يبدو أننا لن نهدأ ولن نستقر.

ولن نضع رحالنا، ولن نستريح.

فقد نويت أن أصحبكم فورا إلى رحلة أخرى.

لكنها هذه المرة: رحلة إلى الأعماق

فسوف ننزل سريعا من آفاق شهود حضرة الربوبية.

حتى نغوص معا في أعماق غامضة.

فمن الآفاق إلى الأعماق.

وهيا بنا نمضي.

من أنت؟؟!!

وماذا تريد؟؟

ولماذا أنت هنا؟؟

ومن أين أتيت وإلى أين تمضي؟؟

وما قيمتك في هذا الوجود؟؟

أعماقٌ من وراء أعماق.

وأمواجٌ متلاطمة من الأسئلة.

ومحاولاتٌ عبر التاريخ لتقديم أجوبة.

حتى توصل الإنسان في فترةٍ من تاريخه إلى تصور عجيب.

أتدري ما هو؟؟

تعال معي لنغوص إلى أعماق أبعد.

ولنرى.

لقد تصور الإنسان أنه السيد المطلق.

وأنه مركز الكون.

وأن الشمس والقمر والنجوم تدور حوله.

وأنه فوق المساءلة.

وغرق في تصورات غريبة بعيدة عن العلم، وعن العبودية والربانية والهداية.

وغاب عن فهم نفسه، ومعرفة حقيقته.

وامتلأ بالغرور والغطرسة.

وتاه في أعماق نفسه وهو يظن أنه يدري.

حتى تعرض لثلاثةٍ من الزلازل العنيفة.

هدمت معرفته بنفسه.

وتركته في حيرة شديدة.

جاء كوبر نيكوس بنظرية علمية صحيحة ناصعة.

وأثبت أن الأرض تدور حول الشمس.

وأن الأرض واحدة من توابعها.

وثارت العواصف، واحتدم الجدل، وحوكم كوبر نيكس.

ولكن العلم جرى في مجراه.

وبعد عقود وسنوات خضع الإنسان لسلطان العلم.

وعرف أن النظرية صحيحة.

ولكن انهدم في المقابل جزءٌ من الغرور الإنساني.

وتصاغر الإنسان أمام نفسه.

ورجع الإنسان بالتدريج إلى اقتناعه بحجمه الجديد الصغير.

فرضي بأن يكون سيدا للأرض فقط.

واقتنع بأنه أرقى كائناتها.

وبدأ يستعيد ثقته بنفسه.

فجاء تشارلز دارون بنظريته ليخبره بأنه ليس سيدا لكوكب الأرض.

بل إن بحثه الطويل في التاريخ الطبيعي أوصله إلى أن أصله قرد.

فهو ليس سيدا للكون، وليس سيدا لكوكب الأرض أيضا.

فثارت العواصف من جديد.

وعاش الإنسان عقودا أخرى وسنوات أخرى من الجدل.

وبدأ العقل الإنساني هناك يقتنع بحجمه الجديد الأصغر.

ويكتفي بأن يكون واحدا من السلالات المعتادة المألوفة.

ولكن يكفيه أن يطمئن في المقابل إلى أنه أرقى أجناس الأرض في شعوره، وإحساسه، وعواطفه.

وبدأ الإنسان يقتنع بهذا الحجم، ويستعيد ثقته بنفسه بالتدريج.

فجاء الزلزال الثالث.

لقد ذهب فرويد إلى أن هذا الإنسان ليس أرقى الأجناس شعورا ولا إحساسا.

وأن مشاعره وأحاسيسه هي خيال مريض، ممتليء بالعقد النفسية الكامنة في اللاوعي، وهي بقايا خيال جنسي مكبوت.

فتصاغر الإنسان أمام نفسه درجة أخرى.

وبعد أن كان يرى نفسه السيد المطلق لهذا الكون، صار يتصاغر أمام نفسه، وكل هذا في سياق تاريخي متشابك، بدأت تتعالى فيه فلسفات الموت: (موت الإله، موت المؤلف، ....الخ) حتى برزت فلسفة موت الإنسان، وتكلم فيها فلاسفة كبار مثل هيدجر، وميشيل فوكو وغيرهما.

وتحول الإنسان من إنسان إلى شيء.

وتحول إلى كائن استهلاكي.

فاندفع من طرف إلى طرف.

ومن سيد مطلق إلى شيء.

ومن حياة إلى موت.

والآن تعالوا يا أصدقائي لنرجع إلى العلو والسمو مرة أخرى.

وتعالوا لنرجع من الأعماق إلى الآفاق.

ونعالوا لنرتفع إلى آفاق الربانية مرة أخرى.

وتعال معي أيها الإنسان لتعرف من أنت على الحقيقة؟

أنت الذي خلقك الله في أحسن تقويم.

وأسجد لك الملائكة.

وشرفك بالعلم (وعلم آدم الأسماء كلها).

وجعلك خليفة في الأرض.

وجعلك سبحانه موضع خطابه، والمقصود بوحيه.

وأرسل لأجلك الأنبياء والرسل.

وأنزل لأجلك الكتب.

ونصب لك الموازين.

وجعل لأجلك جنة ونارا.

وصراطا وبعثا وحشرا وميزانا.

وزكى نفسك بمعرفته.

وأنار عقلك بهدايته.

وأحاطك بعنايته.

وأقامك في مقام العبودية له.

وأخذ عليك المواثيق بطاعته.

وكرَّمك وشرفك.

وحملك في البر والبحر.

وفضلك على كثيرٍ من خلقه.

وحفظك ورعاك وأحاطك بملائكته.

وأعلمك بأنك عبده.

خلقك بجوده وكرمه، وأسبغ عليك من رزقه وعطائه.

وأعلمك بأنه رقيب عليك.

مطلع على خفايا نفسك.

يحصي عليك أعمالك.

وبأنه أوجدك لحكمة.

وخلقك لغاية.

وكلفك بعبادته وذكره وشكره.

وأمرك بالسعي إليه، والتقرب لحضرته، والإهتداء بمعرفته.

وأخرجك من الظلمات إلى النور.

وسخر لك الأسباب والثروات والكنوز، وفتح لك آفاق العلم والمعرفة، وعلمك مناهج الفكر والتدبر والتأمل، حتى تعمر الأرض، وتصنع الحضارة، وتبني النهضة.

وأعلمك بأنك راجع إليه، وواقف بين يديه.

وأنك ستبعث بعد الموت للجزاء والحساب.

وأنه سيحاسبك على عملك كله.

وأنه رحيم بك، مقبل عليك، يلحظك بعين عنايته، وأنك غال عنده، محبوب لديه.

وإليك هذا الموقف النبوي الكريم، وهذه الكلمة المحمدية العجيبة، التي تساعدك على معرفة نفسك وحجمك وقيمتك ودورك:

جاء رجل من أهل البادية اسمه زاهر بن حِرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فداعبه النبي صلى الله عليه وسلم مرة بأن أمسكه وقال للناس: (من يشتري مني هذا العبد؟؟)، فقال الرجل: يا رسول الله!! إذن والله تجدني كاسدا، فانظروا كيف كان الجواب النبوي الذي يشرح للإنسان حقيقته، ويبين له دوره في الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: (أنت عند الله غال)!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!.

نعم، ما أعجبها من كلمة محمدية هادية، تصنع الإنسان على بصيرة، وتعرفه بقدره، وتغرس في نفسه الثقة واليقين، وتنزع من نفسه الكبر والجبروت، وتدفعه إلى الله.

(أنت عند الله غالٍ)، فانطلق يا صديقي في الحياة، وأنت موصول بربك، وقد عرفت قدرك عنده، وعرفت مقدار نعمته عليك.

(أنت عند الله غالٍ)، فتحرك وأنت تَسْبَحُ في آفاق شكره وذكره، وتعتز به، وتسعى إليه، حتى تمشي على الأرض وقد تزكت نفسك، وانفتحت آفاق عقلك، وتحررت من الضيق والقهر، ومن ظلمات الطبع والأكوان، فاستنارت روحك، واستوعَبْتَ الدنيا كلها فهما وبصيرة، ورحمة وهداية.

(أنت عند الله غالٍ)، فانطلق، وقد عرفت من أنت، ولماذا أنت هنا، وما الذي تصنعه في هذه الحياة، وقد سرت إلى نفسك الطمأنينة، وامتلأ جنانك بالثقة، وعرفت أنك عبدٌ لرب حكيم، يرعاك، ويتولاك، ويتولى هداك.

(أنت عند الله غالٍ)، فاخرج من ضيق نفسك إلى سعة ربك، حتى يزدهر بك العمران، وتتحقق بك قضية العبودية، وتتزكى نفسك، وقد أفلح من تزكى.

(أنت عند الله غالٍ)، وَحْي شريف، ونور منزل من الله، وبلاغ نبوي معصوم، يحقق إحياء الإنسان، ويصنعه من جديد، ويبصره بمراده، ويلخص له قضية الخلق والوجود.

(أنت عند الله غالٍ) فلا تتوقف عند لحظات ضيق أو قبض تعتريك، ولا تتوقف عند أحداث مؤسفة تمر عليك، واعلم أن من ورائك ربا قديرا، فثق به، واعتمد عليه، واستعن به، وافهم مراده، واقرأ كتابه، وعظم شعائره، واعتصم به، وأقبل عليه، وكن معه، واصدق في محبته فإنه يحبك.

(أنت عند الله غالٍ) شعار جليل، نجدد به حياتنا، ونملأ به فراغ نفوسنا، ونعرف به دورنا ومقصودنا، وتنطلق به ألسنتنا بين أصدقائنا، وننشره في الدنيا كلها، ونشرح به للإنسانية كلها قيمة الإنسان عندنا.

(أنت عند الله غالٍ) بيان محمدي شريف، يضع بين يديك مفاتيح الفهم والبصيرة.

وأترككم مع جلال الكلمة وآفاقها الرحبة الواسعة.

وألقاكم في رحلة أخرى قريبة.

 

المصدر: د. أسامة سيد الأزهرى
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 280 مشاهدة
نشرت فى 28 ديسمبر 2012 بواسطة MediaCharity

Media Charity

MediaCharity
مـيديا الخـير »

ابحث

تسجيل الدخول

تلفزيون مـيديا الخـير

سُنن يوم الجمعة المهجورة