بسم الله الرحمن الرحيم
( قصــة قصيرة ) الصديـق الجــن !!
ذلك اليوم المضطرب المشهور لدى إنسان العصر .. حيث الخطوة الأولى في مشوار المعية .. أول يوم في المدرسة .. وهؤلاء هم الصغار .. الكل يجهل الكل .. والكل قادم من فج عميق .. والعيون اليافعة حائرة تتفحص الملامح والوجوه .. والصمت ذلك المقدس يكتسي ساحات الصغار .. فهي تلك النفوس الصغيرة الوجلة المترددة التي تتعامل مع المجريات بنوع من التحفظ والانطواء .. والتي تتجنب الإقدام والجرأة عند الوهلة الأولى .. فتلك مرحلة لازمة تتطلب نوعاَ من الحيطة والحذر .. مقترنة بنوع من إشارات حب الاستطلاع والتفحص .. وتلك نزعة مفطورة كامنة في أعماق كل إنسان .. لحظات تسبق عادة مراحل الاندماج الصريح .. وهي لحظات حرجة تسبق التعارف مع الآخرين .. بعدها تتفتح القلوب لبعضها .. وتبدأ الخطوات بتلك السلوكيات اللبقة الحذرة .. حيث يتحايل الكل ويتحاذق ليعرف أسرار الآخر .. بدايات من البوح الخافت الذي يكسر حواجب الصمت .. وتبدأ في إذابة الجليد .. وتلك البدايات في جوهرها قد تكون تافهة بدرجة الوهن .. فهي بغير أوزان أو قيمة عميقة .. مجرد أداة لرفع الكلفة البينية .. فالسؤال مثلاَ عن لون الأزرار التي تربط فتحة القميص .. أو التلميحات لطرد نملة تمشي فوق الأكتاف .. أو السؤال عن تلك اللعبة الجميلة التي في الكف .. أو الإشارة لصورة توم وجيري الموجودة في قميص أحد المتواجدين .. أو ذلك السؤال البديهي : ( هل ذلك الشخص الذي في المعية هو الوالد ؟؟ ) .. وفي الحقيقة فإن الطفل لا يريد الإجابات عن تلك الأسئلة .. ولكنه يتحايل ليجد مدخلاَ للحوار .. وهنالك بدايات عديدة تمثل الفاتحة لمشاوير الرفقة الطويلة .. وفي عالم الصغار فإن تلك المراسيم تتم سريعة سلسة دون تعقيدات ولا تدوم طويلاَ .. حيث في لحظات قليلة تتقارب القلوب وتتحطم حواجز الصمت .. ومن أعجب الأشياء أن تلك اللحظات الأولى التي تمثل فاتحة التعارف بين طفلين قد تتوثق مع مرور الأوقات لتكون أساسا لصداقة حميمة .. تلك الصداقة التي تدوم في مراحل الدراسة .. وقد تدوم حتى نهاية الأعمار .. وهنا قصة ذلك الطفل ( سمير ) الذي تعارف في ذلك اليوم مع الطفل ( عاطف ) .. والصدفة فقط هي التي أقامت التواصل والحوار بينهما .. وذلك بحكم الجلوس متجاورين في نفس المقعد .. تحاورا قليلاَ بكلمات عشوائية مبهمة باهتة غير ذي معنى .. وغير متلاحمة في أهدافها .. ولكنها كانت كلمات كافية في إقامة الجسور البينية وطرد الجمود والسكوت .. فبدأ كل طرف يجاري ويجتهد بالقدر الذي يرضي الطرف الآخر .. وفي لحظات معدودة أصبح الحوار بينهما يدور بوتيرة حميمة .. وكل من يتمعن في منظر الطفلين وهما يتحاوران يظن أن ذلك التعارف قائم بينهما منذ أمد بعيد .. مرت الساعات وتمت طقوس الاستقبال في ذلك اليوم .. وبعد ذلك دارت عجلات الأيام في المدرسة .. ثم رويداَ ورويدا تعاضدت صلات الرفقة بين الصغار بدرجة التمام والكمال .. حيث تلك الجولات والصولات الطبيعية بين رفقاء الدفعة والدراسة .. وتعاقبت الأيام والسنوات .. ونمت العقول وكبرت الأجساد .. ثم تلك المفاهيم قد تجاوزت مراحل الطفولة لتلتقي حتى مراحل الشباب والرجولة .
وفي ذات يوم كثير الغيوم كثيف الهموم تفتحت صفحات الطلاسم أمام الصديق سمير .. حين جلس وحيداَ حائراَ منكسراَ يجهل أسرار المجريات .. فتلك المجريات مبهمة وغريبة للغاية .. وأحداث ذلك اليوم قد أجلبت كل ألون العجب .. حين أختفي فجأة الصديق الحميم ( عاطف ) عن الوجود .. والاختفاء هنا ليس بذلك المعنى القريب للأذهان .. حيث الغياب عن ساحة العيون .. ولكنه اختفاء خارق غامض فوق أعراف الطبيعة والسنن .. كما أنه اختفاء حائر فوق مبررات العقل والمنطق .. لقد اختفى عن الوجود وذاب كلياَ في متاهات المجهول العنيد الملول .. دون أن يترك دليلاَ أو أثراَ يؤكد أنه كان يتواجد في يوم من الأيام .. وفي ظروف مبهمة غامضة أصبح ذلك الاسم جدلاَ يفقد البراهين والثوابت .. حيث تلك الإشارات والعلامات المفقودة التي تبرهن التواجد سابقاَ .. فلا آثار ولا سيرة له في أروقة الحياة بين الأحياء .. كما لا آثار ولا سيرة له في أروقة الموت بين الأموات .. وتلك الصداقة التي دامت بين الصديقين لسنوات وسنوات تبخرت وتلاشت بين ليلة وضحاها .. وأصبحت في ذمة الشك والظنون .. كانت تلك الصداقة عريقة ومتينة .. وكانت مبنية على مناسك المحبة والصدق والإخاء .. وقد لازمت كل مراحل الدراسة .. ثم تعدت لتلازم مراحل العمل والكفاح .. واللقاءات بينهما كانت عادة تتم في جلسات هادئة وسعيدة في الحدائق العامة .. أو في بعض المقاهي المشهورة .. أو في ملاعب كرة القدم .. حيث تعود الاثنان مشاهدة مباريات كرة القدم سوياَ في أكثر الأحيان .. وخاصة تلك المباريات التي يكون فيها فريق ( الاتحاد ) طرفاَ .. حيث أنهما يشجعان ذلك الفريق بنوع من الإدمان .. ولأسباب مبهمة كانا يفضلان اللقاءات في معزل عن أجواء الأسر والمنازل .. فكانت تلك الأريحية في لقاءات الصداقة الصريحة المريحة البريئة .. الخالية من طقوس المجاملات العائلية المعقدة التي تجبر الخواطر .. ومع ذلك فقد جرت بينهما زيارات خاطفة معدودة في أروقة المنازل .. وبالتالي فإن سمير يحفظ جيداَ موقع وعنوان منزل صديقه ( عاطف ) .. أما خلاف ذلك فكان لديهما الكثير والكثير من المواقع والساحات والمحلات التي تحمل ذكريات المعية .. وهي ساحات ومواقع شهدت مقامرات الصديقين .. حيث أسرار الأصدقاء الأوفياء الأشقياء .. وحيث جولات وصولات الشباب في أزمان الفتونة والمراهقة .. كما أن الصديقين كانت لهما الكثير والكثير من الألبومات التي تحوي على الصور الخاصة للصديقين بجانب الصور المشتركة مع زملاء الدراسة .. ثم فجأة ودون سابق إنذار أختفي ذلك الصديق الحميم دون أن يترك أثراَ .. بحث عنه الصديق ( سمير ) كثيراَ .. ولكن دون جدوى رغم شدة المسعى .. يسأل عنه في تلك الأروقة المعهودة التي كانا يلتقيان فيها سوياَ .. ولكنه كان يتلقى من الناس إجابات مبهمة وغريبة للغاية .. فقد كانوا يصدمونه باستفسار غريب للغاية حيث ذلك السؤال ( من هو عاطف ) ؟؟ .. لقد أزعج ذلك الاستفسار سمير كثيراَ .. كان يجتهد كثيراَ في البحث عن صديقه .. وكان يقابل المعارف والأصدقاء وأصحاب المحلات يسألهم إذا شاهدوا صديقه ( عاطف ) قريباً .. إلا أن الجميع كانوا يبادرونه بالسؤال العجيب ( من هو عاطف ؟ ) ! .. فجن جنون سمير .. هل يعقل أن الناس جميعاَ قد نسوا ذلك الصديق ومواصفاته كلياَ ونهائياَ بتلك السرعة !!.. والأمر عجيب جداَ حين يلتقي الجميع في ذلك التجاهل بدرجة التطابق !! .. فكيف يحدث ذلك .. وكيف يتنكر الجميع سيرة ذلك الصديق ومواصفاته بين ليلة وضحاها !! .. ولما أعيته الحيلة رغم ذلك السعي الدءوب في إيجاد الصديق الحميم ذهب مباشرة لمنزل الصديق ( عاطف ) .. حيث ذلك المنزل الذي زاره قبل سنوات .. طرق باب المنزل فخرج أحد أفراد الأسرة يستفسر عن الأمر .. ولكن ذلك الشخص لم يره سمير من قبل ضمن أفراد أسرة ( عاطف )!!.. ومع ذلك عرف سمير عن نفسه وعن هويته .. ثم استفسر عن صديقه ( عاطف ) .. فكانت المفاجأة حين أجاب ذلك الشخص مستفسراَ في دهشة ( من هو عاطف ؟؟!! ) .. فتعجب سمير من ذلك الأمر .. وحاول أن يشرح ويعطي المزيد من الأوصاف والملامح .. ولكن ذلك الشخص أنكر وأصر قائلاَ أنه يسكن في ذلك المنزل لأكثر من ثلاثين عاماَ ولا يوجد ضمن أفراد الأسرة شخص يحمل ذلك الاسم !! .. تلك الإجابة الشافية أزعجت سمير كثيراَ .. فقرر أن يعود فوراَ لمنزله لإحضار صور للصديق ( عاطف ) حتى يتمكن الناس من التعرف عليه .. وعندما وصل المنزل سارع ثم فتح خزانة الألبومات وأخرج منها أضابير الصور .. ثم بدأ في البحث عن صور الصديق الغائب المفقود .. فكانت المفاجأة الكبيرة .. حيث خليت ألبومات الصور من أية صور للصديق الحميم ( عاطف ) !!! .. ثم نظر مرة أخرى في ألبومات الصور الخاصة المشتركة مع الصديق .. فوجد أن تلك الألبومات خالية كلياَ ولا تحتوي على صور الصديق الحميم .. حيث تحتوي فقط على صورته الشخصية دون أن تتواجد صورة الصديق في المعية !! .. كيف يحدث ذلك وكانت تلك الألبومات في الماضي تشمل صور الصديقين معاَ في الإطار الواحد ؟؟!! .. أدهشه الأمر كثيراَ .. وعندها فكر أن يبحث عن صور الصديق ضمن البومات الصور الجماعية في المدرسة .. ثم استغرب حين وجد أيضاَ أن تلك المجموعات التي تحوي على الكثير من صور الزملاء والرفقاء بالمدرسة لا تتواجد ضمنها أية صورة للصديق ( عاطف ) !! .. وعندها جلس سمير في مقعده حائراَ منهكاَ .. وهو يردد العبارة : ( هل يعقل أن يكون صديقي عاطف من الجن ؟!! ) .
ـــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش