الوقت وعلى نفس القوائم.
إن الاعتراف بمبدأ (حرية الإدارة ) للوحدات المحلية يجب أن يكون دستورياُ. فمن الضروري اعتماد هذا المبدأ كأساس قانوني و كضمانة ممنوحة للسلطات المحلية لتحقيق استقلالها الوظيفي. هذا الاعتراف يحب أن يتناول حرية الوحدات المحلية في عدة نواح : الحرية في تشكيل المجالس لالمحلية ، الحرية في عقد الاجتماعات و تحديد نصابها القانوني، الحرية في إنشاء لجان دائمة أو مؤقتة ولجان متخصصة تتيح مشاركة المواطنين.
إن هيمنة سلطات الدولة على الوحدات المحلية لا تتجلى فقط من خلال توزيع الاختصاصات المحلية والموارد المالية، ولكن أيضا من خلال اللجوء الى سلطة الوصاية الإدارية. و بالتالي فإن تقدير مدى الاستقلالية الوظيفية للوحدات المحلية لا يكمن فقط من ناحية الوظائف و الاختصاصات المحلية الممنوحة لها و درجة استقلالها المالي و إنما أيضاً من ناحية الرقابة الممارسة عليها من قبل السلطات المركزية:
ويمكن تطوير الكفاءة الوظيفية للوحدات المحلية في المجالات الثلاثة التالية:
أولاً : فيما يتعلق بالوظائف و الاختصاصات المحلية:
إن وضوح المشرع عند توزيع الاختصاصات بين الدولة والسلطات المحلية يشكل مطلباً أساسياُ في تطبيق اللامركزية. كذلك فإن نقل سلطة اتخاذ القرار من السلطات المركزية إلى السلطات المحلية هو أساس هذه اللامركزية. هذا يتم عن طريق إعطاء السلطات المحلية الوسائل التي تمكنها من أداء المهام ذات الصفة المحلية مع الاحتفاظ للسلطة المركزية بالأعمال ذات الصفة الوطنية. لا بد من الإشارة إلى أن التقسيم الترابي في الدولة يجب أن يكون متوافقاً مع مدى الاختصاصات المحلية، فالتنظيم المحلي « ليس علم هندسة، إنه عملية ديناميكية «.
إن مبدأ )الاختصاص العام) للسلطات المحلية يملك أهمية كبيرة في المجتمعات المتغيرة و المتحركة باستمرار. فالاعتراف بهذا المبدأ سيمنح السلطات المحلية القدرة على الاستجابة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية و تلبية الاحتياجات الجديدة للسكان وإدارة شؤونهم بحرية في كل ما يمس نمط الحياة اليومية، هذا المبدأ يجب أن يتم إقراره لجميع الوحدات المحلية في الدولة لتحقيق المساواة فيما بينها دون التعدي على الصلاحيات التنفيذية للدولة فيما يتعلق بالأعمال ذات الطابع الوطني.
ومن أجل دعم الكفاءة الوظيفية للوحدات المحلية لا بد من تطوير الوسائل التقنية والمادية المتاحة للسلطات المحلية أثناء ممارسة نشاطاتهم. إن وسائل التكنولوجيا الجديدة تقدم فرصاُ داعمة للشفافية بين السلطات المحلية والمواطنين. هذه الشفافية تشكل جسراً ثميناً بين الديمقراطية واللامركزية.
ثانياً : من ناحية الوسائل المالية المتاحة للوحدات المحلية و مدى استقلالها المالي :
تتطلب اللامركزية اللجوء الى نموذج مالي يضمن الموارد الكافية للوحدات المحلية لإنجاز مهامهم وبالتالي استقلالهم المالي ، و هذا يتطلب:
- زيادة المساعدات والإعانات التي تمنحها الدولة للسلطات المحلية للحد من ديونها ، ومن ثم الشروع في سياسة تعزيز الاستقلال المالي الذي بموجبه تعطى السلطات المحلية كامل القدرة على الشروع في الإنفاق وتحصيل الإيرادات.
- تحديد وعاء ومعدل الضرائب المحلية في إطار القانون و بدون تدخل من الحكومة المركزية.
- زيادة حصة الميزانيات المحلية المخصصة للاستثمار وتشجيع السلطات المحلية على إعطاء أولوية للمشاريع المحلية ذات المحتوى الاقتصادي (السياحة و الصناعة) أو الثقافي (المسارح والنوادي) وتطوير مشاريع التنمية الإقليمية المستدامة.
- الشفافية يجب أن تكون في صلب الإدارة المحلية المالية ، و يكون ذلك من خلال فرض نشر الوثائق المالية والاعتراف للمواطنين بحقهم في الحصول على المعلومات المالية و اللجوء إلى العدالة في حالة التجاوزات ، وهو ما سيعطي القضاة إمكانية التأكد من مدى انتظام ومصداقية الأعمال المالية و الموازنات.
ثالثاُ: فيما يتعلق بالرقابة الممارسة على الوحدات المحلية:
إن التقييم الموضوعي لمدى الكفاءة الوظيفية للسلطات المحلية و بالتالي درجة اللامركزية التي تتمتع بها يتطلب تحليلاُ لدرجة الرقابة الممارسة عليها من قبل الدولة وممثليها. هناك علاقة حتمية بين اللامركزية من جهة و الرقابة على الهيئات المحلية من جهة أخرى. يؤكد بعض الكتاب أن ضمان مبدأ (حرية الإدارة ) للوحدات المحلية يجب أن تكون محصناً ضد أي خرق أو هيمنة من قبل الدولة. إلا إن هذه الحرية لا يجب أن تكون بلا حدود لأن ذلك سيؤدي الى الفوضى و تمزق وحدة الدولة. لذا يجب أن تمارس هذه الحرية وفقا للمبادئ الأساسية للدولة وخاصة مبدأ الشرعية وسيادة المصلحة العامة. إذاً الرقابة على السلطات المحلية ضرورية من أجل التحقق من مدى توافق أنشطتها و أعمالها مع المبادئ الأساسية للدولة دون تقويض مبدأ (الاستقلالية المحلية).
تأخذ الرقابة الممارسة على الوحدات المحلية أشكالاً متعددة : الرقابة الشعبية ، الرقابة القضائية ، والرقابة الإدارية التي تدخل ضمن نطاق العلاقة بين الدولة والسلطات المحلية.
الرقابة الشعبية هي رقابة متاحة للناخبين. كل وحدة محلية يجب أن تكون مسؤولة أمام مواطنيها. تستلزم هذه المسؤولية عدة أمور : أولها: التشاور مع المواطنين و أخذ آرائهم بعين الاعتبار في كل عمل أو مشروع محلي : إن إشراك المواطنين في اجتماعات المجلس المحلي يعتبر ضرورة باعتبارهم أصحاب العلاقة إزاء الأعمال المتخذة من قبل هذا المجلس. ثانيها: الشفافية و نشر المعلومات: إن نشر الأعمال الإدارية الصادرة عن المجالس المحلية هو حق يجب أن يضمن للأشخاص الخاصة أو العامة. الكفاءة الوظيفية للمجالس المحلية تمر من خلال توعية المواطنين بالسياسة المحلية، ولهذا السبب فإن إشراك المواطنين يجب أن يكون دافعاً لوعيهم .
الرقابة التي تمارسها الدولة على السلطات المحلية هي رقابة إدارية لأنها تمارس من قبل سلطة إدارية و بموجب قرارات إدارية. مبررات هذه الرقابة كثيرة منها : ضمان وحدة الدولة على المستوى السياسي والإداري والمالي؛ وذلك تجنباُ من أن تشكل الوحدات المحلية التي تملك العديد من الامتيازات والصلاحيات دولاُ داخل الدولة. الحفاظ على المصلحة الوطنية للدولة خاصة في الأمور المالية هي مسألة أخرى تبرر الرقابة الادارية و تسمح بمراقبة الكفاءة الوظيفية وحسن سير المرافق المحلية في الدولة. إن نقص تأهيل الموظفين المحليين لإدارة الشؤون المحلية هي مشكلة واضحة في معظم المرافق المحلية في الدول العربية. والرقابة الادارية تحمي المصلحة المحلية ومصلحة المواطنين من تجاوزات وإهمال السلطات المحلية.
من المؤكد بأن الرقابة على السلطات المحلية لابد أن تستمر و لكن بعد أخذها صيغاً مخففةُ. إن تخفيف الرقابة وبالتالي إعطاء استقلالية أكبر للوحدات المحلية يكون من خلال : تخفيض عدد الجهات الرقابية لأن تعددها يؤدي إلى تأخير في تنفيذ الأعمال المحلية. يجب أن تكون أعمال المجالس المحلية قابلة للتنفيذ من قبل المجالس نفسها و ذلك من تاريخ صدورها. الرقابة المخففة ينبغي أن تتمثل فقط برقابة لاحقة، محدودة وغير قابلة لتفسير موسع . الرقابة الإدارية يجب أن تشمل القرارات الهامة للمجالس المحلية ، مثل الميزانية ، أما فيما يتعلق بباقي الأعمال فلا يطبق عليها إلا رقابة قضائية. ولا يجب أن تكون قرارات السلطة المركزية الناتجة عن الرقابة نهائية أو غير قابلة للطعن : إن الحق بالطعن في هذه القرارات يجب أن يضمن أمام هيئة قضائية مستقلة ومؤهلة. ووظيفة القاضي الإداري يجب أن تتمثل في إلغاء قرارات السلطات المحلية بناءاً على طعن أصحاب العلاقة أو ممثلي الدولة وقرارات سلطة الرقابة بناءاً على طعن مقدم من قبل السلطات اللامركزية. على صعيد الرقابة المالية، يجب أن تكون الرقابة لاحقة و واضحة و متوافقة مع حجم وطبيعة العمل المراقب، ويجب أن تقتصر الرقابة على شرعية هذه الأعمال و أن يعهد بها الى هيئة مؤهلة ومزودة بالخبرة اللازمة.
هذه هي أهم المجالات لتطوير كفاءة الإدارة المحلية وظيفياُ، و من المؤكد أن تنفيذها يتطلب وجود إرادة قوية لإحداث تغيير حقيقي والتغلب على أوجه القصور الحالي للإدارة المحلية سواء على الصعيد الهيكلي أو الوظيفي. يجب أن يحد النظام الإداري المحلي في البلدان العربية طريقه إلى اللامركزية الإدارية والديمقراطية المحلية، ومن المرجح أن ترسيخ هذين المبدأين يزيد فرص التنمية المحلية.
و أخيراُ فإننا على قناعة بأن الدولة لن تنمو و لن تزدهر إلا من خلال تطوير نظام إدارتها المحلي بشكل يتناسب مع المبادئ الديمقراطية. فمن المهم إذاً أن نبدأ بزرع بذور الديمقراطية المحلية لجني النتائج المرجوة في المستقبل القريب، فكما قال الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران (François Mitterrand ( « هناك دائماً مستقبل للذين يفكرون به».