مهنة صيد الأسماك قديمة قدم علاقة الإنسان بالبحر، وقد عرفتها الشعوب والأمم الغابرة، لارتباطها بمورد الرزق وحاجة الإنسان لديمومة عيشه. وزاول اللبنانيون مهنة الصيد عبر التاريخ، كغيرهم من الشعوب التي سكنت قرب الساحل، حيث كان القاطنون قرب المدن الساحلية يعتمدون عليها لكسب رزقهم، خصوصاً في طرابلس وصيدا وصور وجبيل. ومازالت هذه المهنة تشكل مورداً مالياً في إعالة الصيادين على رغم بدائية هذه المهنة، وعدم استعمال الأ دوات والتجهيزات الحديثة لصعوبة توافرها.
ارتفاع أسعار
مساحة قليلة من الكيلومترات على كورنيش البحر تغري المتعبين لإلقاء ما أمكن من الهموم، وممارسة رياضات العبث والهوايات وصيد السمك. وهنا تقيم مهنة واحدة على الرصيف وبين الصخور الذي له تاريخ وذكريات، يوم كان للصيد شرف المهنة، لكن اليوم ليس مثل الأمس، إذ تحول الصيد من هواية بريئة إلى فعل قتل، وتحول الصيادون إلى ميليشيا معادية للأسماك حاضراً ومستقبلاً، فقد حلّ الديناميت محل الصنانير والشباكوالسمك الطازج لم يكن حلماً يراود ذوي البطون الخاوية كما يحصل اليوم؛ لأنه كان متوافراً على الشواطئ بكثرة، أما الآن فالحال تبدلت؛ لأن الصياد لم يعد ذلك الإنسان المعوز الذي ينتظر الحظ على شكل «قمقم» مسحور، فقد أصبح تاجراً بكل معنى الكلمة، يرفع أسعاره اقتداء بـ»السيد الدولار»، أو تشبهاً به، ويحجب عن الزبائن بضاعته الطازجة، عملاً بمنطق السوق السوداء.
في يوم مضى، كان السمك فرحة للفقراء، لتناول وجبة دسمة، أما اليوم فطلقها أصحابها القدامى واقتصرت صداقتها على الأغنياء. فقد قفزت أسعار الكيلوجرام الواحد إلى مئات الليرات، بينما تتدهور ا لقدرة الشرائية لكثير من اللبنانيين. وأصاب «الديناميت» الثروة السمكية إصابة قاتلة، حيث انخفض حجم الإنتاج الوطني من 60 إلى 20 بالمائة، من حاجة الاستهلاك المحلي، وأدت انفجارات «الديناميت» إلى القضاء على بيوض الأسماك، وقضى أيضاً على الأعشاب المائية التي تغذيها.
أسرار البحر
الصياد رفيق الشيخ سعد، يصطاد السمك منذ سنة 1969، تحدث عن هوايته، فقال إن «لا أحد يستطيع كشف خبايا البحر وأسراره؛ لأنه عالم فريد من نوعه، ففي بعض الأحيان عندما يكون البحر هائجاً، تأكل السمكة الطعم أي أنها تعلق في الشباك (تسمى بلغة الصيادين النقرة)، وأحياناً أخرى ترى البحر مثل المرآة في نعومته وهدوئه، وعلى الرغم من ذلك لا تعلق السمكة في الصنارة».وعن وقت الصيد، قال إنه يقضي حوالي ست ساعات في صيد السمك، وأضاف: «أنا مضطر لذلك؛ لأن لديّ عائلة كبيرة، فلو فكرت يوماً بإطعامها أكلة سمك، لتطلب الأمر مبلغاً محترماً ثمن وجبة غداء واحدة لذلك اتكل على نفسي». وتحدث أحمد دوغان، وهو متزوج وله أربعة أولاد، عن هواية صيد السمك واصفاً إياها بـ»الإدمان». وقال: «اصطاد السمك بواسطة الشباك، وهي مهمة صعبة تتطلب الكثير من الرقة والعناية؛ لأننا في معظم الأحيا ن نصاب بخسارة فادحة، نتيجة تمزق الشباك. ونبحر في الليل على متن مركب الصيد ونرمي شباكنا في عمق البحر، ثم نعود في الصباح الباكر لسحب الشباك، وهكذا يوم لنا ويوم للبحر».
أما عن أنواع السمك، فقال إن أكثر الأصناف التي تعلق في الشباك هي: الجربيدي واللقز والفرافير. وأضاف: «كل أنواع الأسماك تباع حالياً بسعر مرتفع، فالفقير منا يشعر مع الآخرين، لكن بائع عدة الصيد لا يرحم بأسعاره الجنونية، فالشباك تباع بمبلغ مرتفع، والأنكى أنه في كثير من الأحيان نفقد الشباك عند هياج البحر، لهذا السبب وغيره أصيب بعض الصيادين بالسكتة القلبية».
تصنيع الشباك
علي عناني يملك «مسمكة» تبيع جميع أنواع الأسماك، وهو في هذه المهنة منذ 18 سنة، قال: «ورثت هذه (الهواية) عن والدي، وترعرعت على حب البحر منذ صغري حتى أدمنتها، وأصبحت لا أطيق فراقها، ففي أعماقه نكشف خبايا وأسرار العالم، إنه لغز كبير يصعب حل طلاسمه واكتشاف رموزه، فأسعد لحظات حياتي أقضيها مع الشباك وعدة الصيد، ومعظم البحارة أصبحوا رفاقي في هذه الهواية».
وقال الصياد سامر مصباح الذي مرّت عليه 40 سنة في ممارسة الصيد: «إن معظم الصيادين في الماضي خصوصاً في مدينتي صور وصيدا، كانوا يحوكون شباكهم، وصناعة الشبكة الواحدة كانت تستغرق وقتاً طويلاً. ونتيجة للتطور الحاصل، أصبح الصياد يستورد الشبكة، أو (المبطن) ثم يكمل تصنيعها بعد أن يضع عليها (الفلين)، والرصاص والحبال الرقيقة. وكنا نستورد هذه الشباك النصف مصنّعة من اليابان، بواسطة تجار يبيعونها للصيادين مباشرة»، لافتاً إلى أن الصياد يغيّر الشباك كل عام؛ لأنها تصاب بالتلف، وأحياناً تتلف قبل انتهاء السنة، وهذا يدل على مدى العذاب الذي يعانوه من أجل لقمة العيش. ويشير مصباح إلى تخوف الصيادين من الابتعاد في البحر بحثاً عن الأسماك، موضحاً أن الإسرائيليين يلاحقونهم وقد يقصفون قواربهم بحجة اختراق مياههم الإقليمية، مما يقلل من مساحة الصيد الخاصة بهم.
وسائل صيد السمك
أبسط وسائل صيد السمك، هي القصبة والخيط الحرير وصنارة يعلّق عليها الطعم، وقطعة فلين تبقى عائمة لتشير إلى وجود السمكة. ومن الوسائل المتطورة «الشرك»، وهي خيطان من النايلون، تعلق عمودياً بخيط طويل لا يقل عن 800 متر، عليه قطع من البلاستيك أو الفلين، ليطفو على وجه الماء، بينما تتدلى الخيطان تحت عمق ثلاثة أمتار تقريباً وبطرفها صنارة عليها طعم وقطعة من الرصاص تبقيها في العمق، لتك ون في متناول السمك.
ويعمد الصياد إلى تسليط ضوء مصباح على المياه، فيجتمع السمك الذي بهره الضوء فلا يتحرك، فيجرفه الصياد بواسطة الشباك في دائرة شعاعها 300 متر تقريباً، وعمقها حوالي الـ20 متراً، وهي تبدأ ليلاً وتنتهي صباحاً. وأخيراً هناك جاروفة البحر، وهي عبارة عن شباك يمتد إلى حوالي 500 متر، يسحب الحبل مجموعة من البحارة بقيادة «ريّس الفلك» حتى تصل إلى الشاطئ.
ساحة النقاش