على الرغم من أن تخصص الإدارة العامة تتزايد أهميته في دول العالم حتى تلك الدول التي تعد مهد الرأسمالية وتطبق اقتصاد السوق كدول غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه يتراجع بل يتقهقر في الجامعات السعودية! إن السبب وراء اهتمام تلك الدول بتخصص الإدارة العامة هو إدراكها أن الإدارات الحكومية تمثل ركنا أساسا في ضبط آلية السوق وإعادة توزيع الدخل وتحقيق الرفاهية والعدالة الاجتماعية وتوفير السلع والخدمات العامة.
إذ إن آلية السوق تفشل في توفير هذه السلع والخدمات العامة، فهناك آثار جانبية سلبية وإيجابية لا يستطيع القطاع الخاص احتواءها والتعامل معها، على سبيل المثال التلوث البيئي الذي ينشأ من الصناعات هو شكل من أشكال الآثار السلبية، في المقابل توفير خدمة التعليم لها تأثير إيجابي يتعدى المستفيدين أنفسهم إلى المجتمع بأكمله، فالفرد المتعلم يكون أكثر انضباطا وإنتاجية على الأقل من الناحية النظرية مقارنة بمن هم أقل تعليما، ولو تركت فقط للقطاع الخاص ما تمكن الكثيرون من الحصول عليها لأن نظام السوق يعتمد على قدرة ورغبة الأفراد في الشراء.
أما السلع والخدمات العامة فهي تتصف بأنها لا تقبل التجزئة ولا يمكن استثناء أي أحد من الاستفادة منها بمعنى أن استهلاكها يكون جماعيا مثل الهواء النقي أو الطريق العام فلا يمكن حجرها عن الآخرين كما أن عدم إمكانية تجزئتها يجعل من الصعب تسعيرها، وبالتالي لا يمكن تقديمها عن طريق السوق. وإذا كان نظام السوق يعتمد على قوى العرض والطلب وعبر هذه الآلية تتحق الكفاءة الاقتصادية التي تعني استخدام الموارد استخداما يحقق متطلبات ورغبات الأفراد في المجتمع ويضمن حرية الاختيار في الاستهلاك وهو ما يميز نظام السوق، إلا أن هذه الحرية والمنافسة في السوق التي دعاها آدم سميث " اليد الخفية" التي تنظم استخدام الموارد لا يمكن التنبؤ بها فالسوق مفتوح على مصراعية لتقلبات في أنماط الاستهلاك والمتغيرات والمستجدات المفاجئة التي تعصف به من حين لآخر ولا يملك أحد التحكم فيها وتوجيهها والتعامل معها.
من هنا كانت الدعوة لتدخل الحكومة كطرف ثالث في آلية السوق لضبطها وإعادة التوازن إليها وهو ما دعا له كينز في الثلاثينيات من القرن المنصرم، خاصة بعد الركود الاقتصادي العظيم الذي تعرض له كثير من الاقتصادات الرأسمالية. وكان لا بد من تدخل الدولة لتعديل مسار الاقتصاد عبر حزمة من السياسات اعتمدت على توسيع دور الحكومة في الاقتصاد وتقديم خدمات ومشاريع لم يعهد أن قامت بها في السابق.
وتزامن مع ذلك القيام ببحوث ودراسات في تطوير النظم الإدارية وتحسين كفاءة الأداء والبحث عن طرق ووسائل جديدة ترفع معدلات الإنتاج في القطاع الحكومي، وكان من نتائج هذه الدراسات تحديد مبادئ الإدارة (التخطيط، التنظيم، القيادة، والرقابة)، التي استفاد منها تخصص إدارة الأعمال وما زالت تمثل أساسا للنظرية الإدارية حتى وقتنا الحاضر. ومنذ ذلك الحين والإدارة العامة كتخصص نما نموا كبيرا في الدول الغربية والشرقية حتى لا تكاد جامعة تخلو منه تحت أسماء مختلفة، بل إن هناك جامعات بلغ فيها التخصص من الأهمية أن تكون هناك كليات متخصصة للدراسات الحكومية أو السياسات العامة أو الإدارة العامة. وهذا بلا شك يعكس أهمية النهوض بالقطاع العام وأدائه لأن كفاءة وفاعلية القطاع العام لها تأثير مباشر وكبير في أداء الاقتصاد الوطني بشكل عام والقطاع الخاص بشكل خاص. لقد أدركت هذه الدول أن لا مناص من تدخل الدولة في الاقتصاد، وإذا كان كذلك كان لا بد من التأكد من أن الإدارات الحكومية تعمل بكفاءة وفاعلية وتهيئ الفرصة للقطاع الخاص للنجاح.
وحقيقة الأمر أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن يكتب لها النجاح دون الارتقاء بالقطاعين العام والخاص فهما جناحاها اللذان يساعدانها على التحليق إلى مستويات أعلى من التقدم الاقتصادي والرقي الاجتماعي.
هكذا نجد أن هناك ادوارا كبيرة تلعبها الإدارة العامة، بل إنها تشكل معيارا أساسيا لمدى قدرة الاقتصادات الوطنية على النمو والمنافسة عالميا. من هنا كانت الحاجة إلى تنظيمات إدارية حكومية تكون قادرة على الاستجابة للمتغيرات والمستجدات ولها القدرة على التكيف والإبداع، لكن كيف السبيل إلى ذلك وطبيعة التنظيمات الحكومية في جوهرها تعتمد على التنظيم البيروقراطي. فالتنظيمات الحكومية بطبيعتها تنظيمات كبيرة وفي ذات الوقت هي غير ربحية ومعظم خدماتها لا يمكن تسعيرها عن طريق السوق، ما يؤدي إلى الاعتماد على آلية ضبط تعتمد على الإجراءات الصارمة وتسلسل هرمي للسلطة.
من هنا كان لا بد من مضاعفة الجهود في مواجهة هذا التحدي الكبير في جعل التنظيمات الحكومية تعمل بكفاءة وفاعلية في تحقيق أهدافها (بما في ذلك الحفاظ على سرية المعلومات الحساسة وتطبيق الإجراءات الداخلية) وفي الوقت ذاته مرنة تستجيب للمتغيرات وتحقق متطلبات الناس. إن هذا الوضع يتطلب دراسات مكثفة ومستمرة للإدارات الحكومية لمنحها نوعا من المعلومات المرتدة حتى تتأكد من مسارها وقدراتها على المساهمة في التنمية الوطنية.
وقد يكون من أهم الأمور التي يجب مراعاتها في هذا السياق هو تطوير بيئة العمل وإيجاد ثقافة الإبداع والتطوير، وهذا لا يتأتى إلا من خلال تطوير الموارد البشرية والارتقاء بها فكرا وميولا وسلوكا، وهذا ما يفترض أن يقدمه تخصص الإدارة العامة.
فالعناصر البشرية هي عناصر التغيير داخل المنظمات الحكومية وهي السبيل لإحداث التغييرات المطلوبة وزرع ثقافة جديدة تحث على الإنتاج وتعزز قيم الشفافية والرقابة الذاتية والسعي الجاد لخدمة العموم التي هي الهدف الأساس من العملية الإدارية. ولا تتوقف إسهامات تخصص الإدارة العامة في الكليات الإدارية عند هذا الحد بل يتعداه لما هو أهم وهو تقديم الاستشارات والدراسات لتطوير النظم ، وهو مسار داخل التخصص يعنى بالتغيير والتطوير واستكشاف المشكلات والنزاعات وخلق ثقافة جديدة وتحقيق التعلم التنظيمي وبناء القدرات والمعرفة التراكمية وتحويل المنظمات إلى مؤسسات لها قيمة اجتماعية وقادرة على إحداث التغيير الاجتماعي.
هناك من يدعي أن وجود معهد الإدارة العامة كمؤسسة معنية بالتدريب والتطوير في القطاع العام يسد الاحتياج وليس هناك ضرورة إلى إنشاء أقسام وكليات أكاديمية متخصصة في الإدارة العامة. وعلى أن معهد الإدارة العامة مؤسسة لها إسهامات كبيرة ومقدرة إلا أنه يظل يقدم برامج تدريبية وليس تعليمية وهناك فرق بين الاثنين. قد يكون عدم إدراك هذا الفرق بين التدريب والتعليم هو ما يجعل البعض لا يدرك ضرورة التخصص الأكاديمي للإدارة العامة. إن التدريب يعنى بالوظيفة أي إكساب الموظف المهارات التي تساعده على أداء عمل أو مهمة بعينها، بينما التعليم يقصد به تطوير الشخص نفسه وتوسيع مداركه والقدرة على التحليل وفهم المتغيرات وطرق البحث والاستنتاج واكتساب المصطلحات المهنية والعملية للتعبير عن الظاهرة الإدارية.
إن التعليم موجه نحو جعل الشخص أكثر قدرة لفهم ما يدور حوله من أحداث؛ ومن ثم التعامل معها وإيجاد معالجات وحلول باستخدام طرق البحث العلمي والتفكير النقدي، وهذا يحتم أن يكون لديه فكر إداري وفلسفة ورؤية تمكنه من فهم الظاهرة والوضع الراهن ووضع تصورات مستقبلية لما ينبغي أن يكون. هذا الفرق بين التدريب والتعليم هو الفرق بين تطوير المهارات وتطوير النظم وبيئة العمل وخلق ثقافة جديدة، أنه الفرق بين المعرفة والقدرة على توظيف المعلومات في ظروف وأوضاع مختلفة.
لقد كان أمرا غريبا يصل حد الاستهجان في أن تقدم بعض الجامعات السعودية إلى تقليص أقسام الإدارة العامة في ظل التحديات الكبيرة التي نشهدها على الساحة الداخلية والعالمية. فالمنافسة العالمية على أشدها والانفتاح الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والتقني لم يشهد له مثيل من قبل، وهذا يتطلب أجهزة حكومية مبدعة تستطيع أن تستوعب هذه المتغيرات بل جعلها تعمل لصالح المجتمع. الحقيقة التي يجب أن تكون حاضرة هي أن القطاع الحكومي وفي جميع الدول دون استثناء يتوسع بمعدلات كبيرة، ولم يذكر تراجع حجم القطاع العام في أي دولة كما يشير إلى ذلك ما يعرف باسم قانون واجنر Wagner’s Law. ، وإذا كانت هذه حقيقة فإنها تعني أن من المفترض التوسع في تخصص الإدارة العامة بدلا من تقليصه! إن التطوير والإصلاح الإداري الذي تسعى الدولة إلى تحقيقة والذي يرتكز إلى التحول نحو اللامركزية ومنح الوحدات الإدارية المحلية الاستقلال المالي والإداري، إضافة إلى تطبيق الحكومة الإلكترونية يتطلب جهودا كبيرة وموارد بشرية ودراسات ميدانية لا يمكن توفيرها إلا من خلال كليات متخصصة في الإدارة العامة.
إن الكثير مما نعانية اليوم في القطاع الحكومي يعود إلى أسباب ثقافية تنظيمية وبشرية يجب معالجتها معالجات جذرية وهذا ما يستطيع تخصص الإدارة العامة فعله، فهل تتدارك الجامعات السعودية والوزارات المعنية أهمية تخصص الإدارة العامة ؟