بسم الله الرحمن الرحيم
الحقائق الموثقة بالعيـن المجـردة !.!!
في بداية خمسينات القرن الماضي شهدت البلاد التواجد الأخير للمستعمر الإنجليزي .. والذي بدأ الخطوات استعداداَ لمغادرة البلاد نهائياَ .. وهنا لمحة سريعة للأحوال التي كانت سائدة عند مغادرة المستعمر للبلاد .. فهناك حقائق خطيرة للغاية يضعها الكثيرون في خانة البديهيات .. وهي ليست كذلك .. والنظرة المتفحصة العميقة في أحوال البلاد في تلك المرحلة تؤكد حقائق يجب أن يعلمها الأجيال بطريقة جديدة غير تلك المزيفة في أضابير التاريخ .. والنظرة هنا بمنظار خال من التطرف العدائي للمستعمر أو الانحياز الموالي له .. فتلك أفكار تخطاها الزمن .. فالرؤية الجديدة تؤكد أن الاستعمار الإنجليزي تعامل مع السودان ومع الشعب السوداني بنوع من الحقد الدفين غير تلك المعهودة في المستعمرات الأخرى .. وقد تعمد الاستعمار الانجليزي بطريقة منهجية ماكرة ومخططة بعناية شديدة للغاية بأن يسلب الشعب السوداني من معتقداته الدينية الراسخة القوية العالية .. وكأنه ينتقم من بطولات محمد أحمد المهدي الذي أطاح بغردون باشا .. ولذلك فإن الاستعمار عمل في الخفاء كثيراَ لتحطيم القدر العالي من اعتقادات المسلمين السودانيين في الإسلام .. ولا نجد مثل تلك الحرب على المسلين في البلاد الإسلامية الأخرى التي كانت مستعمرة .. وفي مرحلة من تاريخ الشعب السوداني برفقة المستعمر نجد أن المثل الأخلاقية والدينية تدنت إلى أدنى الدرجات .. حيث المحرمات تجاورت المباحات .. وحيث الفضائل ترافقت الرذائل .. دون أن نجد مراحل نخوة تقاوم تلك التنازلات .. بل في مرحلة من المراحل أصبحت الأمور عادية للغاية لدى شعب كان يتمسك بعقيدته بشدة فائقة .. بيوت الدعارة والفحش كانت منتشرة بكثافة في معظم المدن السودانية .. وبطريقة معلنة رسمياًَ حيث التراخيص الرسمية من السلطات .. وبارات الخمـور كانت تعج بها المدن السودانية والأحياء والشوارع .. وبتراخيص مدعومة من الدولة في ذلك الوقت .. وميادين المدن السودانية في الأمسيات كانت تعج بمجالس السكر والمجون بالصحبة المختلطة .. وكان هناك أصحاب السيارات الذين كانوا يخطفون البنات من الشوارع عياناَ بياناَ .. وكانت هناك مظاهر أخرى كثيرة من الموبقات كمحلات القمار ومنازل الخمور البلدية .. وإندايات المريسة والعرقي . وفي خضم كل ذلك ضاعت نخوة المسلم السوداني .. الذي تمثل في صنوف فئوية .. وكانت هناك بيوت دينية كبيرة تعربد تحت غطاء الإسلام دون غيرة على الإسلام .. وكان هناك المواطن العادي ذلك المجتهد الذي يلزم النفس بشعارات الإسلام .. ويتمسك بالعقيدة دون أن يبكي على الأوضاع العامة السائدة .. وكان هناك الذي يجاري الساحة ويخوض مع الخائضين ولا يبالي كثيراَ بمحذورات العقيدة .. وآخرون كانوا يجهلون ويتجاهلون فوارق الدين والإلحاد .
ولكن السؤال الهام والخطير الذي يضع الألف من علامات الاستفهام .. هو : إذا كانت الحجة في الماضي للشعب السوداني هي أن الأمة كانت خاضعة للظروف في ظل المستعمر فلماذا دامت الأحوال بتلك الصورة القبيحة المؤلمة الفاضحة التي كانت تشوه وجه السودان لسنوات وسنوات بعد خروج الاستعمار ؟؟؟ .. وفي الوقت الذي كان فيه يتواجد معظم الرموز الدينية الكبيرة في السودان .. وهم أصحاب الأتباع الكثيفة وكان زمام الأوضاع تحت سيطرتهم !! .. ولماذا لم يعجل الشعب السوداني فوراَ بعد خروج المستعمر في تصحيح المسار الإسلامي في السودان ؟؟؟ .. فكان هناك الرمز الإسلامي الكبير السيد على الميرغني .. وكان هناك السيد عبد الرحمن المهدي .. وكان هناك السيد الصديق المهدي .. وكان هناك السيد الإمام الهادي عبد الرحمن .. ثم وفي مراحل لاحقة كان هناك حسن الترابي والصادق المهدي .. ورموز كثيرة كثيرة من عمالقة الشيوخ الدينية الإسلامية .. كانت متواجدة ولكنها آثرت السكوت على تلك الظواهر الفاضحة !!! .. بل كانت تراها عادية من مسلمات الأمور دون أن نحس منهم لحظة غيرة تندد بتلك الفواحش والموبقات .. واستمرت تلك الصورة المؤلمة الكالحة لسنوات وسنوات بعد الاستقلال .. فكانت الحكومات تلو الحكومات .. كانت هناك سنوات عبد الله خليل وبمصاحبة تلك الظواهر المؤلمة .. ثم كانت هناك سنوات حكم الفريق إبراهيم عبود وأيضاَ بمصاحبة تلك الظواهر المشينة .. ثم سنوات حكم الأحزاب بقيادة الأزهري ومحمد أحمد محجوب والهادي والصادق وأيضا بمصاحبة تلك الفضائح والموبقات المهينة .. ثم كانت هناك بدايات حكم جعفر النميري بشعارات الاشتراكية .. ولكن أيضاَ بمصاحبة تلك القبائح والظواهر المشينة القبيحة التي كانت تشوه السيرة الإسلامية السودانية .. وتشوه سيرة المسلم السوداني .
ولكن فجأة يصحو الضمير السوداني .. وفجأة تطل النخوة الإسلامية السودانية من جديد .. وفي خطوة بطولية جريئة للغاية من الرئيس السوداني في ذلك الوقت جعفر محمد النميري كان ذاك القرار الشجاع .. قرار منع الموبقات في السودان .. منع كل مظاهر الفساد الأخلاقي .. حظر ممارسات الدعارة والزنا وإقفال كل بيوت المومسات في كل مدن السودان .. ومنع الخمور بكل أصنافها .. ومنع القمار .. ومنع كل أمر يحرمه الإسلام .. فكان ذاك الفرج الكبير .. خطوة كانت جريئة وشجاعة للغاية .. بها استطاع ذلك الرجل أن يزيل وصمة عار وفضيحة من جبين الشعب السوداني .. لحظات أخرس وأفشل فيها كل مخططات المستعمر الذي اجتهد لسنوات وسنوات في إبعاد الشعب السوداني عن جادة الإسلام السليم .
والمقام هنا ليس لتمجيد أو تنديد فترات الحكم في السودان .. وليس المقام هنا لتمجيد الأشخاص والرموز .. ومراحل حكم جعفر النميري فيها الكثير من السلبيات وفيها الكثير من الايجابيات .. وكل مراحل الحكم التي أعقبت خروج الاستعمار في السودان فيها السلبيات والايجابيات .. ولكن نقول بكل الصدق والأمانـة أن قرار ذلك الرجل مثل وقفة شجاعة عالية للغاية , وقـد خدم ذلك القرار الإسلام والمسلمين في السودان كثيرا كثيرا .. وجعفر النميري إذا حسبنا عليه المئات من المآخذ والمواقف والقرارات الخاطئة كما يعتقد البعض .. ولكننا لا نستطيع أن ننكر له فضل تلك الوقفة الشجاعة .. ولا تهم بعد ذلك اجتهادات النوايا التي يفسرها البعض .. ولا تهم الشعب السوداني كثيراَ التعليلات التي يريد أن ينافق بها البعض حتى يكسب الأرضيات .. فهو صاحب ذلك القرار المقدام الشجاع .. وهناك كثيرون لم يكونوا في زمرته في يوم من الأيام .. ولكنه بذلك القرار العالي المقام استطاع أن يخرس كل من يرائي باسم الدين ويخدع لينال التبعية والموالاة .. وهو الآن ليس في حاجة لمدح أو ذم .. وقد طويت صفحاته .. وتلك وقفة منـه تدخل في الأعمال الصالحة .. وقد ينال بها الأجر العظيـم .. والحكم في ذلك عند الله .. أما هنا في الدنيا فيجب أن يحق الحق بالقول الشجاع دون توريات .. بغض النظر عن الرأي المؤيد أو المعارض فإن الرجل يستحق وسام الجدارة في صفحات التاريخ فقط بتلك الوقفة البطولية الرائعة .. في الوقت الذي نلوم فيه كبار الرموز الدينية الذين كانوا يتواجدون في الساحة ثم لم يتخذوا الخطوة التي كانت تفترض منهم عندما كانت الفرص سانحة تحت أيديهم .. ومهما بلغت بهم الحجج والمبررات .. فإنهم لا يخرجون من اللوم .. بل الأعجب في الأمر أن فيهم من أنكروا بخطوات النميري صراحة وهم بذلك سقطوا عن المقام وعن الاحترام جملة وتفصيلا .. لأنهم يدخلون في مصاف المنافقين الذين كانوا ومازالوا ينادون بالإسلام دون الإسلام فقط لمكاسب التبعية والموالاة .. ويلبسون ثوب المسلم المجتهد بغير إسلام .. ولكنهم كانوا ومازالوا عند الجد وعند المحك يريدون إسلاماَ يطابق مواصفاتهم .. حيث الإسلام الذي يجلب لهم الأتباع بالأصوات في صناديق التنافس دون الرغبة الجادة في تطبيق العقيدة نفسها !! .. وذلك فيه نوع من النفاق الممقوت البين .. وجعفر النمير لم يكن يوماَ من الأيام من هؤلاء الذين كانوا يتاجرون باسم الدين .. ولم يدعي الانتماء لأهل بيت يرفع الشعار .. بل كان شجاعا في كل المواقف .. فعندما كان ينادي بالاشتراكية لم ينافق ويرائي إطلاقاَ .. ومشى في دروب الاشتراكية بكل جرأة وإقدام .. وعندما اهتدى ومال لدرب الإسلام لم ينافق أيضاَ بل كانت تلك الوقفات البطولية .. وكانت تلك القرارات الشجاعة التي لم يقدر عليها كبار الشخصيات والرموز الإسلامية التي كانت مع الأسف الشديد تتاجر باسم الإسلام .. ولكنه كان يملك النية الحسنة التي تجلب المنفعة .. وإذا تيقن بالعمل المفيد المجدي كان لا يتردد وكان لا يتلاعب بالعقول كما يفعل الآخرون .. بل كان يملك الخطوة الجريئة .. تلك الجرأة المعروفة في الإنسان السوداني .. وفي ذلك القرار هو أجتهد ورمى فأصابت رميتيه الصواب . وقد دخل التاريخ بأوسع الأبواب .. فجزاه الله خير الجزاء فيما أقدم عليه في خدمة الإسلام والمسلمين .. كما نسأل الله له المغفرة فيما أخطأ من القرارات .. اللهم يا رب العالمين أجعل تلك القرارات الشجاعة التي أزالت وصمة العار من جبين الشعب السوداني في ميزان حسنات ذلك الرجل ( آمين يا رب العالمين ) .
ـــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش