الماضي والحاضر يرويان قصصاً وذكريات لا تنسى وثّقها الشعر في أجمل معانيه

رثاء الزوجات.. الحب يبقى وروحه معلقة في السماء!

  عُرِفَ عن أهالي البيد والفيافي أنَّهم يحبسون عواطفهم ويلجمون مدامعهم في التعبير عن صدق الوداد وسرائر الفؤاد، بل إنَّ الرجل منهم ليستعيب أن يبوح بحنينه وأشجانه وأفراحه وأحزانه؛ لمُجرَّد أنَّ ذلك -كما كان يعتقد- يعبّر عن ضعف القلب ونقص المروءة وقِلَّة المهابة، ورغم أن هذا اعتقاد خاطئ وتقليد مخالف للشرع والعقل والتقاليد والسلوكيَّات الحميدة، إلاَّ أن موروثنا العربي لا سيما في الجزيرة العربيَّة يزخر بتوارث مثل هذه الأعراف، وقُل حينها أنَّ الجاهليَّة وقسوة وصعوبة الظروف المُناخيَّة والجغرافيَّة وحياة الصحراء بجفافها وصعوبة العيش فيها كانت طريقاً، بل سبباً رئيساً في جفاف صور التعبير عن العواطف والحنينن، ونضوب ينابيع المشاعر والوجدانيَّات من قاموس بعض أبناء أقاليم جزيرة العرب الذين وفد أحدهم إلى الرحمة المُهداة -عليه الصلاة والسلام- وشاهده يُقبِّل سبطه "الحسن بن علي" -رضي الله عنهما- فقال:"يا رسول الله، تُقبِّلون الصبيان؟"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال:"والله إنَّ لي عشرة من الصبيان ما قبَّلت أحداً منهم"، فنظر إليه -صلى الله عليه وسلم-، وقال:"أو أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يرحم لا يرحم".

كما أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان يحفظ ل "خديجة" حُسن الصحبة، ويعترف بجميلها، وقد ظلَّ وفيَّاً لها في حياتها وبعد وفاتها، حتَّى إنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يُقدّمها على كافة زوجاته، ولم ينس أن يُحسن لصُويحباتها، كما سمع لمشورة "أُمّ سلمة" يوم "الحُديبية"، بل كان يُنادي "عائشة" -رضي الله عنها- "يا عائش"، وكان خُلقه وحُسن تعامله ووفائه مع زوجاته -عليه الصلاة والسلام- تشريعٌ لمعاني الحب والوفاء، وكان يُعبِّر عن هذه المحبة ولا يُخفيها.

ولعلَّ باكورة الاقتداء بهذا الخُلق العظيم جاء على يد أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" -رضي الله عنه-، وهو يرثي السيدة "فاطمة الزهراء" -رضي الله عنها- في قصائد تفيض صدقاً ووفاءً ومحبة لابنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

شعر «ابن الصحراء» أرق وأعذب بعد «فراق الحبيب» ويترك في القلب لوعة للوجع والحزن

 

رثاء خجول

في تاريخ أدبنا العربي يلوحُ لنا وميض بعض صور الوفاء مع الزوجة، ونقف في بعض العصور على نماذج قصص وقصائد للزوجات اللائي إن كان البعض قد عبَّر عنها على استحياء، فإنَّ البعض الآخر باح علناً عن مشاعره وصدق عواطفه، بأشعار وقصائد ما زالت محفوظة ومرويَّة في دواوين الشعر وسِجلاّت الأدب، فهذا "جرير بن عطية" وهو شاعر أعرابي نجدي كان يسكن مدينة "حجر" التي تشملها اليوم مدينة "الرياض" وسط إقليم نجد، يرثي زوجته وأُمَّ أبنائه بقصيدته المشهورة:

لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ

ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ

صلى الملائكة الذين تخيّروا

والصالحون عليك والأبرار

ورغم أنَّ هذه الشعور كان موجوداً لدى الكثيرين، إلاَّ أنَّ التعبير عنه يُعتبر رزيَّةً وعيباً عندهم، لا سيَّما في العصر الجاهليّ الذي يندر أن توجد فيه قصيدة يرثي فيها أحد الشعراء زوجته، في حين نجد أنَّ باب الغزل والتشبُّب كان يُمثِّل ركناً من أركان القصيدة الجاهليَّة، رُغم أنَّ قصائد الغزل كثيراً ما تُعبِّر عن الوجدانيَّات والمشاعر الرقيقة، بل تتجاوزها إلى عرض صور التصاغر والتذلُّل للمحبوبة، كما قال "امرؤ القيس":

أغرَّكِ مِنِّي أنَّ حُبَّكِ قاتلي

وأنَّكِ مهما تأمرِ القلبَ يفعلِ

كما أنَّه على الرُّغم من أنَّ قصيدة "جرير" -وهو أعرابي لا شكَّ في بداوته- كانت قد عبّرت عن صادق الحب والوفاء للزوجة، لا سيما وأنَّه استطاع أن يمتلك زمام المبادرة في العصر الأموي بشجاعة وأن يرثي زوجته، إلاَّ أنَّ البعض أُخذ عليه في قوله:

لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ

ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ

عدم استطاعته زيارة قبر زوجته، ومحاولة إخفاء مشاعره ومدامعه؛ بسبب العيب والنظرة القاصرة للمجتمع آنذاك، كما أُخذ عليه أنَّه جعل رثاء زوجته مدخلاً لهجاء ابن عمِّه "الفرزدق"، وكأنَّه بذلك جعل رثاءها ممراً أو تمهيداً لغرضه الشعريّ، كما كان الغزل ووصف الأطلال والناقة تمهيدٌ لغرض شعراء الجاهليَّة وصدر الإسلام.

وتكاد قصيدة "جرير" أن تكون الوحيدة في زمانها، حتَّى إنَّ الدواوين الأدبيَّة لم تستطع أن تنقل لنا قصيدةً مُماثلةً في العصر الأموي -إلاَّ ما ندر-، إلى أن جاء العهد العباسيّ الذي شهد العصر الثاني منه ظهور قصائد لا بأس بها في رثاء الزوجة، خاصة في أواخر هذا العصر الذي يُسمَّى عصر "الانحطاط".

سياق اجتماعي

كان رثاء الزوجة أو حتى البنت أو الأخت يُعدُّ صراعاً مع عُرفٍ اجتماعيٍّ راسخٍ يصعب على الكثير من الشعراء ركوب موجته والغوص في لُجَّته، وهو ما دعا الشُّعراء وغير الشُّعراء إلى أن يسلكوا طريق السلامة دون مُصادمة العيب الاجتماعي الذي ربما عزلهم عن مجتمعهم.

ويقول "د.عبد الرحمن السماعيل": "إنَّ ندرة رثاء الزوجات من قِبَل أزواجهنَّ في الأدب العربيّ، لا يُعدُّ ظاهرةً بقدر ما هو سياقٌ اجتماعيٌّ تحوطُهُ ثقافةٌ اجتماعيَّةٌ وأعرافٌ مُتوارثةٌ منذ العصر الجاهليّ، وأنَّ الخروج على هذا السياق هو الظاهرة التي يجب التساؤل عن أسبابها"، كما ذكر أنَّ رثاء "الأندلسيين" لزوجاتهم كان أكثر منه في المشرق العربي؛ لانعدام مثل هذه القيود الاجتماعيَّة في "الأندلس"، ولعلَّ الدليل على ذلك يتجلَّى في قصائد "البُحتريّ" و"ابن الروميّ"، اللذين يُعدَّان شاهدان على عصر الحضارة العباسيَّة، بيد أنَّهما لم ينعتقا من ذلك السياق العربيّ الشرقيّ، فهذا هو "البُحتريُّ" يقول:

ولعَمري ما العجز عندي إلاَّ

أن تبيت الرجال تبكي النساء

وربَّما كان وضع "البُحتريّ" مختلفاً لو أنَّ إحدى زوجات أو بنات ممدوحيه من خلفاء "بني العبَّاس" تُوفّيت، لا سيَّما وهو القائل:

ومن نعم الله لا شك فيه

بقاء البنين وموت البنات

وكم هو عجيبٌ أمر "البُحتريّ" حين يقول:"من تمام الوفاء أن يعلو على المدح الرثاء"، في حين يتناقض رأي "ابن الروميّ" مع شعوره في البكاء على زوجته وهو يقول في رثائها:

عيني شحا ولا تسحا

جل مصابي عن البكاء

ترككما الداء مستكنا

أصدق عن صحة الوفاء

ثمَّ يأتي ليُصادق على مقولة الأقدمين: "إنَّ خير بعل للبنت هو القبر"، ويقول وهو يخاطب "علي بن يحيى" في ابنته:

لا تبعدن كريمة أودعتها

صهراً من الأصهار لا يخزيك

إني لأرجو أن يكون صداقها

من جنَّة الفردوس ما يرضيكا

لا تأسينَّ لها فقد زوَّجتها

كفؤاً وضمنتَ الصداقَ مليكا

ثورة العواطف

البارحة يوم الخلايق نياما بيَّحت من كثر البكا كل مكنون

 

بدأت ملامح ثورة العواطف على الأعراف والتقاليد السائدة تظهر جليَّةً منذ العصر العباسي، وتحديداً مع ارتفاع مؤشِّر الوعي وقبله حرص العلماء على نشر ثقافة حفظ حقوق المرأة، لا سيَّما حين برز كثير من العلماء والأئمَّة الذين تخرَّجوا من مدارس أُمهاتهم، مثل "أبي حنيفة النُّعمان" و"الشافعي" و"أحمد بن حنبل"، وهو ما جعل العديد من أبناء المجتمع آنذاك لا يجدون غضاضةً في التصريح بفضل المرأة في تحديد مسلكهم وتوعيتهم، حتَّى ظهر جيلٌ جديدٌ من الشُّعراء الذين صرَّحوا برثاء محبوتاتهم من الزوجات والأخوات والبنات وحتى الأُمهات، وراحوا يُردِّدون قصائدهم في المُلتقيات والمُنتديات الأدبيَّة، حتى إنَّ الوزير العباسيّ "عبدالملك الزيَّات" الذي عُرف بالفظاظة والشِّدة راح يرثي زوجته بقصيدة شجيَّة، وهو يقول:

فلا تلحياني إن بكيتُ فإنَّما

أُداوي بهذا الدمعِ ما تريانِ

ثمَّ راح الشعراء من بعده يرثون زوجاتهم، بلا تمنّع أو تردّد، فهذا "مسلم بن الوليد" ما يكاد ينفك عن بكاء زوجته وهو يقول:

دعاني أُفرط البكاء فإنني

أرى اليوم فيه غير ما تريان

ويبوحُ "الشريف الرضيّ" ببكائه زوجته وأيَّام شبابه وهو يقول:

وقال تسلَّ بأترابها

فأين الشباب وأين الزمان

أمَّا الشاعر الملقب ب"ديك الجن"، فقد رثا جاريته -التي تزوَّجها وكان يحبها حباً شديداً- بمراثٍ كثيرة، بكى فيها بكاءً شديداً، لا سيَّما وقد قتلها بيده بعد شكوكٍ تبيَّن فيما بعد براءتها منها، ما دفعه أن يكثر البكاء ويقول:

قد بات سيفي في مجال وشاحها

ومدامعي تجري على خدَّيها

ثمَّ يُخاطبها وهي تحت الثرى والتراب ويناديها:

أساكن حفرة وقرار لحدٍ

مفارق خلّه من بعد عهد

وأين حللت بعد حلول قلبي

وأحشائي وأضلاعي وكبدي

ثمَّ يرد على صحبه الذين تعجَّبوا كيف يقتلها ويبكيها وهو يقول:

ويعذلني السفيه على بكائي

كأنَّي مبتلى بالحزن وحدي

تقول قتلتها سفهاً وجهلاً

وتبكيها بكاءٌ ليس يُجدي

كصيَّاد الطيور له انتحاب

عليها وهو يذبحها بحد

ويأتيه الطبيب وهو يبكيها ويتذكَّر أيَّام شبابه معها وهو يقول:

جس الطبيب يدي جهلاً فقلت له

إنَّ المحبة في قلبي فخلِّ يدي

ويأتي "الطغرائي" في القرن الخامس فيجمع بين ثقافة العيب وثورة البوح، فهو من جانبٍ يرثي زوجته بقصائد تفيض شجناً وحزناً وصدقاً ووفاءً للزوجة، في حين يظل مرتهناً بقيود ستر اسم الزوجة، حتَّى بعد وفاتها، بل إنَّه يُناديها في معظم مراثيه ب "ستيرتي"، ولم لا يصدقُ في رثائه؟ وهو القائل:

أُعلِّلُ النَّفس بالآمال أرقُبها

ما أضيقَ العيش لولا فُسحةُ الأمل

وفي القرن الهجريِّ السَّابع يُسجِّلُ لنا "القاسم الضمدي" فجيعته في زوجته الشابة وهو يبكي بحُرقه ويقول:

أوسدك التراب وكنت أحفى

بخدك أن يباشر التراب

وأسمع للبلى بجمال وجه

يؤثر في محاسنه النقاب

فما فعل الثرى ويد الليالي

بجسم كان تؤلمه الثياب

وما فعل الصبا الغض الموافي

بزهرته وما فعل الشباب

وما فعلت محاجرك السواجي

وما فعلت ثناياك العِذاب؟

ويقول وهو يصف يوم رحيلها:

بنفسي عصر يوم السبت نعش

تهاداه المناكب والرقاب

تكفن بالثياب وليت جلدي

لها كفن وليت دمي خضاب

جس الطبيب يدي جهلاً فقلت له إنَّ المحبة في قلبي فخلِّ يدي

تصريح المشاعر

وقد استمر الشُّعراء منذ القرن الثاني والثالث الهجري في رثاء الزوجات، إلى أن أصبح الكثير منهم يُجاهر بعواطفه نحو زوجته، وربَّما كان لرثاء الخليفة "هارون الرشيد" لزوجته "هيلانه" دورٌ في أن يتجرَّأ الشُّعراء في رثاء زوجاتهم، ويذكر لنا التاريخ الأدبيّ مراثي كل من "المعلى الطائي" و"الصفدي" و"الأعمى التطيلي الأندلسي" و"ابن هند الداني" و"إسحاق الألبيري"، إلاَّ أنَّ الرَّحالة "ابن جبير" كان صاحب السبق في وضع ديوان شعريّ كامل في رثاء زوجته "عاتكة" المُلقَّبة ب"أُمّ المجد"، التي بكى عليها دمعاً ودماً في ديوانه الذي أسماه "نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح"، وهو بذلك يُمهِّدُ لعصرٍ أدبيٍّ جديد، في رثاء الزوجات، إذ لا يقتصر الرِّثاء على قصيدة أو قصيدتان.

وفي الأدب القديم، كان الشاعر السومريّ "لودنكيرا" والشاعر "بسيل بن محكان" من أقدم الشُّعراء الذين رثوا زوجاتهم، كما لم يقف الأدب العربيّ على الأسماء آنفة الذكر، بل إنَّ "الأشعث بن العبَّاس"، و"أبو تمَّام" و"ابن عبدون الورّاق" و"أبو حيَّان الأندلسيّ" و"عبدالمعين الملوحي" في زوجته "بهيرة" و"نزار قبَّاني" في زوجته "بلقيس"، وأسماء أخرى يحتاج ذكرها إلى دواوين وسجلاَّت تاريخيَّة وأدبيَّة، خاصة أنَّ مثل هذه المراثي كانت تُعبِّر عن الرحمة والعشق في آنٍ واحد، كما كان رثاء الجواري يُعبِّر عن الحنين والاشتياق، بل والمحبة والوفاء؛ إن هو تعلَّق برثاء الزوجة وأُمّ الأولاد، لا سيَّما أنَّ المودة مُقدَّمة على الرحمة في قوله تعالى:"وجعل بينكم مودةً ورحمة".

ديوان الزوجة

ظهر التغيير في السياق الاجتماعي واضحاً في العصور الحديثة، وذلك بعد أن مرَّ بمراحل طويلة، لعلَّ من بينها ديوان "ابن جبير"، الذي ضمَّ في عصرنا الحديث دواوين مُماثلة لشعراء أصابهم ما أصاب "ابن جبير"؛ فراحوا ينظمون الأشعار والقصائد ويفيضون من بحر مدامعهم دُرراً من الشعر، هي الآن من أُمَّهات الدواوين الشعريَّة المُعاصرة، والتي تضم من بينها ديوان الشاعر عبد الرحمن صدقي "من وحي امرأة"، وديوان محمد البيومي "حصاد الدمع"، وديوان طاهر أبو فاشا "دموع لا تجف"، ورابح جمعة في "لذكراك"، وهو نفس مُسمَّى ديوان خليل السكاكيني، بينما يُعنون ركس العزيزي ديوانه ب"جمد الدمع"، وكان عزيز أباظه قد سبقهم في ديوانه الباكي "أنَّاتٌ حائرة".


الرجل يفقد زوجته ولا تهون عليه العشرة وذكريات الحب الأول

وقد اختلف هؤلاء الشُّعراء وغيرهم في رثاء زوجاتهم، فمنهم من باح بمراثيه منذ اليوم الأوَّل لوفاة زوجته، واستمر على هذا الحال قرابة شهر، مثل "عبدالرحمن صدقي"، الذي تأخَّر في زواجه وظلَّ أعزباً مع صديقه الأديب "محمود عبَّاس العقَّاد"، ثمَّ فكَّر في الزواج فأرسل للعقَّاد قصيدة طريفة يُخبره بما عزم عليه، فردَّ عليه "العقَّاد" بقصيدة لا تقلُّ عنها طرافةً وأناقةً، وفعلاً فبعد أن تزوَّج "صدقي" شعر بنعمة الزواج، وعاش مع زوجته أربع سنوات وصفها بأنَّها ربيع عمره وصفاء أيَّامه، رُغم أنَّه لم يُرزق منها بولد طيلة السنوات الأربع، التي ما إن أوشكت على النهاية حتَّى فارقته زوجته الشابَّة، وهو الذي كان مُلازماً لها طيلة مرضها، لا يخرج عنها أبداً إلاَّ لجلب طبيبٍ أو دواء، حتَّى إنها أشفقت عليه كما كان مُشفقاً عليها، وفي ساعات احتضارها همست له بكلمات لم ينسها، وتُوفِّيت فراح ينبوع شعر الوجد والأشجان يصبُّ في ديوان الأسى والمرارة، وتحديداً حين يصف مرض حبيبته والألم يقطع منها كل وريد، وهو أمامها حيران لم يترك طبيباً حذاقاً إلاَّ طرق بابه.

ثمَّ يُصوِّر السَّاعات الأخيرة لزوجته وهي تقبض على كفِّه ثمَّ تتركها وهي تقول:"يا رب"، وتتمكَّن منها الحُمَّى، فيكون الوداع وعلى خدَّيهما مدامع الفراق ولهيب الوجد والأشواق، وقد وصف "صدقي" دموع ساعة الاحتضار في قصيدته "الواقعة" أيُّما وصف، لاسيَّما حين صوَّر الدقائق الأخيرة من حياة زوجته وهو يقول:

نجرعها مر الدواء تسيغه

وناظرها في ناظري مُعلَّق

وننحي عليها إبرة بعد إبرة

فترضى وهذا جلدها يتخرَّق

تريد لتحيا من رضاها بصحبتي

ولولاي ما كانت من الموت تفرق

وتحرص أن تبدو كعهدي جميلة

يطالعني منها على السقم رونق

تعرقتها يا داء ما شئت جاهلاً

ولكنَّ حسن الروح في الوجه مُشرق

تردد "لا" في كل حين أبية

"أيارب لا أقوى" بلحن يمزق

ويغضبها أنَّي وقد ساء حالها

على النفس من شغلي بها لست أشفق

وتلمس أرداني وتلهو بأصبعي

وتضغط كفيّ كفَّها وهي أرفق

وتوسعني لثماً وتمسح خدَّها

بخدِّي وكل بالدموعين مغرق

وما نسيتني في سبات وصحوة

وقد ذكرتني وهي في النزع تشهق

إلى أن تغشَّتها من الموت صُرعت

مجدلة والموت سهم مفوق

فغاضت كما غاض الربيع وإنَّما

ربيعي بعد اليوم هيهات يُورق


البيت الخالي من الزوجة لا يستحق العيش فيه

بينما داهمت الأحزان الشاعر "أحمد محمد الشامي" فصمت قلمه لمدَّة عامين؛ لأنَّ الحزن أخرسه وأشغله عن نظم القصيدة وراح بعد عامه الثاني من فقدان زوجته يقول:

واليوم عامان قد مرَّا وما برحت

نجوى خيالي وتفكيري ولحن فمي

إذا هجمت أتتني في غلائها

تختال كالريم بين البان والعلم

في حين رثى "عزيز أباظة" زوجته بديوانٍ كاملٍ أتمَّه مع مرور عام على وفاتها، صوَّر في إحداها ساعة احتضار زوجته، وكيف أنَّها كانت تُوصيه على أبنائه وتطلب منه أن يكون كما عرفته صبوراً مُحتسباً الأجر في فراقها، ورُغم أنَّه كان وفيَّاً بكُلِّ وصاياها، إلاَّ أنَّه لم يستطع كبح مدامعه التي ترجمها في ديوانه، وراح يرثي زوجته في كل مكانٍ وزمانٍ، وظلَّ وفيَّاً لها يحجُّ عنها ويبرُّ بأبنائها ويستعيد بين الحين والحين (17) عاماً قضاها مع زوجته "زينب" التي تُوفيت بين يديه، والتي كان كثيراً ما يناديها بالترخيم فيحذف الحرف الأخير من اسمها ويدعوها "زين"، وهو بذلك غير بعيد عن معاصره الشاعر "طاهر أبو فاشا" الذي بكى زوجته "نزلي المهدي" في تسع قصائد قصيرة، استمر يرثي فيها زوجته طيلة سبع سنوات، فيما كان "أباظة" قد نظمها خلال السنة الأولى من فراق زوجته، ومن أروع ما قاله "أبو فاشا" في زوجته:

هكذا عيشنا لقاء قليلوفرق

من بعد ذاك يطول

البارحة يوم الخلايق..

وكان الشاعر النجديّ الفصيح "محمد بن بليهد" قد عبَّر عن صدق وفائه لزوجته التي تُوفيت منتصف القرن الهجري المُنصرم، فبكاها "ابن بليهد" بكاءً حاراً ورثاها بأروع وأجمل القصائد، التي تزامنت مع قصائد شعبيَّة لا تقلُّ عنها في الرَّوعة والجمال، كتلك التي رثى بها الشاعر "محمد بن مسلّم" زوجته في قوله:

البارحة يوم الخلايق نياما

بيَّحت من كثر البكا كل مكنون

وقصيدة نمر بن عدوان في زوجته وضحى السبيلة "حي الجواب وحي من به يعزين" و"ياونتي ونّت كثير الحسوفي"، ورُغم أنَّ الشاعر "إبراهيم الرديعان" في زمننا هذا يُعدُّ من أكثر وأغزر شعراء الساحة الشعبيَّة المُعاصرة رثاءً للزوجة، لا سيَّما وهو الذي بكى زوجته في قصائد طوال ورثاها بدمعه وقلمه، وهو يذكر كثيراً أنَّها لم تُغضبه يوماً أو ساعة طيلة سنوات حياتها معه، والتي تجاوزت ال (40) عاماً، كما رثى "بدر الحوفي" زوجته "الصوَّامة القوَّامة" مُصوِّراً ملازمتها لصلوات التهجُّد والضُّحى، ومُذكِّراً بحُسن خُلقها ومحبَّة النَّاس لها.

أأرحل أم ترحلين!

أمَّا الأديب الشاعر "عبد الله بن إدريس" فقد خاطب زوجته ورفيقه دربه "أُمّ عبدالعزيز" وهو على مشارف ال (90)، وقد نالت منهما الأسقام ما نالت، فراح يُخاطبُ سيّدة أمجاده وأُمُّ أولاده وهو يقول لها:

أأرحل قبلك أم ترحلين

وتَغرُبُ شَمْسي أمْ تَغرُبين

ويَنْبَتُّ ما بيننا من وجود

ونسلك درب الفراق الحزين

ويذبل ما شاقنا من ربيع

تؤرجه نفحة الياسمين

وتسكب سحب الأسى وابلاً

على مرقدٍ في الثرى مستكين

فإن كُنْتُ بادئ هذا الرحيل

فيا حزن رُوْحٍ براها الحنين

وإن كُنتِ من قد طواها المدى

فيا فجعة لفؤادي الطعين

لقد كُنتِ لي سعد هذا الوجود

ويا سعدنا بصلاح البنين

هُمُ الذخر دوماً بهذي الحياة

وهم كنزنا بامتداد السنين

سلكنا سويَّاً طريق الحياة

وإن شابها كدرٌ بعض حين

لقد كُنتُ نعم الرفيق الوفيّ

وأنتِ كذاك الرفيق الأمين

لك الحمد يا رب أن صغتها

خدينة دينٍ وعقلٍ رصين

تسابقني في اصطناع الجميل

وتغبطني في انثيال اليمين

فيا زخَّة من سحاب رهيف

ويا نفحة من سنا المتقين

حياتي بدونك حرٌّ وقرٌّ

وأنت على صدق ذا تشهدين

وينفض سامرنا موغلا

رحيلاً إلى أكرم الأكرمين

 

 


العلاقة الرومانسية بين الزوجين هي أجمل ما يبقى ليعيش الحب ويستمر

المصدر: جريدة الرياض
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 456 مشاهدة
نشرت فى 22 سبتمبر 2014 بواسطة MuhammadAshadaw

بحث

تسجيل الدخول

مالك المعرفه

MuhammadAshadaw
مكافحة اضرار المخدرات والتدخين ومقالات اسلامية وادبية وتاريخيه وعلمية »

عدد زيارات الموقع

938,730

المخدرات خطر ومواجهة

مازال تعاطي المخدرات والاتجار فيها من المشكلات الكبرى التي تجتاح العالم بصفة عامة والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وتعتبر مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل لما لها من آثار شنيعة على الفرد والأسرة والمجتمع باعتبارها آفة وخطراً يتحمل الجميع مسؤولية مكافحتها والحد من انتشارها ويجب التعاون على الجميع في مواجهتها والتصدي لها وآثارها المدمرة على الإنسانية والمجتمعات ليس على الوضع الأخلاقي والاقتصادي ولا على الأمن الاجتماعي والصحي فحسب بل لتأثيرها المباشر على عقل الإنسان فهي تفسد المزاج والتفكير في الفرد وتحدث فيه الدياثة والتعدي وغير ذلك من الفساد وتصده عن واجباته الدينية وعن ذكر الله والصلاة، وتسلب إرادته وقدراته البدنية والنفسية كعضو صالح في المجتمع فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله بل أشد حرمة من الخمر وأخبث شراً من جهة انها تفقد العقل وتفسد الأخلاق والدين وتتلف الأموال وتخل بالأمن وتشيع الفساد وتسحق الكرامة وتقضي على القيم وتزهق جوهر الشرف، ومن الظواهر السلبية لهذا الخطر المحدق أن المتعاطي للمخدرات ينتهي غالباً بالإدمان عليها واذا سلم المدمن من الموت لقاء جرعة زائدة أو تأثير للسموم ونحوها فإن المدمن يعيش ذليلاً بائساً مصاباً بالوهن وشحوب الوجه وضمور الجسم وضعف الاعصاب وفي هذا الصدد تؤكد الفحوص الطبية لملفات المدمنين العلاجية أو المرفقة في قضايا المقبوض عليهم التلازم بين داء فيروس الوباء الكبدي الخطر وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة بتعاطي المخدرات والادمان عليها.