بقلم : عبد الفتاح نيازي
حين كان التعليم في مصر يقوم على غرس الانتماء وحب الوطن في نفوس المتعلمين منذ نعومة أظفارهم ، وحين كانت المناهج الموحدة في المدارس الرسمية والخاصة تتضمن تراجم لأبطال الأمة وسردا لأمجادها ، وحين كان أسلوب الثواب والعقاب هو السائد والساري على الجميع ، وحين كان الأب أو ولي أمر التلميذ يذهب إلى المدرسة ليشكو اعوجاج سلوك ابنه طالبا من المدرسة المساعدة على تقويمه ؛ فتقوم إدارة المدرسة بمعاقبة التلميذ على الملأ مع ذكر الأسباب ، وحين كان المعلم هو صاحب السيادة في المجتمع ينحني الجميع ويقومون له إجلالا وإكبارا مرددين :
قُمْ للمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبْجيلا ... كَادَ المُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولا
في تلك الأيام الخوالي كانت الأمة على قلب رجل واحد ، ولم نكن نشاهد بلطجية يرتدون زي المدارس يقطعون الطرقات ، ويهاجمون مدارس البنات ، ويروعون الناس ، ويعتدون على المدرسين في مدارسهم ، ويحملون السلاح في لجان الامتحانات ، وكان الذي لايرغب في استكمال تعليمه يرسله أهله إلى إحدى الورش الصناعية ليتعلم مهنة يتقي بها شر البطالة والعوز ، وكان أصحاب المهن يرسلون أبناءهم إلى المدارس طوال العام الدراسي ، فإذا جاء وقت العطلة الصيفية اصطحب الأب الصانع أولاده معه إلى مصنعه أو ورشته ليورثهم مهنته فيشبوا مهنيين متعلمين ..
فلما استدار الزمان وتولى أمر التعليم من ليسوا من أهله ولا هم أهل له ، ولما انتشرت المدارس عالية المصروفات المسماة بالمدارس الدولية ، والتي لايدخلها إلا أبناء من يملكون الثروة والجاه ؛ تلك المدارس التي تدرس اللغات الأجنبية بكثافة ، وتقدم الثقافات الغريبة لأبنائنا عوضا عن ثقافتنا العربية الأصيلة ، ولما جاء وزراء للتعليم أهانوا المعلم تنفيذا لأجندات مدروسة بعناية لهدم أسس التعليم في مصر ، وانتشرت ثقافة (الضرب ممنوع) وصار الوزير (الوزر) يحض الطلاب علنا على الإبلاغ عن المعلم الذي يحمل العصا في المدرسة ، واستوردت كل المناهج الغريبة والأساليب العجيبة التي لاطائل من ورائها سوى شغل المعلم عن الإبداع في عمله ، ولم يعد ناظر أو مدير المدرسة أو الإدارة يُختارُ لكفاءته وإنما لولائه للنظام الحاكم وأصحاب المناصب السيادية ، لما حدث هذا كان لابد أن يفسد المجتمع وتختل القيم ويصبح المال صاحب السيادة ، واضطر المعلمون للجري لاهثين خلف الدروس الخصوصية ليسدوا حاجة بيوتهم وأبنائهم ؛ فضاعت هيبتهم وكرامتهم وعزتهم ، وصاروا مادة للسخرية في جميع وسائل الإعلام ، وتجرأ عليهم السفيه والوضيع فانهدمت المنظومة التعليمية كلها بانهدام عمودها الأساسي وهو المعلم ..
وإذا كنا نعاني اليوم ـ ويالشدة مانعاني ـ من انفلات أمني وأخلاقي وسياسي وإعلامي ، وإذا كان عقد وحدة الأمة قد انفرط وتدحرجت حباته فالتقط بعضها المتطرفون الدينيون ، والتقط البعضَ الآخرَ أصحاب الأهواء الفاسدة والأغراض الدنيئة ، وبعضها صار في يد محترفي السياسة واللعب بالألفاظ ؛ فانقسمت الأمة شيعا وجماعات وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون ، وقد أصم الكل آذانهم وأغمضوا أعينهم فما عاد أحد يسمع لأحد أو يرى أحدا سوى نفسه وأغراضه ، وما عاد للوطن في قلب أحد ـ إلا من رحم ربي ـ مكان ..
ورغم تلك القتامة التي تحيط بالصورة حتى تكاد أن تطمس معالمها ؛ فإنني على ثقة بأن هناك من يحمل كل الحب والإخلاص والولاء والانتماء لهذه الأرض الطيبة الحنون ، وأن هناك في كل مكان وكل مؤسسة ، بل وفي كل بيت وشارع وحارة من يفكرون في كيفية الخروج من المأزق الرهيب الذي يذهب بالألباب ويذهل العقول فيترك اللبيب حيرانا ، وهؤلاء هم الأمل في غد يستتب فيه الأمن ويسود السلام ربوع مصر من شمالها إلى جنوبها ..
وإذا كنا كغيرنا من أبناء الوطن المخلصين نسعى للإصلاح ما استطعنا ؛ فإننا بحكم تخصصنا ومجال عملنا في التعليم العام نؤمن إيمانا لايتزعزع بأن الإصلاح الشامل لأحوال الأمة يبدأ من البيت ثم دور الحضانة حتى الجامعة مرورا بالمدارس بكل مراحلها ، وأن إصلاح المعلم هو لب العملية الإصلاحية كلها ، وأنه لابد من وضع خطط استراتيجية طويلة الأجل وأخرى تكيتيكية سريعة تمثل الإسعافات الأولية لإصلاح التعليم لايكون لأحد سلطان على اللعب في أية جزئية منها مهما كان شأنه ؛ خطط تبدعها عقول أبناء الأمة وليست مستوردة جاهزة من شرق أوغرب ..
وللحديث بقية حول بعض التصورات التي نطرحها ـ كرجال تعليم أفنينا العمر في تهيئة وتنشئة الأجيال ـ من أجل نهضة أمتنا من كبوتها وعودتها لقيادة الأمتين العربية والإسلامية ولتسترد مكانتها تاجا للعلاء في مفرق الشرق إن شاء رب العالمين وقدّر !!
قراءة 768 مراتاخر تحديث فى الأحد, 28 أبريل 2013 23:55كلمات دلالية